حديث كثير عن عولمة الثقافة. وهو من الكثرة بحيث يكاد يحجب، لا أقول الوجه الخفي للظاهرة، وإنما ما يمكن أن نطلق عليه ارتدادات العولمة، وما يتمخض عنها من بروز لهويات ثقافية محلية تسعى إلى إثبات ذات جماعية دينية أو طائفية أو إثنية، بل وحتى لغوية، منغلقة على ذاتها. هذه الارتدادات هي أساساً ردود أفعال متفرقة تقوم ضد ما آلت إليه الثقافة من تنميط يسعى نحو توحيد الأذواق والميول، بله المشاعر والأحاسيس. ذلك أن الثقافة قد غدت بضاعة معولمة الإنتاج والاستهلاك، وأصبحت تُسوَّق عبر شبكات ووسائط يتحكم فيها مالكون محدودو العدد. وما الألفاظ الاقتصادية التي أصبحت وسيلة للتعبير عن الثقافيّ إلا دليل على ما غدا يسود هذا الميدان من تشيّؤ جعل الإبداع في مختلف أشكاله سلعة تنتج وتستهلك وتباع وتشترى أنّى كانت الأسواق وأين كانت «معامل» الإنتاج. لا غرابة إذاً في أن نتوحد، لا في مأكولاتنا ومشروباتنا، وإنما في أذواقنا وأحاسيسنا. لقد غدونا نأكل الأكلة ذاتها، وبالطريقة عينها، لكننا أصبحنا كذلك نفرح الفرح نفسه، ونحتفل الاحتفال ذاته، ونرفع الهتافات عينها. لقد حولت العولمة الثقافة إلى بضاعة منمطة لا وطن لها. إلا أن المفارقة أنها عملت في الوقت ذاته على إذكاء حدة «الخوصصة» (الخصخصة)، وخلق ارتدادات مغرقة في التفتت والتشتت. مقابل الكوني والشمولي، تؤكد هذه الارتدادات الجزئي والخصوصي. وأمام التنميط والتوحيد، ترفع شعار الاختلاف والتعدد، إلا أنه اختلاف يكاد يكون امبريقياً، هو نفسه الاختلاف الذي كان أبو الفكر الجدلي ينعته بالاختلاف الساذج، ويستبعده لإقامة اختلاف حقيقي. إنه اختلاف يتمثل وحدة الهوية كانسجام ويعرّف نفسه، تبعاً لذلك، كتباين بين وحدات منغلقة، أو على حد تعبير المفكر نفسه: «إنه اختلاف بين أطراف لا يبالي أحدها بالآخر». عيب هذا الاختلاف إذا هو يغفل الرابطة الجدلية. أطرافه لا تسعى نحو بعضها، وإنما تتبعثر خارج بعضها بعضاً. والحال أن الاختلاف لا يقوم إلا كاقتراب وانتقال، وسعي نحو الآخر، بله إقحام للآخر في الذات. نتفهم، والحالة هذه، عجز مختلف الصرخات التي تقوم ضد العولمة في المجال الثقافي. ذلك أن معظمها لم يرق إلى موقف يخرج عن مجرد رد الفعل، ولا يكتفي بأن يكون مجرد ارتداد، كي يغدو مجابهة لا تتباكى على الخصوصي، وإنما ترتقي إلى أن تجعل العالمية تمر عبر الخصوصية، وتقيم اختلافاً لا ينحل إلى تميز منغلق. * كاتب مغربي