لا يبدي الفرنسيون استجابة كبرى للخوض في الجدال الذي يدعو اليه القائمون على تسيير البلاد والمتعلق بمسألة تحديد الهوية والإجابة عن السؤال: ماذا يعني أن تكون فرنسياً اليوم؟ ليس خافياً على أحد منهم، ولا شك، أن الأمر يتعلق أساساً، ليس بتعيين الهوية ووصف سماتها، وإنما بتحديد «الآخر» وتطويقه. يعني السؤال بصريح العبارة: من الذي لا يمكنه أن «يتمتع» اليوم بالهوية الفرنسية حتى وإن توهم ذلك؟ وعلى أية حال فالعملية هي هي نفسها اذ لا يمكن تعريف الهوية الا بما ليست اياه. قد نتفهم هذه الاستجابة الباردة لتلك الدعوة من طرف المواطن الفرنسي العادي، ومن لدن المثقف على الخصوص. اذ يبدو أن الفرنسي مهما كانت درجة وعيه فإنه يملك تاريخاً سياسياً وفكرياً غير قصير بهذا الصدد. فنحن نعلم أن الفكر الفرنسي هو من طور أكثر من غيره، وبعد التراث الألماني المؤسس، التفكير في هذه المسألة. فقد عمل مفكرو الاختلاف وفلاسفة التفكيك على تأسيس نظرية عن الهوية في امكانها أن تستوعب الآخر، بل ليس في امكانها الا أن تستوعب الآخر. ذلك أن أصحاب التفكيك والقائلين بفكر الاختلاف لم يكونوا يدعون أساساً الى تفتيت الهوية والوصول إلى حد نعجز فيه عن كل ضم وتوحيد، ولا نستطيع عنده قول أنا أو نحن، ولم يكن هدفهم الوقوف عند التنوع الحسي ولا الاقتصار على الاختلاف الاختباري، لم يكن هدفهم نفي التجذر التاريخي، ولا إلغاء الشعور بالتمايز. كان مرماهم بالأولى إقامة تاريخ آخر لا «نتشبث فيه بإثبات نفس خالدة ترقد فينا، وإنما نتمكن من إحياء ما نحمله من أنفس فانية بين جنبينا». لقد حاول مفكرو الاختلاف والداعون الى التفكيك، وأغلبهم مفكرون فرنسيون، اقامة «نظرية» عن الهوية والاختلاف يغدو معها التفرد ضعيفاً أمام قوة التعدد، والتوحد ضيقاً أمام شساعة التنوع، والاقتصار على الأنا فقراً أمام غنى الآخر، والانطواء على الذات سداً أمام انفتاح الآفاق، والانغلاق على النفس حداً أمام لا نهائية الأبعاد الممكنة، والاستقرار عند مقام بعينه ضياعاً أمام رحابة التنقل، والاقتصار على الحاضر هزالاً أمام كثافة الزمن. فلم يكن الهدف اذاً تفتيت الهوية وإنما جعلها حركة وليس سكوناً، خطاً وليس نقطة، هجرة وليس عمارة، نسياناً وليس ذاكرة، تعدداً وليس وحدة، اختلافاً وليس تطابقاً. هذا المفهوم عن الهوية لا يمكن أن يظهر من حين لآخر تخوفاً امام «غزو» الآخر، ما دام يرمي بالأساس الى أن يصل المرء إلى حيث لا تبقى قيمة كبرى للجهر بالأنا وإشهار الهوية والوحدة مقابل التنوع الذي يكون عليه، وحيث لا يبقى معنى لطرح متواتر للسؤال: «ماذا يعني أن أكون «أنا» أنا؟ * كاتب مغربي.