شهدت نهضة الدراما التلفزيونية السورية خلال السنوات الأخيرة على صعيدي الوفرة الانتاجية ونوعية الأعمال المقدمة منذ عامين حماسة لدى الكتاب والمخرجين، لتحقيق أعمال تتناول حقباً مختلفة من تاريخ سورية الحديث أي تاريخ ما بعد الجلاء الفرنسي عن سورية عام 1946. انها مراحل غنية بالأحداث الكبرى والمصيرية سبق ان قرأنا تفاصيلها في مذكرات السياسيين القدامى وصحف تلك الأيام، ولكنها تأخذ على الشاشة الصغيرة شكلاً آخر ومذاقاً مختلفاً، وتستدعي من ثم نقاشاً شعبياً وثقافياً أوسع، خصوصاً وان هذه الأعمال تعرض في شهر رمضان، بما يشهده من متابعة كثيفة للبرامج التلفزيونية. وقد عرضت شاشة التلفزيون السوري هذا العام - ومعها بعض القنوات التلفزيونية العربية - نموذجين من هذه الأعمال، حيث شهدنا الجزئين الثانيين من مسلسلي "خان الحرير" للكاتب الروائي نهاد سيريس والمخرج هيثم حقي و"حمّام القيشاني" للكاتب دياب عيد والمخرج هاني الروماني. فالكاتب نهاد سيريس والمخرج هيثم حقي يعرضان في "خان الحرير" صورة الحياة السياسية والاجتماعية السورية في الفترة التي سبقت الوحدة مع مصر وصولاً الى اعلان الوحدة، ليتناول في الجزء الثاني مرحلة الوحدة كاملة وصولاً الى لحظة الانقلاب العسكري الذي أطاح الوحدة وأعاد سورية من جديد دولة مستقلة عن مصر. تجري أحداث المسلسل في مدينة حلب الشمالية، وبالذات في "خان الحرير" أحد أسواق حلب الرئيسة حيث يقدم المخرج من هناك صورة الحياة التجارية - ومن ثم السياسية - خلال سنوات الوحدة في نطاق مسارين يصعب الفصل بينهما: - مسار سياسي يتحرك أبطاله في خطوط مصالحهم وارتباطاتهم الاقتصادية، حيث يتواصل الصراع الذي بدأ في الجزء الأول، بين "السيد كمال"، التاجر والصناعي الكبير والتقليدي في الوقت نفسه، وبين "مراد" العائد من ايطاليا بشهادة هندسة النسيج والذي يقيم مصنعاً حديثاً، ويتطلع الى بناء علاقات اقتصادية وسياسية واجتماعية جديدة تشبه تلك التي عاشها في أوروبا - علاقات تقوم بالدرجة الأولى على الليبيرالية وتعايش الاتجاهات المختلفة، في سياقات فكرية تذكر الى حد بعيد بتيار السياسي السوري القديم خالد العظم. "مراد" الذي يتحمس للوحدة العربية - خصوصاً وان اسرائيل موجودة كما يقول في احد الحوارات - لا يخفي في الوقت ذاته شروطه التي يجب ان تتوافر في هذه الوحدة، والتي قالها بوضوح في ختام الجزء الأول من المسلسل: "انا مع الوحدة التي تحافظ على وجود سورية وتمايزها وفي الوقت نفسه مع الملكية الخاصة وحرية تشكيل الأحزاب والنظام البرلماني". وبين هذين القطبين الرئيسين ثمة أشخاص آخرون يلعبون أدواراً مهمة لعل أبرزهم "فضة"، الغجرية المغنية التي سبق ان تزوجت من الشاب "محسن" بعد قصة حب، يجهضها أبوه بالتعاون مع "السيد كمال" ليزوجاه من ابنة الأخير فيأخذ ولده من "فضة" ويسجله باسم زوجته الجديدة، فيما تبدأ "فضة" الغناء في ملاهي حلب الليلة تحت اسم جديد هو "هانوف السمراء"، فتجذب اليها الفعاليات الاقتصادية والأمنية في المدينة، وفي المقدمة "السيد كمال" الذي يعشقها ويشتري لها بيتاً وسيارة وكذلك النقيب "طارق"، رجل الأمن الذي يعمل في جهاز عبدالحميد السراج ويخوض حرباً مع الأحزاب السورية السرية، وحرباً اخرى مع "سيدنا"، الذي يمثل المشير عبدالحكيم عامر، وتستفيد من هذا الخلاف لتحقيق هدفها في استرجاع حبيبها وولدها، خصوصاً وان حكومة الوحدة قد أصدرت قرارات التأميم الشهيرة واستولت على مصنع "السيد كمال"، الذي يطلب تدخلها عند "سيدنا" لتأجيل سداد قرض بمليون دولار كان قد أخذه قبل التأميم من احد البنوك الأهلية، فتنجح في الحصول على فترة سماح من اجل سفر "السيد كمال" الى بيروت لاحضار المبلغ حيث يحقق ذلك، ولكنه يموت على الطريق في حادث سيارة قرب حلب بعد ان يكون قد حول المبلغ الى البنك المؤمم في مدينته، في الوقت الذي يكون فيه كبار التجار وأصحاب المصانع يجتمعون بحضور أحد الضباط لتحقيق هدف الانفصال، فتؤيد أغلبيتهم الانفصال النهائي عن الوحدة فيما يعلن "مراد" انه يؤيد حركة ما بهدف الضغط على جمال عبدالناصر من اجل اعادة التفاوض على شروط جديدة للوحدة، فينجح في كسب تأييد عدد من المجتمعين. - مسار درامي نتابع من خلاله جملة من العلاقات الانسانية لعل ما يعنينا منها، علاقة "مراد" بالعامل الشيوعي "المعلم ربيع" والذي يعمل في مصنعه ويمتلك مواهب تمكنه من تجميع آلة نسيج من قطع مستهلكة، ليلتقيا بعد ذلك في معتقلات عبدالحميد السراج وليتفاهما - بالرغم من خلافهما العقائدي - ولتنعقد بينهما صداقة متينة تقوم على الاحترام المتبادل كأن الكاتب يشير بذلك الى علاقة خالد العظم وخالد بكداش وبين هؤلاء، أحمد الذي يتحمس للوحدة - دون شروط - ليجد نفسه مسرّحاً من الجيش بقرار من حكومة الوحدة. يمثل "خان الحرير" محاولة جادة لاعادة تقديم التاريخ السياسي والاجتماعي مصوراً، ويفتح آفاق الحوار الساخن من حول القضايا التي اختلف بسببها الناس في تلك الأيام ولا يزالون على اختلافاتهم ووجهات نظرهم، في سياق درامي يقدم النماذج السياسية والاجتماعية من دون التقيد بحرفية انتمائها في الحياة، بل انطلاقاً من كونها شخصيات انسانية تحمل الى جانب انتماءاتها حضوراً انسانياً له تمايزه وملامحه الخاصة التي تحكم تصرفاته وردود أفعاله ازاء كل حدث من الأحداث الكبرى. يمكن الاشارة هنا الى شخصية "المعلم ربيع" الذي انتمى للحزب الشيوعي السوري واجبرته اجهزة عبدالحميد السراج على استنكار حزبه والتوقيع على ترك العمل السياسي من اجل الخروج من المعتقل. هذه الشخصية أثارت نقاشات واسعة بين المثقفين: هل أراد الكاتب والمخرج ادانة النهج السياسي الذي تمثله هذه الشخصية؟ من الواضح ان الكاتب والمخرج أرادا تقديم حالة انسانية أصيبت بالاحباط، ولم يقصدا ادانة أو تأييد نهج هذه الحالة السياسي، بدليل وجود شخصية أخرى من الاتجاه نفسه واجهت الاعتقال والتعذيب حتى الموت ولم توقع ولم تًستنكر ولم تخرج من المعتقل الا جثة للمقبرة. أهم ما يميز معالجة الكاتب نهاد سيريس والمخرج هيثم حقي للأحداث السياسية التي تناولها "خان الحرير" الحيادية التي جعلت المشاهد، يطل على المواقف الحقيقية للقوى السياسية المختلفة دون تزيين أو تشويه مسبق، فالأحداث تجري على الشاشة، كما جرت في الواقع، ولكن بصوت مسموع يصل الى كل بيت، ويدفع الى اعادة النظر في مسائل لها طابع التقديس الذي كثيراً ما يغض النظر عن النواقص والعثرات تحت شعارات شتى، يزيد من أهمية ذلك كله قدرة المخرج هيثم حقي على تقديم "روايته التلفزيونية" تلك في اطار فني رشيق من خلال لغة بصرية سينمائية لا تقوم على الابهار الخارجي باصطناع الجمالية، بل على الاستحواذ على ما يجعل المشهد جميلاً حقاً من خلال منحه أسباب التحقق الدرامي في الصورة المعبرة التي تخدم الدراما وتتقوى بها في الوقت ذاته. واحدة من أهم عوامل نجاح هذا العمل المتميز، كانت حسن توزيع الأدوار حيث يلمس المشاهد أداء ممتازاً لنخبة من الممثلين يصعب ان تحدد من كان منهم بطل العمل، كما رأينا في اداء كل من جمال سليمان، سليم صبري، أمل عرفة، نجاح العبدالله، فراس ابراهيم، سلوم حداد وفايز أبو دان مثلاً. اما الجزء الثاني من مسلسل "حمّام القيشاني"، للكاتب دياب عيد والمخرج هاني الروماني، فيتعرض للمرحلة الممتدة من 1947 وحتى أواخر 1951، وهي المرحلة التي شهدت احداثاً سياسية خطيرة، لعل أبرزها حرب فلسطين في 1948، ثم الانقلابات العسكرية الثلاثة التي بدأت بانقلاب حسني الزعيم عام 1949، مروراً بانقلاب سامي الحناوي واعدام الزعيم، وصولاً الى صعود العقيد أديب الشيشكلي الى قمة السلطة. بانوراما هذه المرحلة تضيء بالدرجة الأولى تأثيرات هزيمة عام 1948، ومواقف الأحزاب السورية المختلفة وبالذات حزب البعث، الحزب الشيوعي، الحزب السوري القومي الاجتماعي التي يقدم العمل شخصيات تمثلها وتتحدث من خلال أفكارها وشعاراتها. ضيق المساحة الزمنية التي تغطيها حلقات المسلسل، أتاح الفرصة أمام المؤلف والمخرج معاً لتقديم أحداث تلك الفترة في سياق درامي هضم تلك الأحداث، وجعل منها محطات في سياقه. هنا قد يبحث المشاهد عن الأسماء الحقيقية لشخصيات العمل، ولكنه سيكتشف ان المؤلف والمخرج قد صنعا هذه الشخصيات - على الصعيد الحياتي على الأقل - مصائر مغايرة لتلك التي قدرت لهم في الواقع، مع المحافظة على الأدوار السياسية التي لعبوها والتي تسمح بتقديمهم كممثلين لتيارات سياسية لعبت أدوارها على مسرح السياسة السورية والعربية، حيث تتوقف أحداث المسلسل عند صعود الشيشكلي من رئيس للأركان الى رأس للدولة من خلال انقلاب عسكري يطيح بآخر مظاهر الشكلية التي كان تضع العسكريين وراء ستار يحكمون ويتحكمون ويقيلون الحكومات ويعينونها. هذه الفترة التاريخية العاصفة من حياة سورية والمنطقة العربية، سبق وان قرأنا تفاصيل منها في كتاب باتريك سيل "الصراع على سورية"، وفي مذكرات بعض السياسيين السوريين الذين شاركوا بالعمل السياسي في تلك الأيام، ومع ذلك فإن عرضها على شاشة التلفزيون، وفي شهر رمضان بالذات يضعها في بؤرة الضوء، ويفتح من حول أحداثها نقاشات واسعة بين أولئك الذين عاشوها، وبين الأجيال الجديدة التي قرأت نتفاً يسيرة عن تلك المرحلة، وها هي تعايش أبطالها وهم يتحركون، ويصنعون أحداثهم أمام عيون المشاهدين. هذه المسألة تطرح سؤالاً مهماً حول الدراما السياسية والتاريخية: هل يمكن اعتبار هذه الدراما وثيقة تاريخية؟ وبمعنى آخر، هل تكون هذه الدراما بديلاً من كتب التاريخ؟ عن هذا السؤال المهم، يجيب كتّاب ومخرجو الأعمال التلفزيونية السياسية بالنفي، مؤكدين ان ما يقدمونه على الشاشة الصغيرة، هو شهادات شخصية عن أحداث جرت في الواقع، وهي بهذا المعنى يصح ان تكون وثائق فنية، تحاول تصور الحدث مقروءاً بوشائجه الشخصية، مع الإلتزام - طبعاً - بالحقائق التاريخية التي تظل ضرورة وأمانة. فالنقاشات السياسية في مسلسل "خان الحرير"، جاءت صورة عن نقاشات القوى السياسية والأفراد في مرحلة الوحدة، اما الأبطال فهم أبطال من نسج الدراما يعيدون تأهيل الأحداث السياسية لكي تأخذ مكانها على الشاشة في سحرية الفن وألقه. والشيء ذاته يمكن ذكره في الحديث عن "حمام القيشاني"، وان تميز "خان الحرير" بقوة اخراجية من خلال اعتماده أسلوب "الرواية التلفزيونية"، ومن خلال بحثه عن الجمالية الفنية من داخل المشهد الدرامي ذاته، مترفعاً عن الابهار المفتعل أو المشهدية المزركشة بالتزيين الخارجي. لقد خطت الدراما التلفزيونية السورية خطوة كبرى بتصديها للأحداث السياسية القريبة فأعادت نقاشات تلك الأحداث المصيرية، خصوصاً وان تلك الأحداث لا تزال معاصرة لم تجد أجوبة عن أسئلتها بعد.