على افتراض إمكان المقارنة بين حرب الخليج الثانية في 1991 والأزمة الحالية بين العراقوالولاياتالمتحدة، فإن هناك مجموعة عناصر يمكن إدخالها في المقارنة. ولعل موقف الرأي العام من استخدام القوة تجاه العراق من أهم العناصر التي ينبغي التوقف عندها بالدرس والتحليل بهدف المقارنة والاستخلاص. فالمؤكد في ضوء العديد من المؤشرات أن هناك تحولاً ملموساً في بنية الرأي العام العربي ومواقفه مقارنة بأزمة، أو بالأحرى، مأساة غزو الكويت وحرب الخليج الثانية. وتجدر الإشارة إلى بعض التحفظات المنهجية والعلمية حول مفهوم الرأي العام هذا، والتي تجعل الحديث عن وجوده وتأثيره مسألة صعبة ومعقدة. فبداية لا تتوافر الشروط الموضوعية لتشكيل رأي عام حر. فالديموقراطية، وحرية تداول المعلومات، وحقوق التعبير والتنظيم المستقل، علاوة على ضمانات الجدل والنقاش العلني تكاد تكون غائبة عن كثير من الأقطار العربية. وإذا ما توفر بعض هذه الشروط في دول عدة، فإن انتشار الأمية، وتدني الوعي، وغياب استطلاعات الرأي العام المحايدة تحول دون ظهور رأي عام عربي فضلاً عن قياسه في حال ظهوره. ويمكن القول إن الملاحظات والمشاهد العينية، بالاضافة الى بعض التحركات الشعبية وما يعكسه بعض وسائل الإعلام، تكشف عن تظاهرة حية ومؤثرة لرأي عام عربي تجاه حرب الخليج الثانية والأزمة العراقية -الاميركية الحالية. ومن الصحيح أننا لم نستطع قياس مواقف الرأي العام العربي أو التعرف على مدى رسوخه احصائياً أو توزيعه جغرافياً وبشرياً. إلا إننا أمام مظاهر وحقائق يمكن رصدها وتحليلها كيفياً في حدود كونها مظاهر وملاحظات معاشة وملموسة. في هذه الحدود بدا الرأي العام وكأنه يتعامل مع أزمة ممتدة بدأت مع غزو الكويت في 1990 وحتى اللحظة الراهنة، يتفاعل مع أطوار الأزمة وإشكالياتها بالرفض أو القبول، وأحياناً بالصمت، ولعل التطور المهم هنا هو اتجاه الرأي العام العربي منذ انتهاء العمليات العسكرية في 2 آذار مارس 1991، وحتى الأزمة الراهنة نحو درجة أكبر من الانسجام والالتقاء عند موقف محدد هو: عدم استخدام القوة العسكرية ضد العراق، واعتماد الطرق الديبلوماسية والتفاوض لحل مشاكل العراق مع لجنة التفتيش، وضرورة العمل على انهاء حال الحصار الدولي التي خلقت معاناة هائلة للشعب العراقي من دون ان تُلحق بنظام صدام حسين أضراراً واضحة. والمفارقة أن غالبية الرأي العام العربي كانت تقف عند نقيض هذا الاتفاق في كانون الثاني يناير 1992، أي استخدام القوة المسلحة ضد العراق لتحرير الكويت. على أن هذه الغالبية ظهرت على أرضية انقسام واستقطاب حاد بين مؤيد ومعارض، وفي مناخ من الحيرة والشك الذي عبّر عن نفسه في صور شعبية ورسمية شتى تستحق الدراسة والتأمل. فللمرة الاولى ربما في تاريخ العرب المعاصر، ينقسم العرب على أنفسهم كما حدث إبان غزو الكويت وحرب الخليج الثانية، ولا يتسع المجال للوقوف أمام العوامل الثقافية والتاريخية والسياسية والدعائية التي قد تفسر لنا مواقف التأييد للعراق المعتدي والتي ظهرت في صفوف قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، خصوصاً في الارض الفلسطينية المحتلة واليمن والمغرب. ما يحدث الآن من تفاعلات في موقف الرأي العام العربي هو نقيض ما حدث في أزمة الخليج في صيف 1990 وشتاء 1991، فالرأي العام العربي تخلص من حيرته وانقسامه ويبدو أكثر تماسكاً ووعياً بالمصالحة، ولا يعني ذلك التوحد أو الاتفاق الكامل على أسباب ومظاهر الأزمة الراهنة بين العراقوالولاياتالمتحدة، بل يعني فقط تبلور ووضوح المواقف من حيث فرز القضايا والاشكاليات، ووجود أغلبية كبيرة تقف الى جانب الموقف الحكومي العربي في عدم استخدام القوة ضد العراق، والاعتماد على الحلول الديبلوماسية، وضرورة رفع الحصار، والحفاظ على وحدة أراضي العراق مع التسليم ضمناً بمسؤولية النظام العراقي عن الدخول في مغامرات ضد شعبه. هكذا تخلص الرأي العام العربي تدريجياً وعبر ثماني سنوات من حيرته، وإنقساماته، بل يمكن القول بأنه صار أكثر عقلانية، خصوصاً في إدراكه للأطراف المسؤولة وعن استمرار معاناة الشعب العراقي، ثم - وهذا هو الأهم - في تمسكه بالحلول السياسية للأزمة الراهنة. والحالة الجديدة للرأي العام العربي نتاج طبيعي لمجموعة متغيرات تفاعلت ببطء خلال السنوات السابقة مع أحداث عربية ودولية شتى، ويمكن إجمال أهم هذه المتغيرات في: 1- الميل الثقافي العربي لمناصرة الضعيف، ومواجهة المعتدي، مع ملاحظة أن العراق كان هو المعتدي عام 1990. وأصبح في الأزمة الراهنة هو الطرف الضعيف الذي تفرض الثقافة العربية الإسلامية مناصرته والوقوف الى جانبه، خصوصاً أن الطرف المعتدي تجسده الولاياتالمتحدة التي عكس سلوكها في السنوات الثماني الماضية انحيازاً واضحاً تجاه اسرائيل، وتراجعاً غير مخطط عن مقولات النظام الدولي الجديد التي أطلقها الرئيس الاميركي السابق جورج بوش أثناء أزمة الخليج، ووجدت فيها بعض قطاعات الرأي العام العربي تجاوباً مع آمالها وطموحاتها في إلزام اسرائيل بقرارات الشرعية الدولية وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه. لكن عدم تنفيذ وعود النظام الدولي الجديد أكد الاستخدام المزدوج للقانون الدولي وللشرعية الدولية من قبل الولاياتالمتحدة والدول العربية. 2- إن الطرف الضعيف في المتغير السابق لم يكن في العراق الدولة، بل كان بالأساس العراق الشعب الذي عانى ويلات الحصار، بينما لم يتضرر النظام العراقي ومؤسساته القمعية. ولا شك أن نجاح الإعلام العربي - الدولي في نقل صور من معاناة الشعب العراقي ضاعف من مشاعر التعاطف الشعبي العربي تجاه الشعب العراقي، ودفع الرأي العام العربي إلى رفض تعرض العراق لضربة عسكرية جديدة تزيد من معاناته وبؤسه، ولعل زيارات الوفود الشعبية والمنظمات غير الحكومية الى العراق دعمت التقاء مشاعر التآخي والتعاطف مع محنة الشعب العراقي. والثابت أن النظام العربي لعب دوراً محدوداً في تحقيق هذا التعاطف، لكنه نجاح أقرب الى الفشل، إذ ظهر النظام العراقي وكأنه يستغل معاناة شعبه التي هو أحد أسباب وجودها. في هذا الصدد تجدر الإشارة الى رفض الوفد الشعبي المصري لقاء مسؤولين عراقيين أثناء زيارتهم العراق أخيراً... 3- إن فرز واستقرار القضايا المرتبطة بالأزمة العراقية وتطوراتها منذ 1990 وحتى اللحظة الراهنة ساعدا الرأي العام العربي على التخلص من حيرته وإدراك حقيقة القضايا المطروحة وفي سياقها الصحيح، وانفضحت شعارات "القدس عبر الكويت" وأوهام تقسيم الثروة العربية، واكاذيب "أم المعارك" وحرق مدن إسرائيل بالصواريخ العراقية. وظهر كثير من الحقائق عن توجهات النظام العراقي ومغامراته، وهي حقائق لم تكن غائبة، بل غابت بفعل الدعاية العراقية، واختلاط كثير من الأوراق الوطنية والقومية المدعومة بصور مغلوطة عن الآخر العربي. وأدى ظهور تلك الحقائق الى فضح الدعاية العراقية وإضعاف صدقية النظام العراقي بنظر الشارع العربي. وتضاعفت أزمة الثقة والصدقية خلال سنوات الأزمة، إذ تأكد عجز النظام العراقي عن التعامل مع الأوضاع العربية والإقليمية والدولية، فعبر التصعيد وسلسلة المواجهات مع مجلس الأمن والولاياتالمتحدة خرج خاسراً، كما استباحت تركيا شمال العراق، بينما واصل استبداده وطغيانه في الداخل الأمر الذي خلق صورة لنظام غير قادر على مواجهة التحديات الخارجية، لكنه قادر على البطش بمواطنيه. وهي مقارنة تؤكد انهيار صدقيته لدى الرأي العام العربي، بما في ذلك من مالوا الى تصديق دعايته العام 1991. 4- تمايز واختلاف السياسات الحكومية العربية تجاه العراق عن سياسة الولاياتالمتحدة في ما يتعلق بجدوى الحصار ومستقبل العراق ومخاطر اللجوء العسكري، وقد اتخذت هذه الاختلافات مظاهر ومسارات عدة منذ توقف العمليات العسكرية في حرب الخليج الثانية وحتى الأزمة، وعكست وسائل الإعلام العربية الرسمية وغير الرسمية مظاهر هذا الاختلاف، وأوضحت مخاطره على الأمن القومي العربي وأمن الخليج ووحدة العراق ومسار التسوية السلمية. في الوقت نفسه أتاح هذا الاختلاف فرص حرية أوسع أمام الإعلام العربي لتناول الأبعاد المختلفة للأزمة العراقية والآثار السلبية للسياسة الأميركية خصوصاً انفرادها باتخاذ القرار في عمل لجان التفتيش واستخدام القوة ضد العراق. ولا شك أن تميز مواقف السياسة العربية والإعلام العربي عن موقف السياسة الأميركية كان له تأثير واضح في تحول بنية الرأي العام العربي ومواقفه، ومن ثم استقباله وردود أفعاله على الخطاب السياسي والإعلامي الأميركي في الأزمة الأخيرة. 5- إدراك ووعي الرأي العام العربي لفداحة الآثار السلبية على الاقتصاديات العربية ليس فقط نتيجة حرب متوقعة على العراق، بل لاستمرار الأزمة العراقية وعدم التوصل الى حل سياسي لإنهائها. ويسود اعتقاد واسع لدى الرأي العام العربي بأن استمرار الأزمة يمثل استنزافاً متواصلاً للثروة العربية، في وقت تحتاج كل الدول العربية الى حشد مواردها الاقتصادية من أجل تحقيق التنمية والرفاهية لشعوبها. ويضاعف هذا الاعتقاد أن الكلفة الاقتصادية الهائلة لحرب الخليج الثانية ما تزال ماثلة في الذاكرة العربية، وبالتالي مؤثرة بقوة في تفاعلات الرأي العام العربي تجاه أطوار أزمة الخليج. يرتبط بذلك كله ما تحفل به المخيلة الشعبية العربية من روايات وأحداث تدّعي وجود مؤامرة غربية بقيادة الولاياتالمتحدة تستهدف الإبقاء على نظام صدام حسين لتخويف دول الخليج. ومع التسليم بضعف نظرية المؤامرة وعدم منطقيتها، فمن الثابت أن الخيال الشعبي بكل مكوناته له تأثير كبير في تشكيل الرأي العام العربي وتحديد مواقفه. من هنا نجد لنظرية المؤامرة تأثيراً كبيراً على الرأي العام العربي، خصوصا أنها تستجيب، بل ربما تعكس، تراثاً تاريخياً في العداء وسوء الفهم وعدم الثقة، منتشراً في الشارع العربي تجاه الغرب. هذه باختصار أهم المتغيرات التي أحدثت التحول في بنية الرأي العام العربي ومواقفه تجاه العراق، ودفعته نحو الانسجام والالتقاء الناضج على موقف عدم استخدام القوة ضده والعمل من خلال الوسائل الديبلوماسية والحوار لإنهاء الأزمة. غير أن الحالة الجديدة التي تقترب بالرأي العام العربي من درجة الاجماع ينبغي العمل على تجسيدها في الميدان السياسي وذلك من خلال النظر الى حالة الرأي العام العربي تجاه أزمة الخليج، من منظور تكاملي مع السياسات العربية الرسمية. بمعنى أن حالة الرأي العام العربي تمثل رصيداً من الدعم للحكومات العربية، وربما المساعدة في تطوير مواقف بعض هذه الحكومات. في هذا الإطار ينبغي تجنب أي نوع من الصدام بين الحكومات العربية والرأي العام، كما يعبر عن نفسه داخل كل قطر عربي. ولا شك أن تجنب الصدام مسؤولية مشتركة تتحملها القوة النشطة داخل صفوف الرأي العام، وكذلك الحكومات العربية، غير أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الحكومات التي عليها أن تدرك أن شرعيتها مستمدة من الرأي العام أولاً، وأن هناك فرصة متاحة أمامها لكي تثبت لمراكز اتخاذ القرار في الدول الغربية أن مُتخذ القرار في المنطقة العربية غير مطلق اليد في اتخاذ ما يراه، فثمة وجود للرأي العام ينبغي احترامه والالتزام بتوجهاته ومواقفه. ومن الواجب على الحكومات العربية التسامح مع بعض مظاهر وتجليات التعبير عن الرأي العام العربي تجاه الأزمة، طالما أنها تعبر عن نفسها بأشكال سلمية، كما أن عليها أيضا، مواصلة الجهود الديبلوماسية للتوصل الى حل سلمي، مع بلورة موقف عربي موحد يضغط في اتجاه تحقيق الحل السلمي. واعتقد أن تسييد النظرة التكاملية في الاستجابة لمواقف الرأي العام من شأنه تفويت الفرصة أمام النظام العراقي أو قوى التطرف والإرهاب لاستغلال حالة الرأي العام العربي لصالحها أو بث دعاية تقوم على التشكيك في المواقف الرسمية أو نشر الأكاذيب والأوهام.