في آخر اللحظات تراجعت الولاياتالمتحدة عن اهدافها وقدم العراق رسالة تؤكد السماح بعودة التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل. كان الوضع يومي الثاني والثالث عشر من الشهر يقترب من الانفجار الشامل، ولكن خلافاً في الادارة الاميركية على توجيه ضربة للعراق او عدم توجيه ضربة للعراق بعد الرسائل العراقية قد انتهى بقرار الرئيس الاميركي وبمساندة مستشار مجلس الأمن القومي بتوقيف أي عمل عسكري ضد العراق. ومع كل أزمة جديدة نجد مزيداً من المعاناة للشعب العراقي الذي يواجه الكارثة المتعلقة بحكم عسكري شديد القسوة وبحالة اقتصادية وعقابية نتجت عن مغامرات هذا الحكم العسكري. وفي كل ازمة وفي كل مواجهة خسر الشعب العراقي مزيداً من الحقوق. وفي كل حالة لم يكن مصير الشعب العراقي هو الامر الرئيسي لكل الفرقاء بدءاً بالرئيس العراقي وسياساته. ان امامنا اليوم مشهداً من أسوأ مشاهد العنف الداخلي حيث ان الهدف هو البقاء في السلطة دون النظر الى النتائج او الاثمان التي يدفعها الشعب العراقي. وفي الأزمة الاخىرة التي اغلق ملفها يوم الأحد 15/11/1998 اكدت الولاياتالمتحدة بما لا يقبل التردد انها وصلت الى طريق اللاعودة وانها في طريقها الى حل نهائي للمشكلة العراقية. بل ان هدوء الولاياتالمتحدة طوال المدة التي اوقف فيها العراق التعاون مع مجلس الأمن فسر على انه هدوء مدروس. لهذا عندما تحركت الولاياتالمتحدة للرد على تحدي العراق للقرارات الدولية اوضحت لحلفائها وأوضحت للدول المحيطة بالعراق بأن هذه هي آخر الازمات وان اميركا نفد صبرها وأنها لن تسمح لصدام بتحديها وانها تسعى باتجاه آفاق التغير في العراق. لهذا جاء التراجع المفاجئ ليثير ازمة صدقية بين دول الخليج من جهة وبين الادارة الاميركية. ان معظم التوجهات قد تتجه الآن للقول بأن فرصة الحملة العسكرية الحاسمة قد تكون قد ضعفت كثيراً مع الازمة الاخيرة. وفي هذا ساهم تردد الادارة الاميركية في مساعدة الرئيس العراقي على تحقيق تقدم في موقفه السياسي الذي يستند على البقاء في السلطة مهما كان الثمن. لقد جاء الحل الديبلوماسي منسجماً مع عقلية الرئيس كلينتون وطبيعة الحدود التي رسمها الرئيس كلينتون في الصراع حول العراق. في هذا يختلف الرئيس كلينتون عن غيره من الرؤساء، وهو ليس تواقاً لاستخدام القوة. ان معارضة الرئيس كلينتون للحرب واستخدام العنف قديمة جداً وتعود الى موقفه القديم ضد حرب فيتنام، ولكن استمرار احتواء العراق بالطريقة الراهنة يساهم في اثارة الازمات، وبالتالي سيجد الرئيس كلينتون نفسه اجلاً ام عاجلاً امام مواجهة جديدة. ولكن المرعب في الحالة العراقية ان التكتيك الذي يتبعه الرئيس صدام حسين ينطلق من السيطرة المطلقة على الشعب العراقي، وهذه السيطرة مرتبطة اولاً بالعقوبات التي تضمن ان كل ما يدخل ويخرج من العراق يتم اساساً عبر النظام. بل حتى الدواء والغذاء مقابل النفط يتم من خلال النظام العراقي ولا تقوم الأممالمتحدة بتوزيعه مباشرة كما كان مطروحاً في قرار سابق. فالى حد كبير يحكم العراق بواسطة الأممالمتحدة من خلال الرئيس العراقي. بل ان حدود العراق الدولية مكفولة دولياً ما يعني ان العراق ليس بحاجة للجيش القوي للدفاع عن الحدود. بل ان الجيش الذي يدافع عن الحدود او يتم الهاؤه بمغامرات النظام هو نفسه مصدر الانقلابات، وقد تم استبداله كمصدر قوة من خلال تقوية وتوسعة شبكة المخابرات. ان شبكة كبيرة من اجهزة الاستخبارات تقوم اليوم بحكم العراق وبالسيطرة الداخلية بطريقة اكثر فاعلية من أي فترة سابقة في تاريخ العراق. ان فكرة دعم المعارضة التي تحدث عنها الرئيس الاميركي عند نهاية الازمة مفيدة، ولكن لنتذكر ان هذا الامر جرب في السابق وان المخابرات المركزية الاميركية كانت في شمال العراق وان هذه العملية انتهت وسقطت عندما هاجمت القوات العراقية اربيل عام 1996، ولنتذكر ان سيطرة المخابرات المطلقة لن تعطي مجالاً للمعارضة. لهذا فبدون تغير حقيقي على الأرض فسوف يكون افق المعارضة العراقية محدوداً جداً. لكن هذا لا يمنع بل يجب ان لا يمنع المعارضة العراقية من الاستعداد من الآن للمرحلة المقبلة الأكثر حساسية. اما بخصوص اسلحة الدمار الشامل وهي موضوع فرق التفتيش العائدة الى بغداد فهي اساس الازمة المقبلة. فالمعروف اميركياً ان العراق اخفى برامجه، وانه منذ آب اغسطس الماضي اخفى مزيداً من الدلائل والأسلحة. ومن المعروف ان عودة "اونسكوم" ثانية الى العراق لن تؤدي الى نتائج سريعة، بل ان فرق التفتيش، وفق سكوت ريتر رئيس فرق التفتيش المستقيل، بحاجة لمدة تراوح من ثلاثة الى ستة اشهر اضافية للوصول الى النقطة التي كان التفتيش قد بلغها قبل قطع التعاون بين العراق والمفتشين في آب الماضي. وقد يقدم العراق بعض الوثائق وقد يقدم بعض المعلومات ولكنه لن يقدم كل شيء وستبقى الشكوك كبيرة. وسيسعى العراق الآن للعب المسألة بهدوء كبير بانتظار عودة القوات الاميركية مع عطلة اعياد الميلاد، وقد تحاول فرق التفتيش اثبات شيء او التأكد من وجود اسلحة، وسينتظر العراق في حالة عدم التوصل لنتائج للربع الأول من العام المقبل قبل اثارة ازمة جديدة حول العقوبات وحول الاسلحة وأمور تتعلق بوضع العراق. ان صدام حسين قد اخذ قراراً استراتيجياً بالحفاظ على اسلحة الدمار الشامل منذ البداية، وفي كل مناوراته كان هدفه المحافظة على الاسلحة. وفي الخيار بين العقوبات وبين اسلحة الدمار الشامل يختار الرئيس العراقي بلا تردد اسلحة الدمار الشامل وذلك انطلاقاً من اعتباره ان هذه الاسلحة هي دفاعه الأهم عن الدور الاقليمي الذي يأمل بلعبه بما في ذلك التوازن بينه وبين ايران ومحاولة استعادة دوره. ولكن السؤال هل وصلت الادارة الاميركية الى النتيجة التي وصل اليها كوفي انان حول صعوبة معرفة كل ما يتعلق بالبرامج العراقية وانه في الامكان وفق كوفي انان رفع العقوبات رغم عدم التأكد من تدمير كل الاسلحة؟ يمكن التأكيد ان الادارة الاميركية لا تزال حتى الآن مصرة ومعها العديد من الدول على ضرورة التأكد من اغلاق ملف الاسلحة قبل رفع العقوبات. وبما ان اغلاق ملف الاسلحة سيكون مستحيلاً لأن العراق لن يقبل به ثمناً لرفع العقوبات فستبقى مسألة السلاح قضية شائكة وستكون المدخل للأزمة المقبلة. ومن مصاعب الوضع الراهن ان منطقة الخليج تشعر بضيق كبير في حالة الازمات الدائمة التي يثيرها العراق في مواجهة فرق التفتيش. هذه الازمات تستنزف دول الخليج مالياً واقتصادياً وهي ازمات يزداد الرأي العام الخليجي ضيقاً منها. لهذا فان الموقف الخليجي الحقيقي هو اقرب للبحث عن صيغ تنهي كل الازمات، فان كانت الصيغة العسكرية ستؤمن حلاً للعراق ولشعبه فالكثير من الدول العربية ما كانت لتمانع هذا الاحتمال انطلاقاً من ان في ذلك أمل الخلاص للشعب العراقي من حكم سبب الكثير من الدمار للعراق وللمنطقة المحيطة بالعراق. ولكن غياب الحل العسكري وغياب الموقف الاميركي الحازم قد يؤدي بنفس الدول البحث عن طرق اخرى ديبلوماسية للتخلص من آفاق ازمات جديدة. ولكن السؤال الكبير الذي يلاحق المنطقة منذ عام 1990 هل الرئيس العراقي مهتم بشيء اقل من اثارة الازمات، وهل يستتب حكمه ونظامه بدون اثارة ازمات مفادها اضعاف الشعب العراقي واستنزاف المنطقة. اليس هذا ما قام به منذ عام 1981؟ وعلى رغم ضيق الاميركيين ايضاً بتحدي صدام الدائم لدورهم ولقيادتهم ومن افتعاله ازمات تساهم في ارباكهم الا ان الاتجاه للمواجهة مع صدام هو اتجاه واسع مدعوم شعبياً. ان معظم المؤسسة الرسمية وغير الرسمية الصحافية والاعلامية ترى في توجيه ضربة لنظام صدام امراً سيكون حتمياً في آخر الطريق، اما الذين لا يفضلون الخيارات العسكرية الراهنة فيرون في الضغط عليه ومحاصرته امراً يجب ان يستمر. صدام في النهاية ليس مطروحاً في الساحة الاميركية الا كعدو قاتلته الولاياتالمتحدة في حرب موسعة عام 1991 كما انه استمر في تحديها على اصعدة عديدة. لهذا فإن فكرة تأهيل صدام اميركياً صعبة جداً، وهي فكرة لم تساعد سياسات صدام على تقويتها، بل ان سياسات صدام ادت لمزيد من الرفض للنموذج الذي يمثله. ان الشعب العراقي لن يقوى على مواجهة النظام العراقي في ظل ظروف السيطرة الغير طبيعية القائمة الآن في العراق، ودول الخليج لن تستطيع ان تقف الى ما لانهاية في مواجهة ازمات دائمة. اما الولاياتالمتحدة فدعمها للمعارضة وسياستها البعيدة الأمد لمصلحة التغير في العراق تبقى سياسة بعيدة الأمد لا تؤكدها الشواهد التكتيكية والأوضاع الراهنة. في هذا كله حقق صدام حسين تقدماً في لعبته الخطيرة: البقاء في السلطة مهما كان الثمن وعلى حساب كل شيء في العراق. في كل ما حصل كان الشعب العراقي هو الخاسر الاكبر ومعه جانب من الصدقية الاميركية ومعه الشعور بالاستقرار في منطقة الخليج. ومع هذا لم تكن ولن تكون هذه الازمة خاتمة الازمات، اذ ستتجمع الاوراق تمهيداً لجولة مقبلة حول التعاون وحول الاسلحة وحول مستقبل العراق وسيبقى شبح المواجهة امراً ممكناً. * كاتب وأكاديمي كويتي، حالياً مدير المكتب الاعلامي الكويتي في واشنطن.