السجال الدائر حالياً في الاتحاد الأوروبي حول السياسة الاجتماعية والاقتصادية الأوروبية يعيد إلى الأذهان السجال الحاد لمعظم الثمانينات بين رئيس المفوضية الأوروبية السابق الاشتراكي الفرنسي جاك ديلور وزعيمة اليمين المحافظ مارغريت ثاتشر. ولكن هل ظروف اليسار الأوروبي للنجاح في التسعينات أفضل من الثمانينات؟ صحيح أنه لا يوجد ديلور الآن في المفوضية الأوروبية ليقود التيار الليبرالي في "معركة الأفكار" الراهنة داخل الاتحاد الأوروبي حول الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية في دول الاتحاد، إلا أن ديلور هذا استعيض عنه بزعيم اشتراكي عنيد يحتل أهم منصب سياسي في أوروبا هو وزير المال الألماني ورئيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي الحاكم أوسكار لافونتين، وبانتقال السلطة في معظم دول الاتحاد الأوروبي إلى حكومات يسارية، فالتغيير الأهم في أوروبا هو وجود حكومات تمثل تيار اليسار ويسار الوسط في 11 دولة أوروبية بينها أربع دول على الأقل من الوزن الثقيل: المانياوفرنسا ركيزتا الوحدة الأوروبية وبريطانيا وايطاليا. الوضع في أوروبا الآن يختلف عن أيام ثاتشر وحليفها "الايديولوجي" زعيم الحزب المسيحي الديموقراطي ومستشار المانيا السابق هيلموت كول الذي ما كان ليقربه من الرئيس الاشتراكي الفرنسي السابق فرنسوا ميتران غير إرث بلديهما التاريخي لتحقيق حلم الوحدة الأوروبي. "معركة الأفكار" هذه ليست ساحتها قاعات المفوضية الأوروبية فحسب، بل تدور رحاها في وقت واحد في إطار "حرب محلية" بين السياسيين داخل البلد الواحد، لا بل داخل الحكومة نفسها. وهذا واضح في حالة الحكومتين الألمانية برئاسة المستشار غيرهارد شرودر والبريطانية برئاسة توني بلير. الحكومتان جديدتان نسبياً ويتكون كل منهما من ائتلاف حزبي في المانيا أو الائتلاف بين تيارات في بريطانيا داخل الحزب الواحد. المعركة تتركز حول وثيقة جديدة بعنوان "الاستراتيجية الأوروبية للعمل" جرت مناقشتها في اجتماع موسع يوم الثلثاء الفائت لوزراء العمل لإحدى عشرة دولة تحكمها أحزاب يسارية. وطرحت هذه الوثيقة للمناقشة في أعقاب حملة يقودها "الأحمر أوسكار"، كما يحب اليمين الأوروبي تسميته، يدعو فيها إلى "التآلف" Harmonisation بين السياسات الضريبية في أوروبا. هذه الدعوة تلامس العصب الحساس لحكومات عدة، وخاصة بالنسبة للحكومة البريطانية التي يخوض رئيسها مواجهة مع مناوئي الوحدة الأوروبية في صفوف أحزاب المعارضة وداخل حزبه في آن. وكان هذا الموضوع مطروحاً للمناقشة في اجتماع وزراء المال والعمل لدول الاتحاد في اليوم نفسه، تمهيداً لرفع اقتراحات بهذا الخصوص إلى القمة الأوروبية التي تنعقد في فيينا في منتصف شهر كانون الأول ديسمبر الجاري. وتهدف الاستراتيجية المذكورة إلى وضع "ميثاق للعمالة" Pact for Employment مثل الميثاق الاجتماعي في عهد ديلور حيث تنبثق هيئة أوروبية تكون مسؤوليتها تحديد ظروف وساعات العمل في جميع دول الاتحاد الأوروبي. ولا شك أن البعض يرى في مثل هذا الميثاق أداة لتعزيز نفوذ الاتحادات النقابية - والتي هي أقوى في فرنساوالمانيا منها في بريطانيا - في آليات العمل الدستوري في دول الاتحاد من دون استثناء. وتقترح الوثيقة أيضاً رفع معدل الضريبة على الدخل من الفوائد على الاستثمارات المالية بهدف "تهريب" الاستثمارات من الأسواق المالية باتجاه الاستثمار في المجال الصناعي، وهذا يعني اجراء "انقلاب" بمعدل 180 درجة في السياسات التي كانت سائدة في أوروبا منذ مطلع الثمانينات. النقطة المركزية التي يدور الخلاف حولها الآن - والمرشح ان يستمر لفترة طويلة إلى أن يحسم الجل بشأنها داخل الحكومات نفسها - هي اقتراح لافونتين بالتآلف الضريبي، أو توحيد السياسة الضريبية في أوروبا على الشركات والأفراد في آن. ولأن بريطانيا ستكون الأكثر تضرراً في المدى القصير من جراء هذه السياسة، فإن حكومتها بدأت تطلق أصوات الاحتجاج والحديث عن استخدام سلاح "الفيتو" لقطع الطريق على تشريع مثل هذه السياسات. فمن بين المقترحات، على سبيل المثال، فرض ضريبة بمعدل 20 في المئة على عوائد كل مواطن أوروبي له حساب توفير في دولة أوروبية أخرى غير بلده. وهذا يعني مباشرة ضرب سوق السندات المالية الأوروبية Euro-bond Market في لندن في الصميم، هو الذي يجذب أكبر نسبة من الاستثمارات الأوروبية تهرباً من الضرائب المفروضة على عوائد هذا النوع من الاستثمارات في الدول الأوروبية الأخرى. والجانب الحساس الآخر من المقترحات في دعوة لافونتين "أخطر رجل في أوروبا"، حسب صحافة "التابلويد" في لندن، هو التآلف بين معدلات ضريبة الدخل في دول الاتحاد ورفع الدعم الحكومي عن المواد الغذائية وملبوسات الأطفال. معدل ضريبة الدخل في بريطانيا يعادل 9،35 في المئة، والمعدل الوسطي في الاتحاد الأوروبي يبلغ 45 في المئة. وفيما عدا البرتغال المعدل 9،33 في المئة واسبانيا 2،36 وايرلندا 1،34، فإن معدل الضريبة على الدخل يبلغ أقصاه في السويد 1،54 ويصل إلى أدناه 6،41 في المانيا. بالنسبة للافونتين، المدعوم على طول الخط من حكومة ليونيل جوسبان الاشتراكية، يبقى توحيد السياسات الضريبية في أوروبا مصدر الدخل الحيوي لتمويل سياسة العمالة الموحدة التي ما فتيء يساريو أوروبا يكافحون من أجلها. طبعاً هناك معارضون أقوياء لهذه النزعة التوحيدية داخل حكومات اليسار ويسار الوسط الأوروبية، وخاصة في المانياوبريطانيا حيث يسعى "البليريون" و"الشرودريون" - إذا صح التعبير - لصياغة "شراكة فكرية" بين بلير وشرودر لمواجهة تيار اليسار المتقدم الآن في مواقعه في "معركة الأفكار" في بروكسيل. وفي الوقت الذي كان فيه وزير المال البريطاني غوردن براون يواجه نظيره لافونتين يوم الثلثاء الماضي، كان وزير التجارة والصناعة البريطانية بيتر ماندلسون - أهم حليف لبلير في الحكومة - يتبادل الآراء مع مستشار شرودر الشخصي بودو هومباك في لندن حول الخطوط العريضة لوثيقة مشتركة تجمع ما بين أفكار "الطريق الثالث" Third Way لبلير و"الوسط الجديد" Neue Mitte لشرودر. النصف الأول من العام المقبل سيكون حافلاً بالإثارة حيث من المتوقع أن تزداد حدة السجال حول سياسة العمل والضريبة الأوروبية، لا سيما وأن رئاسة الاتحاد الأوروبي تنتقل من النمسا إلى المانيا في الأول من كانون الثاني يناير 1999 بالتزامن مع انطلاقة العمل الرسمي بنظام العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" في 11 دولة من الاتحاد بقيادة المانياوفرنسا. والتحدي أمام شرودر الآن هو قدرته على "ضبط" وزير ماليته الذي يتمتع بنفوذ واسع في الحزب الحاكم، حيث يعود الفضل إليه في إحياء الحزب منذ أن عيّن رئيساً له في 1995، وجعله حزباً قابلاً للفوز في الانتخابات بعد 16 سنة متواصلة من ضياعه في يمّ المعارضة المهمشة. وإذا فشل شرودر في ذلك، فهناك من يقول إن المستشار الألماني قد "يكافئ" لافونتين بترشيحه لمنصب رئيس المفوضية الأوروبية مثلما فعل ميتران مع ديلور عندما قرر التخلص منه قبل أن يسبب هذا الأخير المتاعب له. أما بالنسبة لبلير، فمعركته مختلفة إلى حد ما، لكنها ليست أقل خطراً على مستقبله السياسي. فبلير يواجه معارضة قوية من خصوم العمل الأوروبي المشترك Euro-sceptics الذين يقودهم الآن زعيم المعارضة المحافظة الضعيف ويليام هيغ. فإذا تمكنت هذه المعارضة من اللعب على عواطف الرأي العام البريطاني الذي رفض في نهاية العام الماضي فكرة الانضمام إلى نظام النقد الموحد "اليورو" ما دام الانضمام سيؤدي إلى "تشريع السياسة الضريبية لبريطانيا من بروكسيل"، فقد يجد بلير نفسه خارج الحكم في بلده وبعيداً عن التناغم السياسي بين دول الاتحاد الأوروبي. هكذا كان مصير سلفه المحافظ جون ميجور.