يتعرض وزير المالية الالماني اوسكار لافونتين حالياً لحملة عنيفة ينظمها أعداء الوحدة الاوروبية بتشجيع علني من دوائر يمين احزاب اوروبا المحافظة. وقد أخذت لها منحى بشعاً في الصحافة البريطانية بما في ذلك المطبوعات الرصينة مثل اليومية "دايلي تلغراف" و"التايمز" وشقيقتها الاسبوعية "صانداي تايمز" حتى مجلة "الايكونوميست" العريقة لعبت دوراً في الحملة بتصديرها الموضوع الالماني على غلاف عدد الاسبوع الفائت برسم كاريكاتيري ظهر فيه لافونتين الى جانب زعيم حزب الخضر الالماني وزير الخارجية جوشكا فيشر، وهو يقفز على ظهر المستشار الالماني غيرهارد شرودر تحت عنوان: "من هي الحكومة الالمانية الحقيقية؟". اما صحافة "التابلويد" فمنها من وضع عنواناً على الصفحة الاولى الى جانب صورة لافونتين يحذر من "اخطر رجل في اوروبا"، ومنها من استغل وصفه في الصحافة الالمانية ب "اوسكار الاحمر" وأعطاه صورة الوحش الذي يسعى لخطف لقمة الخبز من أفواه مسددي الضرائب في بريطانيا! ولكن اذا وضعت الامور في اطار منطقي، فإن لافونتين قد يكون في الوقت الراهن اقوى شخصية سياسية في اوروبا وفي المانيا في آن، ولهذا اسبابه بالطبع. فالرجل مسؤول عن السياسة المالية لثالث اكبر اقتصاد في العالم، ولاكبر اقتصاد في الاتحاد الاوروبي. مصدر قوته اذن من قوة الدولة التي يشارك في حكومتها والتي تقف، بسبب هذه القوة، على رأس ديناميكية العمل الاوروبي المشترك والموحد وتقود حركة التوحيد الاوروبية. والاهم من ذلك ان لافونتين رئيس الحزب الديموقراطي الاشتراكي الذي يدين له شرودر بمنصبه، وهو الذي رشح شرودر لزعامة الحزب أنه الشخصية الاكثر جذباً للجماهير بما يكفل فوز الحزب في الانتخابات امام زعيم الحزب الديموقراطي المسيحي الالماني المخضرم والمستشار السابق هيلموت كول. ويضاف الى ذلك ان الحزب كله مدين لاوسكار الاحمر لما بذله من جهود لاحياء الحزب وإعادة هيكلته قبل خمس سنوات ليصبح مؤهلاً لخوض انتخابات عامة بعد ستة عشر عاماً من العيش في غياهب الشتات والضياع. لافونتين سيبقى طوال فترة انشغاله في العمل العام شخصية مثيرة للجدل ليس في الصحافة البريطانية فحسب، بل بين صفوف اعضاء البرلمان الالماني وكوادر حزبه نفسه لوضوح آرائه بالنسبة للوحدة الاوروبية وسبل الارتقاء بالعمل الاوروبي المشترك الى مراحل متقدمة على أسس وقواعد تشريعية، ولو كان ذلك على حساب السيادات الوطنية لكل دولة على حدة. فبالاضافة الى لقب "اوسكار الاحمر" الذي اكتسبه لايمانه باعادة النظر بالسياسة الاجتماعية الاوروبية والمساواة بين اقطار الاتحاد الاوروبي في موضوع العدالة الاجتماعية، فهو يلقب ايضاً ب "نابليون الصغير". ويقول البعض انه اكتسب هذه الصفة لتشابه بنيته الجسدية مع بنية نابليون، وينسب بعض آخر ذلك الى فكر وثقافة لافونتين تبعاً لنشأته في بلاد السار السارلاند المجاورة لحدود فرنسا ولدراسته في معاهد الجزويت اليسوعية والفرنسية التأثير. هذه الثقافة والفكر واتقانه للفرنسية بطلاقة تزود منتقديه بذخيرة مستمرة للهجوم عليه، سواء من داخل الحزب او من خارجه. ويقول بعض هؤلاء ان لافونتين شخصية تميل الى تبني مواقف جازمة ودوغمائية من دون تمحيص كاف قبل الاعلان عنها. والتدليل على ما يمثله من ثقل في الميدان الاوروبي، فإن تصريحه الأخير بشأن مسألة توحيد، او تناسق، سياسات الضرائب بين دول الاتحاد الاوروبي على اساس مبدأ الاغلبية وليس الاجماع، احدث دوياً لا يزال صدى ارتجاجاته مسموعاً في مراكز صنع القرار الاوروبي. وقد ايده في ذلك نظيره ورفيقه الاشتراكي الفرنسي دومينيك شتراوس - كان الذي طالب بالغاء نظام التصويت بالاجماع على التشريعات الجديدة في الاتحاد الاوروبي بالنسبة لموضوع الضرائب، ودعم اشارة لافونتين الى امكانية حرمان بريطانيا حق استخدام الفيتو اذا اصرت على معارضتها. ولافونتين لفت انتباه الاعلام الالماني في اكثر من مناسبة في السابق جراء تميز شخصيته، لا سيما عندما كان عضواً في حكومة السارلاند المحلية في خضم الحرب الباردة. فقد طالب في ذلك الحين الولاياتالمتحدة سحب اسلحتها النووية من اراضي المانيا، واعتُبر ذلك آنذاك بأنه خروج عن المالوف ووجهت اليه تهم التعاطف مع الشيوعية. كما كان للافونتين موقفه الصريح بعد اعلان هيلموت كول عن اعادة توحيد الاراضي الالمانية، حيث اعتبر تلك الخطوة عاطفية وتوقع ان تكون "تكاليفها الاقتصادية باهظة ومرهقة". مناوئوه في السارلاند يتحدثون عن شخصية لافونتين من موقع التعايش السياسي والتجربة الشخصية معه. فزعيم الحزب المسيحي الديموقراطي في السارلاند بيتر مولر، على سيبل المثال، يقول ان لافونتين "ليس هو الشيطان الذي تعتقد الصحافة البريطانية بوجوده، ولكنه بالفعل يعتقد بقوة دائما بصوات رأيه. اوسكار ميكيافيللي من الدرجة الاولى يحب المكائد ويرى نفسه صانع الزعماء. انه يكره المساومة ولا يؤمن بغير سياسات القوة". الا ان قواعد الحزب الديموقراطي الاشتراكي تكن احتراماً لا حدود له لرئيس الحزب، ليس لجهوده في إحياء الحزب فحسب بل ايضاً لتضحية لافونتين بمنصب المستشارية وتفضيله شرودر على نفسه قبيل خوض الانتخابات الاخيرة. لافونتين بالنسبة لأعضاء الحزب "سياسي نموذجي" يضع مصلحة الحزب فوق مصالحه الشخصية. وكي لا يتراجع شرودر عن صفقته مع لافونتين، عقد هذا الاخير هو والمستشار الماني الجديد مؤتمراً صحافياً مشتركاً بعد اعلان كول مباشرة عن هزيمة حزبه في انتخابات 27 ايلول سبتمبر الماضي، تعهد فيه شرودر امام كاميرات الصحافيين بأنه سيعين لافونتين وزيراً للمالية في حكومته المقبلة، وذلك قبل ان يكلف تشكيل الحكومة رسمياً. الحكومة الالمانية لا تزال في الاسابيع الاولى من عمرها ومن الصعب التنبؤ الآن بمدى قدرتها على المحافظة على الانسجام بين تيارات الحزب المختلفة، وعلى الائتلاف الحكومي مع الاقلية البرلمانية من نواب حزب الخضر الذي يحتل فيه زعيمه فيشر منصب وزير الخارجية. شرودر لم يشر حتى الآن الى وجود اي سوء فهم مع وزير ماليته أو مع شريكه فيشر، لكن الاشهر المقبلة قد تؤدي الى خروج الخلافات إلى السطح لا سيما وان بعض المسؤولين في الحزب الديموقراطي الاشتراكي الحاكم بدأوا يسربون الى الصحف الالمانية اخباراً عن "المعوقات الجوهرية" التي تواجه شرودر والناجمة عن "الصدام الحتمي" بين تيار "المحدثين" - اي شرودر واتباعه - وتيار التقليدين المخلصين لمبادئ الحزب القائمة على العدالة الاجتماعية. صدام حتمي؟ ربما، ولكن ليس بالضرورة، اذ قد ينتهي الخلاف اذا ما وصل الى مرحلة حرجة بترشيح المستشار الالماني للافونتين لمنصب رئيس المفوضية الاوروبية خلفاً لجاك سانتير في العام 2000. وفي الوقت نفسه قد ينشب الخلاف بين شرودر وفيشر حول السياسة الخارجية لالمانيا في ضوء ماهو معروف عن مبادئ حزب الخضر أكان بالنسبة لحماية البيئة، او بالنسبة للقوة النووية ومستقبل منظمة حلف شمال الاطلسي ناتو. ولكن حتى تتضح معالم هذه الصورة في المستقبل، فإن لافونتين سيبقى على رأس القوة الهادرة والقائدة للتغيير في صلب سياستين اقليميتين جوهريتين هما: السياسة الاجتماعية المحافظة على مجتمع الرفاه، وسياسة العمالة معالجة البطالة. ومن موقعه كوزير مالية لاهم اقتصاد اوروبي، فإن لافونتين يرفض رفضاً قاطعاً الارثوذكسية النقدية السائدة في اوروبا منذ عقدين تقريباً يؤيده في ذلك اغلب وزراء مالية واقتصاد احدى عشرة دولة من اعضاء الاتحاد الاوروبي التي تديرها حكومات يسارية او من يسار الوسط. ويقود لافونتين حملة تدعو الى عودة تدخل الدولة في بعض مفارق الحياة الاقتصادية في اوروبا مثل تحديد مستوى سعر الصرف المتروك حالياً في دول الاتحاد الاوروبي المهمة لهيئات مستقلة تعمل في اطار البنوك المركزية لهذه الدول. ويؤمن لافونتين بأن التحولات الاقتصادية منذ مطلع عقد التسعينات المتجهة نحو التعولم بعد عقد ونصف العقد من السياسات النقدية القائمة على اقتصاديات السوق، جلبت معها الكثير من الثغرات الخطيرة وتزايد الهوة الاجتماعية بين فئات مجتمعات اوروبا المختلفة. دعوة لافونتين الاخيرة بتناسق السياسات الضريبية هي في احد جوانبها "اعلان حرب" على "المحدثين" في اوروبا الذين يقف في مقدمتهم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ووزير التجارة والصناعة البريطاني بيتر ماندلسون من بين زعماء "العمال الجدد". اوسكار الاحمر سيبقى قوة يحسب لها ألف حساب وسيتردد اسمه كثيراً، كذلك اسم فيشر، في الاشهر الستة الاولى من 1999 عندما تتبوأ بلاده رئاسة الاتحاد الاوروبي.