في بوتسدام بألمانيا التقى عشرات الرسميين الألمان والفرنسيين لمناقشة العلاقة الثنائية التي شكلت وتشكل المرتكز الأصلب للوحدة الأوروبية. اللقاء توزع على قصور تعود الى القرن الثامن عشر، شهد احدها المساجلة الفلسفية الشهيرة بين فولتير وفريدريك الاكبر. لكن الموضوع، هذه المرة، وهو ليس فلسفياً بطبيعة الحال، يخلو من مساحة التقاطع التي سبق لها ان جمعت الفيلسوف والحاكم الكبيرين. فالبلدان، على ما يبدو، مختلفان في ما خص الطاقة النووية والاستراتيجيات المتعلقة بانتاجها واستخدامها، والخطط المطروحة لصناعة السلاح قارياً بما يساعد الاوروبيين على منافسة الولاياتالمتحدة، ومطالبة المانيا بخفض مدفوعاتها للاتحاد الاوروبي مقابل رفض فرنسا القبول بأي خفض في المعونات التي يتلقاها القطاع الزراعي. وهذا التبايُن، إن لم يمكن تذليله، هدد المشروع الأوروبي، أو، على الأقل، أدى الى اعادة النظر فيه على نحو يأخذ في الاعتبار، بدرجة اكبر من السابق، مصالح الدول، دولةً دولةً، على حدة. ذاك ان شعور الأبوة حيال الوحدة الأوروبية، وهو الذي عصف بالادارة السابقة لهيلموت كول، لا يتملك الادارة الحالية للاشتراكيين الديموقراطيين ممن يجربون صيغةً أخرى يحملونها لأوروبا، أو ربما كانت صيغة أخرى يعملون على بلورتها. والحال ان الادارة الأخيرة تضرب في كل اتجاه. فما ان يهدأ السجال الألماني - الأميركي حول جواز الضربة الأولى من ضمن نطاق الأطلسي الناتو، حتى يبدأ سجال لافونتين، وزير المال، مع الادارات المصرفية التي يريد لمداولاتها وقراراتها ان تكون مكشوفة وقابلة للتدخل والتأثير الشعبيين. وقبل ان يهدأ السجال هذا يثير لافونتين اياه عاصفة في بريطانيا، اذ يطرح مسألة الضريبة الأوروبية الموحدة، مطلقاً لدى المحافظين البريطانيين عاصفة من الاستهجان، وعند العمال الجدد شعوراً عارماً بالحرج. وفيما تتولى صحف التابلويد البريطانية قيادة حملة وسخة لا ضد لافونتين وحده، بل ضد المانيا والالمان جميعاً، يتضح كم ان هؤلاء الأخيرين منخرطون في تجاربهم واحتمالاتهم. فالكلام شائع على توازنات القوى الرجراجة بين شرودر ولافونتين ضمن الائتلاف الحكومي وداخل الحزب الاشتراكي الديموقراطي. وكلما قيل ان الاول جزء من جبهة "اشتراكية" تضمه الى رئيس الحكومة البريطاني توني بلير ووزيره بيتر مندلسون، قيل ان الثاني جزء من جبهة "اشتراكية" أخرى تضمه الى رئيس الحكومة الايطالي ماسيمو داليما وربما رئيس الحكومة الفرنسي ليونيل جوسبان. واذا كانت مسألة الاشتراكية تنمّ اليوم عن حيوية يجعلها الألمان، لا سيما لافونتين، حارة وملحة، فإن تعريف الاشتراكية، في ضوء التجارب والسجالات هذه، يبدو اشد حرارة والحاحاً. وفي الاحوال كافة يبقى ان الاشتراكيين الالمان ممن يذكّرون برفاقهم الفرنسيين بعيد وصولهم للمرة الاولى الى السلطة مطالع الثمانينات، هم شياطين اوروبا. بيد ان شيطنة الفرنسيين، مع ميتران الاول، ترافقت مع الريغانية والثاتشرية في اوج صعودهما، في حين ان الشيطنة الالمانية تترافق الآن مع محو آثار الريغانية والثاتشرية على نطاق واسع.