كان ذلك قبل رحيله بعام وربع العام. بدا على ستالين انه فقد صوابه كليا. صار وحيدا على سدة الحكم، لم يعد يثق في اي انسان، اقرب مساعديه ابعدوا او سجنوا او قتلوا. والباقون يرتعدون فرقاً لا يعرف الواحد منهم كيف تكون نهايته. بيريا انتهى، مالنكوف هبة باردة وهبة ساخنة. وبقية اعضاء الحكومة والمكتب السياسي للحزب محتارون، يتساءلون: متى يحل بالواحد منهم غضب سيد الكرملين. وسيد الكرملين هذا كان يرى مؤامرات ضده في كل مكان. وفي كل مرة يلمح فيها اثراً لمؤامرة تكون النتيجة ايداع المئات في السجون. وغضب "ابي الشعب الصغير" كان يطال، اكثر ما يطال، المثقفين. من هنا لم يكن غريباً ان يذكر تقرير نشر في مثل هذا اليوم من شهر كانون الأول ديسمبر 1951، وهو تقرير سرب الى الغرب، وسوف يعتمد عليه خروتشيف كثيراً في تقريره الشهير أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، ان اكثر من 12 مليون شخص، بين امرأة ورجل، يقبعون اليوم - اي في ذلك الحين - في الغولاغ وان من بين اولئك الوف المثقفين الذين كانت جريمتهم الوحيدة انهم لا يفكرون كما يفكر ستالين. وكان كل يوم جديد يحمل الى معسكرات الاعتقال وأماكن العمل الشاق، ضحايا جددا يعدون بالمئات وبالألوف. وكان الكثيرون منهم - كما اشار التقرير - يموتون بالأوبئة او بسبب سوء التغذية او من جراء الارهاق. ولقد بلغ عدد المعتقلين - ودائماً حسب التقرير - من الضخامة بحيث ان السلطات توقفت عن احصائهم. وكان من بينهم حينذاك شاب يدعى الكسندر سولجنتسين، سيصبح بعد عقدين من الزمن واحداً من أشهر كتاب الاتحاد السوفياتي، وسيصف ذلك كله بالتفصيل، في كتبه وسينال جائزة نوبل للآداب، ويشهد انفراط الاتحاد السوفياتي قبل ان يتحول هنا الى قومي متطرف. في ذلك الحين كان سولجنتسين لا يزال يسارياً ثورياً يعتبر ان ستالين انحرف عن خط الماركسية الصحيحة. وكذلك كان يرى - على اي حال - العديد من المفكرين وأعيان النظام، ومن بينهم اثنان لم يطالهما القمع شخصياً في ذلك الحين، ولكن من الواضح انهما بدآ باكراً في الاعداد لمرحلة ما - بعد - الكارثة. وهما بولغانين وخروتشيف اللذان، سيخلفان ستالين بعد رحيله، وسيعمل ثانيهما على فضح كل ما كان يحدث في تلك الأيام العصيبة في تقريره الشهير. ويروى ان بولغانين، وهو كان واحداً من اقدم وأخلص اصدقاء ستالين، أسرّ في تلك الأيام الى خروتشيف قائلاً: "قد يحدث لك ان تصل الى مائدة ستالين وأنت صديق له، لكنك لن تعرف ابدا ما اذا كان سيقيض لك ان تترك الطاولة وتصل حراً الى بيتك، ام انك ستدعى الى نزهة تقودك مباشرة الى سجن من السجون". والحقيقة ان بولغانين لم يكن مغالياً في قوله ذاك. وما حدث لسولجنتسين يؤكد ذلك الوضع العشوائي، فالرجل كان من ابطال الحرب العالمية الثانية وكان من المؤمنين بستالين ايماناً اعمى، لكنه ذات يوم سئم وغضب خط رسالة بعث بها الى ضابط صديق له، وفيها شيء من الانتقاد الخفيف لممارسات ستالين. والنتيجة عثرت الشرطة السرية على الرسالة، وأودع سولجنتسين السجن، الذي كان مضى عليه ست سنوات وهو فيه، حين صدر التقرير المشار اليه. وايفي مولوتوف زوجة وزير الخارجية اعتقلت لأنها تهامست بضع عبارات مع غولدا مائير التي كانت في ذلك الحين اول سفيرة لاسرائيل في موسكو. والى هذين كانت "الغولاغ" تمتلئ بالجنرالات وكبار موظفي السلطة. وبأصدقاء ستالين السابقين وبزوجات "اعداء الشعب" اضافة الى مجرمي الحق العام. صحيح ان عددا لا بأس به من المعتقلين كان هناك بناء على محاكمات وأحكام بالسجن لمدد محددة، ولكن الحقيقة ان أياً منهم لم يكن واثقا انه سيجد نفسه مطلق السراح بعد ان يمضي الفترة التي حكم بها. بل ان معظمهم كانوا من بعد فترة الاعتقال الرسمية، يرسلون الى معسكرات يحشدون فيها من اجل "اعادة تأهيلهم" والعمل في مشاريع الدولة الكبرى والمنشآت الصناعية. كل هذا ذكره التقرير الذي تسرب في ذلك اليوم، والذي حتى وإن كان انتشر فان الكثيرين لم يصدقوا ما جاء فيه واعتبروه من قبيل "الدعاية الامبريالية المعادية للثورة ولدولة الاشتراكية الأم"، حتى جاء جروتشيف بعد رحيل ستالين، بتقريره الشهير وتحدث عما كان يجري، عند ذلك كانت المفاجأة الكبرى والمرارة الأكبر. في الصورة: مشهد من الغولاغ.