غيره من المنشقين كانوا اكثر حظاً منه، فهم عاشوا داخل «الاتحاد السوفياتي» او خارجه، زمناً مكّنهم من ان يثأروا، اذ رأوا بأم أعينهم نهاية نظام اعتبر ظالماً في حقهم اكثر من ظلمه أي طرف آخر. اما هو، فارلام شالاموف فقد كان قدره ان يموت في العام 1982، قبل مجيء غورباتشوف، حافر قبر المنظومة الاشتراكية، بسنوات قليلة. وهكذا، حين رحل شالاموف وهو في الخامسة والسبعين، كان لا يلعن، إلا في سره، نظاماً قصف احلى وأغنى سنوات عمره، اذ ارسله الى «كوليما»، ليمضي فيها سبعة عشر عاماً كاملة، بين 1929 و1953 بتهمة «التمرد والتروتسكية». ومن يعرف التواريخ جيداً، يدرك بسرعة ان منفى شالاموف وعذابه، المتقطعين على اية حال، داما بين العام الذي استتبّت فيه السلطة لستالين، في موسكو، حزباً ودولة ومخابرات تماماً، والعام الذي مات فيه «ابو الشعب الصغير» للمرة الاولى - وسيميته خروتشيف مرة ثانية في تقريره العام 1956، ثم غورباتشيف مرة ثالثة في نسفه أسس النظام اواخر التسعينات من القرن العشرين، قبل ان يعود ايتام الستالينية من عجائز موسكو لإحيائه صوراً وشعارات من جديد، لكن هذه حكاية اخرى. الحكاية هنا هي حكاية هذا الكاتب السوفياتي الذي خلد سنوات منفاه و «الغولاغ» الذي عاشه في كتاب عرف رواجاً كبيراً خلال الربع الاخير من القرن العشرين، وساهم مثل اعمال ادباء وكتاب آخرين، في كشف ما كان يحدث حقاً في «وطن الاشتراكية الكبير»، حين كان «خادعون ومخدوعون» في طول العالم وعرضه - وفق تعبير سولجنتسين - يتبارون في امتداح ستالين، والالتفاف من حوله. وما كان يحدث حقاً، حتى وإن كان من الصعب مقارنته - كما حلا للكثر ان يفعلوا - بما فعله هتلر، ما كان يحدث حقاً خلال الحقبة الستالينية كان رهيباً بالفعل. والأرهب منه ان ضمائر كثيرة في العالم سكتت عنه لفترة من الزمن طويلة. الكتاب الذي اصدره شالاموف بعد انتهاء جلجلته عنوانه «حكايات كوليما». ويضم الكتاب حكايات ومقاطع قصيرة كان شالاموف اعتاد تدوينها على ما يتيسر له من ورق، خلال سنوات وحدته وعذابه ومنفاه الطويلة. ولكن ما هي كوليما هذه؟ هي شبه جزيرة، تقع عند اقصى حدود سيبيريا، شرقي ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي، يصفها نزلاؤها بأنها تقع على هامش اللامكان. ونزلاء كوليما هم غالباً من المنفيين السياسيين مخلوطين بمحكومي حق عام ومجرمين آخرين. وهذا ما يجعل من كوليما، وعلى الاقل وفق وصف شالاموف «غولاغ» يتحول فيه الانسان الى نبات وسط بيئة معدنية. وفي العادة، كان معروفاً ان أي امرئ يذهب الى الغولاغ... وبخاصة الى كوليما، لا يعود ابداً. لكن شالاموف حدث له، وبصورة شبه استثنائية، ان عاد. وهو عاد ليعيش كوليما في ذاكرته الى الابد. ويقول بخاصة ان ذلك المكان الذي يبدو كل شيء فيه عائماً، يحدث للإنسان ألا يعرف ابداً، حتى لون عيني انسان آخر يلتقي به. والمرء هناك، عاد أو لم يعد، سيصبح شيئاً آخر تماماً. وهذا الامّساخ الذي لا مفر منه، يقول لنا شالاموف، كان هو ما جعله يعيش حتى بعد عودته وحيداً، اذ حتى زوجته تركته وابنته انكرته. وهكذا تواصل غولاغه حتى نهاية حياته. وكوليما، بعدما كان عاش فيها، صارت هي عائشة فيه. فما الذي آلى اليه مصيره؟ ببساطة، خلال سنواته الاخيرة وفي وقت كان الناس يقرأون «حكايات كوليما» ويرتعبون، كان هو قد اصبح أصم ابكم لينتهي امره في مستشفى للأمراض النفسية، عاجزاً حتى عن قراءة تلك النصوص القصيرة والحكايات والعبارات المأثورة التي تشكل متن هذا الكتاب وتمتد على ما يقارب الألف وخسمئة صفحة. منذ البداية يخبرنا شالاموف انه لم يكن ابداً راغباً في رواية ما حدث. «فما حدث هو اصعب من الكلمات وأقوى منها». لقد كان هدفه ان ينتج فقط كلمات تكون كل واحدة منها كفناً لكل ميت سقط في كوليما... وفي كوليما هذه - كما يقول شالاموف - سقط موتى كثيرون «لكنهم، يستطرد، لم يسقطوا من طريق حل نهائي جماعي على الطريقة التي مارسها هتلر ونازيّوه واتبعوها، ولكنهم ماتوا متساقطين هكذا كالقمامة، كالنفايات، كرواسب لفظها النظام السوفياتي». والمدهش ان اللفظ هذا، اتى تباعاً، ومتسارعاً الى درجة ان ما من عائلة «حرمت» من افضال ستالين في هذا المجال: في البداية كان هناك المخربون... ومن بعدهم جاء دور الكولاك، ثم حل دور التروتسكيين. «واذ اجهز القمع على هؤلاء، راح يطاول من بعدهم كل من يحمل اسماً له رنّة ألمانية». لكن الادهى من هذا، وهو ما يصوّره شالاموف بقوة وبمرارة تغرق في التفاصيل، هو ان «الشعب كله بدا لا مبالياً بمن ينفى او يموت... كانت هناك لا مبالاة عامة... بدت قاتلة، اكثر مما بدا الطغاة قاتلين احياناً». ولأن شالاموف كان يعرف ان ليس ثمة مقاومة تجدي مع مثل ذلك الوضع، كان واضحاً ان كتابته لم تكن فعل مقاومة، ولا فعل ادانة... ولا حتى لكي يشهد امام التاريخ. كان يكتب فقط على ايقاع دقات قلبه ولئلا تموت ذاكرته. كان يكتب كمن يرى في كتابته نشوة لا اهمية لها بعد انقضائها. ولنلاحظ في هذه الكتابة ان الافعال فيها قليلة، لا تتعدى «نام» و «أكل» و «تقيأ» و «سقط» و «مات». حتى افعال مثل «قال» و «سأل» و «أجاب» تبدو نادرة. اما افعال مثل «أحب» و «كره» و «تأمل» و «انتظر» فلا وجود لها على الاطلاق. وإضافة الى هذا تكثر في النصوص، على كثرتها علامات النفي. فمثلاً حين يتحدث نصّ عن ضوء ما، يتبعه ب «آت من حيث لا اعرف أين». وحين يتحدث عن صوت ما يقول: «طلع الصوت لكنني قبل ان اسمعه اختفى». وحين يتحدث عن ذكريات كان يمكن ان تعيده الى ماضيه وتعينه على العيش، يتعثّر في العثور على اية ذكريات تبقى في ذهنه. انه اللا-إنسان في اللا-مكان. او الانسان وقد صار في اللا-عالم او العالم-المضاد (وهما، يلفتنا شالاموف، غير العالم الآخر الذي قد يصبح الوصول اليه أمنية في بعض الاحيان). ولعل الكلمة الاكثر وروداً في النصوص هي صفة «فارغ»: ثلاثة اسرّة فارغة - فناء فارغ - ساحة فارغة - غابة فارغة - مساء فارغ... الى آخره. وأما بالنسبة الى وجوه الناس فإنها، وبسرعة عجيبة تصبح مملوءة بالتجاعيد، «هذه التجاعيد هي الشيء الوحيد الذي ينمو هنا ويتبدل...». اذاً عبر مئات الصفحات يكتب فارلام شالاموف العبارات نفسها والكلمات نفسها... ويكاد يبدو على رغم وجود مئات الحكايات الصغيرة، مندمجة في عشرات الحكايات الطويلة، ان لا شيء يحدث هنا... ثم لا شيء بالتالي يحدث «هناك» بعد ذلك، حين يتاح للكاتب المنفي ان يبارح شبه الجزيرة ليعود الى مدينته. واللافت ان هذه العودة لا تتزامن مع أي فرح، او أي حماسة. فإذا كان العائد نجا على عكس كثر من رفاق منفاه وسجنه، واضح ان شيئاً في داخله قد مات وانقبر الى الابد... على الطريقة نفسها التي مات وانقبر بها رفاقه والقلة الذين التقاهم في ذلك الخلاء الفسيح الفارغ. واضح ان الفراغ انتقل الى داخل فارلام شالاموف (1907-1982)... ولكن، ليس طبعاً الى قلمه ولا الى اوراقه التي راحت تمتلئ على الوتيرة نفسها التي ملأت بها التجاعيد وجهه... والفراغ روحه. فكانت النتيجة واحداً من اقوى النصوص التي تحدثت عن تلك المرحلة المستعصية، على اية حال، عن الفهم. [email protected]