«في ما مضى، زعم القياصرة الروس انهم يمتلكون كل ما في إمبراطوريتهم، بما في ذلك البشر. نزولاً عند رغبة القيصر، كان يتم نفي الكثيرين إلى سيبيريا، أو إرغامهم على العمل بالسخرة في بناء مدينة بطرسبرغ. في فترة لاحقة، حل السوفيات محل القياصرة، أقاموا دولتهم على أنقاض الإمبراطورية، لكنهم أيضاً امتلكوا كل شيء في دولتهم... بما في ذلك المواطنين». على الأقل هذا ما يراه معتقلون سابقون في الغولاغ، قدموا شهاداتهم في كتب كثيرة، لكشف النقاب عن معاناتهم في معسكرات الأشغال الشاقة الإجبارية في الاتحاد السوفياتي . خلال العهد الستاليني، اعتقد القادة السوفيات أن بإمكانهم استغلال السجناء في العمل بالسخرة لتطوير إمبراطوريتهم الحديثة، والنتيجة كانت أن 18 مليون مواطن روسي مروا على معسكرات الاعتقال بسبب تهم معظمها من نسج الخيال، قضى منهم أكثر من 3 ملايين على أقل تقدير. اليوم لم يعد غولاغ اسمَ علم أو مكاناً، بل أصبح مفردة لها معان وحشية كثيرة، تماماً كما الهولوكوست. لم يكن الكاتب الروسي ألكسندر سولجنستين أولَ من كسر حاجز الصمت وألقى الضوء على معسكرات الاعتقال السوفياتية التي كانت تعد من التابوهات، إنما كان عمله «أرخبيل الغولاغ» الأضخمَ والأكثرَ شمولاً وإيضاحاً لمعاناة السجناء في تلك المعسكرات الجليدية، التي تأسست منذ العام 1929 وتطورت في أعقاب الثورة البولشيفية، بعدما جرى اعتقال كل من يعارض النظام. بجهود سولجنستين، لم يعد مصطلح «غولاغ» يرمز فقط الى معسكرات العمل الإجباري، بل تحول إلى رمز عالمي للاعتقال التعسفي والوحشي في القرن العشرين. استوحى سولجنستين عنوان كتابه «أرخبيل الغولاغ» من كلمة أرخبيل بالروسية «arkhipelag»، وهي على وقع «gulag»، واقتنع بصوابية تسميته عندما استمع من معتقلين سابقين في الغولاغ إلى قصة الجنرال ديجتياريف، ذلك الجنرال المتحجر القلب، الذي كان ينتقي المعتقلين ليطلق عليهم النار شخصياً، وقد عُرف على نطاق واسع باسم «جنرال أرخبيل سولوفستكي». تلقى سولجنستين رسائل ومذكرات عدة حول الغولاغ بعدما أصدر روايته «يوم في حياة إيفان دينيزوفيتش» عام 1962. قرأ الكثير من هذه الرسائل، وحاول مقابلة أكبر عدد ممكن من مرسليها، استمع إلى قصص تعذيبهم وتسخيرهم، ونقل الكم الأكبر منها في صفحات كتابه، لكنه لم يستطع الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، ولم يفعل ذلك إلا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. تحدث سولجنستين عن معاناة المعتقلين: كيف حفروا القنوات، الطرقات السريعة، طرق السكك الحديد عبر الطبيعة الروسية الصعبة، كيف حفروا مناجم الذهب، اليورانيوم، والحديد، بل حتى كيف صمموا الطائرات العسكرية والصواريخ. وكثر أكدوا في شهاداتهم له «أن الدولة الروسية بنيت على حطام عظامهم». بعد مرور عقد على انهيار الاتحاد السوفياتي، ظهرت أخيراً كتب عدة حول معسكرات الغولاغ، أبرزها كتاب ل «آن أبلبوم» يحمل عنوان «أصوات الغولاغ» (منشورات جامعة ييل الاميركية)، وهو يعيدنا بقوة إلى تاريخ ذلك المكان المظلم، حيث أُجبر السجناء على العمل في ظل ظروف قاسية للغاية، مقابل الحد الأدنى من الطعام. لم يكن الجو الجليدي سبباً لعذاباتهم فقط، بل كان سجان من نوع آخر مهمته القضاء على كل آمالهم بالهرب، وحتى لو تمكنوا من تخطي أبراج المراقبة وبعض الحراس في العراء، لم يكونوا بالتأكيد لينجحوا في مقارعة الطبيعة وعبور مناطق وعرة عبر الثلوج للوصول الى أقرب قرية، خصوصاً وأن جعبتهم فارغة حتى من الخبز الجاف. اختارت أبلبوم مذكرات سجناء سابقين بناء على قاعدة بيانات معينة، وليس عشوائياً، كما فعل سولجنستين. تبدأ كل قصة من تجربة السجين منذ لحظة اعتقاله وحتى اطلاق سراحه. تصف الكاتبة بدقة الحياة في زنزانة التعذيب، التي لا تختلف كثيراً عن زنزانة الاعتقال، حيث كان يُحشر نحو 50 فرداً في غرفة صغيرة لا تتسع لهم وقوفاً بعدما ضاقت معسكرات الاعتقال بالمعتقلين الكثر. تورد أبلبوم مذكرات تتحدث عن تعذيب النساء في المعسكرات، تبدأ من ممارسة الدعارة الإجبارية هرباً من الموت، مروراً بحالات الاغتصاب الجماعي، كما حدث مع إلينا غلينكا، وصولاً إلى إنجاب الأطفال ورؤيتهم وهم يقضون بسبب سوء التغذية والإهمال، كما حدث مع هافا فولوفيتش. وتروي كيف ان بعض الفتيات الجميلات يتحولن بإرادتهن إلى عشقيات لجنرالات وقادة في المعسكر لتفادي التعذيب. في الإطار عينه يقع كتاب ستيفن كوهين «عودة ضحايا الغولاغ: الناجون من الغولاغ بعد ستالين» (دار ووركس)، الذي يتناول فيه حياة السجناء بعد تحريرهم وعودتهم إلى المجتمع في عهد نيكيتا خروتشوف، وكيف أن معظمهم عانى من دمار زواجه، دمار مسيرته المهنية، دمار حالته النفسية، باختصار... دمار حياته. يهتم الكاتب أيضاً بمجموعة من السجانين في الغولاغ وعودتهم إلى ممارسة حياتهم الاعتيادية في موسكو، ويحاول نقل صعوبة التعايش بين السجانين والسجناء السابقين في الغولاغ. أما كتاب «قادة الغولاغ» لفيودور موشولسكي (منشورات جامعة أوكسفورد)، فهو من نوع آخر، ويمكن القول إنه أول كتاب ينقل وجهة النظر الأخرى، إذ وضعه رجل من الضفة الثانية (موشولسكي)، خدم في الغولاغ مدة 6 سنوات (من عام 1940 حتى 1946) بصفته موظفاً مدنياً وليس عسكرياً. أصبح موشولسكي ديبلوماسياً عقب الحرب العالمية الثانية، بعدما عمل في الأممالمتحدة وفي السفارة الصينية في الاتحاد السوفياتي، وأمضى آخر 20 عاماً من مسيرته في المخابرات السرية «كي. جي. بي». ينطلق موشولسكي في كتابه من دفتر مذكرات احتفظ به خلال عمله في الغولاغ، وصف فيه المعتقل بأسلاكه الشائكة، وأبراج المراقبة العالية للغاية والأحوال الجوية السيئة فيه، فضلاً عن معدلات المجاعة العالية، وحالات الموت نتيجةَ سوء التغذية، والقتل العشوائي عبر إطلاق النار على رؤوس السجناء. وثمة في الدفتر قصص إضافية أخرى عن الاغتصاب الجماعي والشذوذ الجنسي، وعن فتاة جميلة قامت بمحاولات لإغرائه تبيَّن له لاحقاً أنها تخصصت في إغراء الموظفين وقتلهم وسرقتهم. ومع ذلك، هو يصدق مقولة قادة الاتحاد السوفياتي بأن «في دول العالم الرأسمالي، يُترك السجناء ليتعفنوا، بينما في الاتحاد يُجبر السجناء على القيام بأعمال تفيد البشرية»!!! منذ العام 1988، عملت جمعيتان تطوعيتان هما «الذكرى» و«العودة»، على إعادة تصوير المواقع السابقة لمعسكرات الغولاغ، وتسجيل شهادات معتقلين سابقين، فضلاً عن جمع معلومات ونشر دراسات ومذكرات لبعض السجناء. وسمح الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين للجمعيتين بمتابعة بعض أعمالهما، ولكن ليس من دون مضايقات من جهات محلية، كانت آخرها مداهمة مكاتب جمعية «الذكرى» في سانت بطرسبرغ عام 2008، حيث صادر عناصر الشرطة 12 كمبيوتراً تضمنت جهود 20 عاماً من العمل والتقصي لتوثيق معاناة ضحايا الغولاغ، إضافة إلى الأبحاث المكثفة حول وجود مقابر سرية. أُعيدت الكمبيوترات في العام التالي، مع رسالة موجَّهة من السلطات للجمعية فحواها: «إننا نراقبكم جيداً». رغم ذلك، استكملت الجمعية جهودها، وأطلقت عام 2010 موقعاً افتراضياً على الإنترنت هو بمثابة متحف عن الغولاغ. وتجدر الإشارة إلى وجود 300 متحف متواضع وآلاف المجسمات موزعةً في مختلف أرجاء دول الاتحاد السوفياتي السابق عن الغولاغ، ولكن لا توجد هناك أي نصب تذكارية في العواصم. أما وعد حكومة خروتشوف ببناء نصب تذكاري في موسكو، فلم يتحقق، لكنها سمحت بوضع حجر غير منحوت من جزيرة سولوفوستكي في ساحة لوبيانكا، كذكرى لمعسكرات الاعتقال. إلى ذلك، كانت الحكومة الروسية الراهنة أعطت إشارات متضاربة حول موقفها من الغولاغ، فبينما قام بوتين بزيارة الى سولجنستين قبل وفاته ووعده بإعادة نشر «أرخبيل الغولاغ» وتضمين المنهج الدراسي مقتطفات منه، أظهر كتيب دراسي آخر أن كل ما قام به ستالين، بما في ذلك إقامته معتقلات الغولاغ، كان مبرِّراً لضمان تطور الدولة، وحل ستالين ثالثاً في مسابقة للوقوف عند أفضل شخصية تاريخية روسية.