في لحظة من اللحظات كان على ستالين ان يتخلص من مساعده لافرنتي بيريا. صحيح انه هو الذي كان أتى به الى السلطة قبل سنوات، وصحيح ان بيريا اصرّ دائماً على ان يبقى في ظل سيده، اميناً له لأنه يعرف ان لا مكانة له من دونه وخارج حماه. لكن ستالين "عجز" عن فهم بيريا كل الفهم. فإذا كان هذا الاخير قد أقام من حول سلطته، سداً منيعاً عبر تمتين علاقته بجهاز الشرطة السياسية، فانه كان - في حساباته - يعمل جاهداً لتثمين سلطة سيده ايضاً، لكن ستالين لم يكن من الذين يستسيغون مثل هذا التحرك. كان يرى في كل تعزيز للسلطة يمارسه معاون من معاونيه، مؤامرة ضده شخصياً، حتى وإن كان المعاون مجرد ظل له كما كان حال بيريا. اذاً، في لحظة، شعر ستالين ان بيريا صار عبئاً عليه. لكنه آثر الا يتخلص منه بطريقة معتادة. يجب التخلص من بيريا بطريقة مبتكرة.. معقدة، قال ستالين لنفسه. وكلمة "مبتكرة" توازي عند ستالين كلمة "دموية". وهكذا اكتملت خطة الزعيم: سيطاول بيريا بشكل ملتف. عبر القبائل التي ينتمي اليها. طلب ستالين من مساعدين له، سرا، ان يحضروا ملفا متكاملا يبرهن على ان قبائل "المينغرل" التي ينتمي اليها بيريا حضرت مؤامرة تسمح للمنطقة التي تعيش فيها، وهي منطقة جيورجية قريبة من تركيا، بأن تحصل على استقلالها وتتشكل في امة مستقلة بذاتها. وكان الملف يقول ان المؤامرة حضرت بمشاركة تركيا وربما بتحريض منها. ان اينياتييف، وزير أمن الدولة هو الذي كلف بتحضير الملف وحضره بالفعل، وما ان عرض اينياتييف الملف على ستالين، حتى طلب منه هذا ان يرسله الى جيورجيا لكي يصار على الفور الى التخلص من القبائل المعنية. وكان لا بد من التخلص في الوقت نفسه من ابناء تلك القبائل في موسكو، وتحديداً من بين المسؤولين المحيطين ببيريا والمقربين منه. عندما علم بيريا بهذا كله وأدرك انه هو، في نهاية الامر، المستهدف، ابدى لوهلة أولى من الملعنة ما يفوق ملعنة ستالين، اذ سافر من فوره الى مسقط رأسه جيورجيا، بدلاً من ان يبقى في موسكو، فريسة بين انياب الزعيم. وفي جيورجيا كان هو الذي... قاد عملية مطاردة رفاقه المتهمين بالتآمر ضد ستالين. وكان معظم الذين طاردهم واعتقلهم من اصدقائه الذين كانوا بقوا على ولائهم له... وكان لا بد له من اسكاتهم بسرعة، وهكذا جرى اعدام المئات منهم من دون محاكمات او من دون ان توجه اليهم اية اتهامات على الاطلاق. عجباً لبيريا. هو المتهم الأول وهو القاضي الأول والجلاد الأول. وكان ستالين يراقب كل شيء ويبتسم. كان يعرف مسبقاً انه سينتظر حتى ينتهي بيريا مما يقوم به لكي يتخلص منه، ويكون ضرب عصفورين وأكثر كثيراً بحجر واحد. في حلقات السلطة بدت المسألة كلها اقرب الى اللغز. وسادت النقاشات والتكهنات. كان الجميع يعرفون ان ستالين نفسه جيورجي، وان بيريا جيورجي، وان المستهدفين جيورجيون. وكانوا يعرفون اكثر من هذا ان اينياتييف، الذي قاد التحقيق السري ووضع التقرير، فكان تقريره نقطة البداية كل ما يحدث، مناصر لخروتشيف وحليف له، وانه لا يكن كل ذلك الحب لستالين ولا للجيورجيين عموماً. فماذا يحدث؟ من ينصب الفخ للآخر. بيريا هو المستهدف لكنه هو الذي يقمع ويضطهد ويعتقل ويعدم رفاقه. فهل تنقلب الآية ويمكن القول ان ستالين هو، في نهاية الامر، المستهدف، وان لعبة ما، جعلته هو أداة ضرب نفسه بنفسه؟ اسئلة حائرة، حيرت اهل الكرملين، حتى وإن بدا ان ستالين واثق مما يفعل. وكان اصعب من هذا كله التساؤل حول ما الذي يريده حقاً... خروتشيف الذي بدا للبعض انه هو الذي يقف خلف اينياتييف ويسانده؟ لماذا؟ يترك خروتشيف بيريا يتخلص من الاوفياء للنظام؟ ولماذا يترك ستالين مساعده الرهيب يعرّيه من جماعته الجيورجيين؟ في نهاية الأمر، كان بيريا هو الذي دفع الثمن. قام بالمهمة القذرة وانتهى امره. وكان سفره الى جيورجيا لانقاذ رأسه يوم الثاني من نوفمبر، تاريخ نهايته. فهل يمكن القول ايضاً انه كان التاريخ الحقيقي لنهاية ستالين، او لبدء نهايته؟ سؤال سيظل من الصعب الجواب عليه، وإن كان الواقع يقول لنا ان ستالين لم يعمر سوى عام ونصف العام بعد ذلك في الصورة بيريا والنكوف.