حين يصل رجل الأعمال والسائح الى مدينة مونتريال، التي تعتبر اهم المراكز التجارية والسياحية في كندا وتستقبل سنوياً نحو ستة ملايين زائر نصفهم من رجال الأعمال، سيجدان في انتظارهما تجربة مثيرة خاضتها المدينة وشركاتها بدافع الضرورة ثم طورتها بمرور الزمن لتصبح معلماً تجارياً وسياحياً فريداً على مستوى العالم. وحصلت مونتريال على اعتراف دولي بتجربتها حين قرر "اتحاد مراكز ابحاث المشاريع العمرانية تحت سطح المدن"، اتخاذها مقراً لأمانته العامة واستضافة مؤتمره السابع عام 1997. وتحظى بعضوية الاتحاد ثماني دول تملك غالبيتها تجارب عريقة، سيما في مجال بناء شبكات المترو، ومن بينها فرنسا واليابان والولايات المتحدة وهولندا وايطاليا واسبانيا والصين. وقامت تجربة مونتريال على بناء ما يمكن وصفه بمدينة متكاملة تحت سطح الأرض، وبعبارة اكثر دقة، سلسلة من المنشآت العمرانية الضخمة التي تتصل ببعضها البعض عن طريق ممرات محمية للمشاة ومحطات المترو وتتصل في الوقت نفسه بالغالبية العظمى من المراكز التجارية ومقرات الأعمال والشركات والعمارات السكنية القائمة على سطح الأرض في وسط المدينة. وتعددت تسميات جملة المنشآت المقامة تحت الأرض اذ وصفها فريق المهندسين الذي شارك في تصميمها بپ"البعد الثالث" لمدينة مونتريال باعتبار ان الأسواق المبنية على سطح الأرض تمثل البعد الأول وأبراج المكاتب التي تعلوها هي البعد الثاني، وأطلق "اتحاد مراكز الأبحاث" عليها اسم "المدينة الحديثة" فيما تعارف العامة على تسميتها ببساطة: مدينة المترو. ويحتاج الزائر الى أيام عدة للتجوال في مدينة المترو والاستمتاع بتسهيلاتها، لكن "جاك بيزنر" امين الاتحاد المذكور يعتبر افضل المراجع للتعرف عليها، اولاً بحكم مهام منصبه واطلاعه على تجارب الدول الاخرى في هذا المجال وثانياً بسبب احاطته بظروف وتطورات احد اضخم وأعقد المشاريع العمرانية الحديثة في القارة الاميركية والعالم. وأشار بيزنر في مقابلة مع "الحياة" الى ان مدينة المترو كانت وليدة الحاجة قبل اي شيء آخر وأضاف مشيراً الى النحات الايطالي المشهور ليوناردو دافنشي: "كان دافنشي تخيل مدينته ميلانو مدينة مستقبلية تحت الأرض محمية من الظروف المناخية، وحققت مونتريال هذا الحلم بأن اقامت شبكة للمشاة تحت الأرض تعتبر الاكبر من نوعها في العالم". واشتهرت مونتريال بظروفها المناخية القاسية شتاء وصيفاً، ولا تشدد العبارة المتداولة بين سكانها في الشتاء على ضرورة ارتداء المعطف قبل الخروج بل ارتداء كل ما يمكن ارتداؤه من الملابس والتحول الى "بقجة". ويرجع ذلك الى تدني الحرارة الى 32 درجة مئوية تحت الصفر في المتوسط بسبب تراكم الثلوج حتى ارتفاع مترين ونصف المتر وهبوب العواصف القطبية بين الحين والآخر. ولا يمر الصيف بلا معاناة بسبب اجتماع درجات الحرارة العالية ونسب الرطوبة المرتفعة التي تصل الى مئة في المئة. لكن اثر الظروف المناخية على مسار الحياة اليومية للمدينة بكل مرافقها، اقله في وسطها ومركزها التجاري، يكاد يكون معدوماً الآن، ما يعتبر مكسباً ثميناً لسكانها وأسواقها وشركاتها في المقام الأول ثم زوارها من رجال الأعمال والسياح الذين يرتاح لهم فرصة قضاء اعمالهم المعتادة والاستمتاع بالمدينة وزيارة غالبية معالمها وتسوق ما يحلو لهم من بضائعها وتذكاراتها بلا مشقة سواء في الشتاء او الصيف. وقال بيزنر: "مدينة المترو لم تضمن لمونتريال مزاولة انشطتها التجارية والاجتماعية والثقافية على مدار السنة وحسب بل اعتبرت افضل الحلول المستقبلية لغالبية المدن المعرضة للظروف الجوية القاسية، لا سيما المدن ذات الكثافة السكانية العالية التي يضم مركزها معظم مرافقها الرئيسية بما فيها الاسواق والجامعات والمتاحف والمعارض وشركات الخدمات العامة". واعتبر اهم ميزة من مزايا مدينة المترو ان بلدية مونتريال لم تضطر الى المساهمة في تمويل عمليات البناء على رغم كونها شريكاً اساسياً الى جانب شركة المواصلات المحلية التي تتمتع باستقلال اداري ومالي وشركات القطاع الخاص والتجار، اذ انحصر دورها في مجال التخطيط العمراني وسن التشريعات المحلية لضمان انسيابية العمل في مشروع مستمر تقدر كلفته حتى الآن بمئات البلايين من الدولارات. اول شبكة والمثير ان مونتريال بدأت بناء اول وأضخم مشاريع مدينة المترو قبل عشر سنوات من التفكير جدياً بانشاء شبكة لقطارات المترو، وكان المشروع الأول عبارة عن محاولة قامت بها "شركة الخطوط الحديد الكندية" لتجميل محطتها الرئيسية في مونتريال وتسخير ارصدتها الهائلة لدعم مكانتها في مجال الاستثمار العقاري، لا سيما المجمعات التجارية والفنادق. وحسب بيزنر استعانت "شركة الخطوط الحديد" بالمتعهد الاميركي المشهور وليم زيكيندورف لتطوير مشروعها وكانت النتيجة النهائية بناء مجمع تجاري بلغ من الضخامة بحيث اطلق عليه الاسم القديم لمدينة مونتريال وهو "بلاس فيل ماري"، ويتألف المجمع من برج مكتبي من 47 طابقاً و"ميزانين" تجاري مساحته نحو 285 الف متر مربع، وأخيراً مساحة تحت الأرض تضم محطة القطارات وتتفرع عنها اروقة تقود الى احدى المحطات الرئيسية للباصات والمترو. وفتح مجمع بلاس فيل ماري ابوابه للزبائن سنة 1962 لكنه اليوم واحد من اصل 60 مجمعاً تجارياً باتت تضمهم مدينة المترو بعد التوسع الكبير الذي شهدته في العقود الثلاثة الاخيرة، ما يمثل نحو 30 في المئة من النشاط التجاري و80 في المئة من مكاتب الشركات والخدمات العامة المجمعة في مركز مدينة مونتريال الذي تقدر مساحته بنحو 12 كيلومتر مربع. وعلاوة على المجمعات التجارية تحتضن مدينة المترو 30 كيلومتراً من ممرات وأروقة المشاة المرصوفة بالبلاط المزخرف و1600 بوتيك و200 مطعم و34 صالة مسرح وسينما و1700 منشأة تجارية و45 فرعاً مصرفياً و1610 شقق سكنية ومجمعاً سياحياً ضخماً للفنون والثقافة وثلاث مراكز للمعارض والمؤتمرات الدولية وجامعتين وسبعة فنادق خمس نجوم وحلبة للتزلج على الجليد. ولخص بيزنر ما يعنيه كل هذا بالقول: "تستقبل مدينة المترو يومياً نحو نصف مليون شخص من سكان مدينة مونتريال وضواحيها ورجال الاعمال والسياح الاجانب وتمنح كل هؤلاء فرصة ثمينة لممارسة اعماله المعتادة وقضاء حاجاته والترويح عن نفسه بيسر وفي جو عصري ونظيف وآمن ومكيف يغنيه عن احتمال قسوة الشتاء القطبي وحرارة شهور الصيف ورطوبتها". وثمة امور مميزة لا تخطئها مدارك الزائر اثناء تجواله، فعلى رغم ضخامة مدينة المترو وتشعبها تحت سطح الأرض الا انها لا تشعر مرتاديها بالملل او الضيق وذلك بسبب التنوع الكبير في بيئاتها والديكورات المستخدمة لتزيين اروقتها وممراتها، واستخدامها القباب الزجاجية بسخاء للاستفادة من ضوء النهار واضفاء جو طبيعي على ساحاتها. لكن الميزة الاكثر امتاعاً للمرتادين تكمن في تنوع على مستوى مختلف يتعلق هذه المرة بالتركيبة السكانية لمدينة مونتريال، اذ تتسم مدينة المترو عموماً بالطابع الكندي وهو مزيج من الطابعين الأوروبي والاميركي الا ان المرء سيلحظ بسهولة غلبة الطابع الفرنسي في محلات الازياء والعطور والحضور الملحوظ للمطبخين الايطالي واللبناني. وأشار بيزنر الى ان مدينة المترو جعلت "نهار مونتريال حيوياً وليلها مبهراً" على مدار السنة الا ان شهرتها لا تزال في حقيقة الامر تعاني من مشكلتين مزمنتين: ضبابية القرار السياسية الناجمة عن استمرار حزب التكتل الكيبيكي في الدعوة لفصل مقاطعة كيبك ومعها مونتريال عن كندا، وضآلة المخصصات المرصودة للترويج السياحي.