سنة 1998 سنة راسخة في ذهني الى أبعد حد ممكن، فيها حصلت على جائزة مؤسسة عبدالعزيز البابطين، ففرحت أيما فرح، وكان حضوري في الصحافة حضوراً مكثفاً أمدني بكثير من الحماسة التي لا بد منها لمواصلة الطريق. ثم انها السنة التي رأيت فيها بيروت وقد استعادت زخمها الثقافي، إذ فيها أقيم حفل توزيع الجوائز، رأيت الفرح في وجوه المثقفين العرب الذين حضروا الى لبنان مليئين بالطموحات الجديدة والجميلة. التقيت بمن لا أعرف صورته من كبار أدباء العرب ومشاهيرهم، التقيت أيضاً بالبياتي الذي لم أره منذ ثلاثين سنة: كنت مراهقاً وكان في عز شهرته وكبريائه، وجلست الى عزالدين إسماعيل، كنت تلميذه قبل عشرين سنة، ولم التق به منذ ذلك الوقت. ثم التقيت بكثير من الأدباء الجدد والفرح يغمر قلوبنا التي غصت بالمأساة وما تزال، مأساة الإنسان العربي المحبط في آماله البسيطة وخياله الجميل. غنينا، سمعنا الأشعار المترامية الأطراف والتوجهات، تذكرنا الذين غابوا عن الدنيا، دخلنا زمن الحلم، وتناسينا لفترة كل مشاكلنا السياسية والحضارية العويصة، تناسينا ان بيروت تقوم من تحت الأنقاض وهي مغتصبة، أين ساحة الشهداء؟ أصبحت مجرد مكان من الإسمنت. أنا على يقين أن أشياء كثيرة وجميلة قد اغتصبت في هذه المدينة! رأيت السيارات الكثيرة متراكبة، سراب من الحديد المتوحش، هل هي بيروت التي عرفناها في طفولتنا وهي مراهقة تغني الحب والنشوة. لا، لا يمكن! الآن سيكتب عنها الناس وقد صارت جحيماً للاستهلاك بعد أن كانت حديقة للطيور المهاجرة والمستقرة. لن توحي بما كانت توحي به قبل الحرب. لن يتعلق بها الشعراء اليوم كما كانوا متعلقين بها قبل عشرين سنة. طواحينها الآن أكبر من كل الطواحين، الزمن رهيب، يغير كل شيء. كانت رمزاً للشعر، وأصبحت رمزاً للإسمنت المسلح والمضاربات والهامبرغر! لن تمحى ذكرى بيروت من ذهني. انها جزء من ذاتي وقد اغتصبت، فكيف نعيد الى الذات فتنتها وبراءتها العذبة؟ ثم لا أستطيع أن أنسى المهرجان العالمي للشعر وقد عقد في الدار البيضاء، نعم، لم أحضر هذا المهرجان، ولكنني فرحت للدار البيضاء وقد أخذت تمارس الشعر، حضر اليها أدونيس ومحمود درويش وآخرون من الهند وتركيا... وكان الساهر على ذلك بيت الشعر في المغرب. تتبعت هذا المهرجان في الصحافة وأنا أقول في كل لحظة من لحظات الشعر العارمة" يبدو أن زمن الشعر زمن مطلق، وأن الأمكنة ليست سوى محطات لتثبيت هذا الزمن. * كاتب مغربي.