هذه الأوراق مستلة من يوميات الأديب العراقي يوسف الصائغ . بعض ما تناثر من "اعترافات مالك بن الريب" التي نشر منها جزءان. إذا يسجل الصائغ في هذه اليوميات ذكريات شبابه الأول، يفرد فيها لبغداد مكاناً خاصاً، حيث قدم إليها من بلدته الموصل، مواصلاً دراسته في معهد المعلمين العالي منتصف الخمسينات، يوم كان هذا المعهد يضم أبرز مثقفي تلك المرحلة: السياب والملائكة والبياتي وسعدي يوسف وغيرهم. اغمضت عيني، وفتحتهما... فإذا ببغداد، تتخذ جسد منزل يقع في عقد التوراة. وإذ استوعب التسمية، يضطرب روعي ويتغير مباشرة هواء البيت والشارع. وتتميز البيوت بمسحة من الابهام والغربة حتى لكأنها موروثة منذ عهد قديم بحيث لا استطيع أن أطيل النظر إليها وأنا في تلك الشرفة بالطابق الثاني من منزل اتخذ عندي شكل بغداد، لمجرد المداهنة. كانت الأسماء هي التي تسبق إلى إثارة دهشتي، فكأن لكل منها قصة سرية، نسيها أصحابها لفرط الذهول، أو أنهم يكتمونها عن خوف. لقد بحثت كثيراً عن "بستان الخس" في الحارة المجاورة، وأصبت بخيبة لأني لم أجد البستان، ولا الخس. ومررت كثيراً قرب تمثال السعدون، وتساءلت إن لم يكن يجدر بهم أن يقدموه لنا على غير هذه الوقفة التي سجنوه فيها، لو أنهم مثلاً صنعوا له تمثال انتحاره... وألقوا به على منصته، لكي يظل طوال الدهر يموت... ويثقل لنا ضمائرنا نحن الذين جئنا بعد انتحاره، نبحث عن السبب قلقين من احتمال أن تأتي ساعة، يفكر فيها أحد، مثله بالانتحار! وماذا عن ذاك "الباب الشرقي"؟ تتخيله من دون أن تراه... وحديقة الأمير غازي... وسينما الملك غازي... وشارع غازي... بحيث تفاجأ لوهلة، باسم الملك المقتول ثم لا تلبث أن تذهل، وكان الاسم صار شارعاً أو سينما أو حديقة فلا تروح تحس أيما غضاضة، وأنت قرب حديقة غازي... انهم قتلوا غازي وهو في عز شبابه... فما تبقى من ذلك الزمن غير أشجار اليوكالبتس المهيبة... والروائح التي تصدر عنها في صيف حار. وأنا افتح عيني واغمضهما تماماً كما تفعل آلة تصوير فتتبدل تبعاً لذلك الأسماء والمناظر ويتبدل الهواء... والظلال... والشرفات والبيوت... وقد ينتانبي الدوار بسبب ذلك، فأضل الطريق واضطر لاستخدام كلمة السر مكرهاً فأسأل بذلة عن "عقد التوارة" لكي اهتدي إلى بيت سكنته، فأعود من جديد إلى بغداد. وبغداد بيت كبير، يقع في "البتاويين". ما البتاويين؟ اذكر انني أحصيت بذاك البيت أكثر من ثلاث عشرة غرفة كانت تبدو لي لفرط اهتمامي باكتشافها أشبه بعائلة فهي ذات صلات وقرابات... غرف اخوات... وأخرى أولاد، أو بنات أعمام... وأكثر بحيث كنت أميز الغرف الذكور عن الغرف الاناث حتى عثرت على تلك الغرفة السرية التي تفوح منها رائحة المراهقة والتي ستختبئ فيها بعد أيام "حبيبتي" وتلك قصة أخرى! إنما لا بد من الحديث عن غرفة أم، وسأسميها غرفة أرملة، هي صاحبة البيت تجاوز عمرها الأربعين وسيتوقف الزمن عند ذلك اكراماً لعيني الأرملة المكحلتين. ورويداً... فسوف يتشابه البيت بالأرملة. كلاهما باذخ... وكبير وكريم، إلى أن تنفق الأرملة آخر ما تركه لها زوجها... وستنفقه كما يليق بأميرة وستواجه الحيرة بسبب ذلك ولكن بمستوى أميرة أيضاً، لا تؤمن إلا بنفوذ مزاجها الحميم لأنها بهذا الاعتبار مؤمنة بخرافة أن قوة ما، لا بد ستهب لنجدتها ذات ساعة حين لا تجد ما تعالج به ضائقتها إلا بأن تلجأ لبيع البيت. صرخ الأولاد: - تبيعينه؟! وصرخت الغرف والشرف والنوافذ، والسطح الكبير، وغرفة الضيوف وغرفة الطعام، حتى غرفتي كان لها اعتراضها: - بكم ستبيعينه، وأي بيت سواه تشترين؟ واجهت الأرملة أناشيد الاحتجاج، بقلب صادق وعينين كحليتين، فالتمع بسبب ذلك الذهب في ما تبقى من أساورها... وعز عليها أن تخيب أمالنا جميعاً، فاهتدت إلى الحل الأكثر ضراوة ما دام يليق بأميرة مثلها. - نبيع البيت، ثم نستأجره من مالكه الجديد. لم يقل لها أحد: - يا مجنونة... لقد تواطأنا جميعاً على المداهنة بسبب من اننا أحببنا البيت وما كان بيننا من هو على استعداد لأن يغادره حتى ولو أدى ذاك إلى خراب بغداد... أو خراب الأرملة! *** اغمضت عيني... وفتحتهما. ورأيت ذاك البيت الذي في "البتاويين" ب "عقد التوراة". للمرة الأولى دخلت الباب واجتزت الممر ثم احتواني الفناء الكبير وأحسست بأن عشرات النوافذ تحدق بيّ، وكان لتحديقها وقع فاضح على روحي وجسدي... وبدا لي انني، بطريقة ما، اخضع لمراقبة نهمة وفضول لاذع، بحيث رحت اغمض عيني وافتحهما مرات عدة حتى اعترضني حبل الغسيل وكان يرسم وتراً يقطع الفناء، ولوح لي جورب أبيض ذو عنق قصير، أشبه بحمامة، فقال لي ذهني بسرعة رياضية إنه لا بد جورب بنت في الرابعة عشرة على أقل تقدير... وراح يؤشر ذاك لحسابي. وقبل أن استطرد اقتادني خدم وهميون إلى غرفة صغيرة شممت أول ما خطوت إليها رائحة قنديل وضاء أوصاني حين نظرت إليه أن انحني لعيني العذراء المحبوسة في إطارها الذهبي، وإذ انجزت ذلك، تخلى عني الخدم الوهمي وتركني أمام الأرملة انظر مباشرة على غير ارادة مني إلى عينيها واتحسس نفوذ أصابعها على يدي. - مرحباً... يا أهلاً وسهلاً... وابتسمت... فجاهدت وأنا أجلس قربها - كما ارادت - أن أجد أي دليل يوحي لي بأن هذه المرأة هي بطريقة ما أمي. أبداً، كان حدسي الذي ينقصه المران يجمع لي من البراهين ما يكفيني لكي أتلذذ بفكرة أن هذه المرأة المموهة بالترمل هي لسبب مجهول تلك الأرملة المستمرة، يظل الرجال يتزوجونها ويموتون. المحبة أرملة مات أزواجها الأربعة وحين تزوجها رجل خامس نذرت إن يموت قبلها أو أن تموت معه 1983 وإذا كنت أقول ذلك لنفسي، فقد قادني سوء ظني الذي لا يتناسب وسذاجة تجربتي، إلى أن اختزن صورة بغداد، وقد تنكرت تحت مسوح أرملة، ورأيت العديد من الرجال يحملون في نعوش ويغادرون بيتها إلى النسيان: بغداد هي شعر شمشموم النبي وتثائبي غنجا وميلي واتعبي وتناومي حينا تسامرك القرون الخالية بغداد من ألف وآلاف مضت متوانية ما زال محروم يمصمص من عروق خالية لفي عليه الساعدين... بساعدين وقربي من صدره العبل انفاض الساقية 1956 بقينا وحيدين أنا والأرملة في تلك الغرفة الصغيرة، تراقبنا العذراء القديسة من إطارها المذهب. وفي الخارج كانت تتردد أصوات جنيات يختصمن خصاماً دافئاً ويضحكن بين حين وآخر، وفق أجراس ذات نبرات مراهقة لا يخطئها السمع. أما أنا... فكنت انتظر اللحظة التي يصح فيها أن أبدأ المساومة التي جئت من أجلها، وفق شروط كان من الواضح، انها تسبب الحرج لكلينا. فهذه الأميرة المتشحة بوقار تاريخها، تشعر بأن أية إشارة إلى المبلغ الذي يتوجب عليّ أن أدفعه لقاء غرفة مؤقتة أسكنها، ستكون كفيلة بأن تنال من كرامة جمالها، وتاريخ عزها الانثوي. أما أنا، الذي قصد بغداد، مسلماً بالكثير من الوصايا، وقصائد التدبير والاقتصاد، فقد كنت أحرض نفسي على الجرأة، بسبب التعب الذي نالني من شدة إحساسي بحضور الأرملة وقنديلها الجميل... ولهذا جمعت الجملة التي كنت قد تدربت عليها في فمي وقلتها مباشرة: - لا استطيع أن ادفع أكثر من عشرة دنانير شهرياً. واضفت بسرعة لكي انتهي: - وهذا للغرفة والطعام. ماتت الأرملة المجيدة تلك قبل أكثر من عشرين عاماً. ماتت - يا للأسف - من دون أن يتاح لها أن تستشيرني كما اعتادت في كل الأمور المهمة: إن كان يليق بها أن تكون وإذا كان لا بد من أن تفعل، فأي فصل سيكون الأنسب وأي يوم من أيام الأسبوع... و... لقد كنت في السجن عندما شيعوها إلى مثواها الأخير... ولو لم أكن، فمن المؤكد انني عند ذاك، كنت ساستخدم كل ما أملكه من دالة لاستكمل لها بالوفاء كل ما أحسبه كان كفيلاً بأن يخدم كرامتها فأروح أشير على أولادها بأن يبحثوا في صندوق مدخراتها، عن ثوب العرس ذاك الذي تؤرخه صورة كانت معلقة في غرفة الضيوف، وعن ذاك الاكليل الأبيض الذي كان يزين لها رأسها... وباقة الورد الأبيض. تلك هي صورة وداعها الأخير، ثم يجيء ماء الورد، والأناشيد، وموكب الأولاد تسير فيه "الحبيبة" إلى جانب زوجها بوجه نبيل لا تشوهه الدموع... ولكن أي شيء من هذا لم يحدث! ربما لأنه لم يكن ضرورياً أو لأنه كان يتطلب قدراً أكبر من الحب، أو قدراً أوفر من الإحساس بالجمال. أو لأن بغداد، تخلت في اللحظات الأخيرة عن أن تعير حظها لأرملة من أرامل... هذا العراق العظيم فرفعت حمايتها عن المرأة والبيت... وعيون الحبيبة