سوف يسجل القانون الدولي لليبيا اصرارها على وجوب عرض قضية لوكربي على محكمة العدل الدولية، بصفتها المحكمة الدستورية الدولية العليا، على نحو ما نص عليه في وفاق فيينا للمعاهدات - او دستور المعاهدات - من ناحية، ومن ناحية ثانية استناداً الى ما جاء في المادة الرابعة عشرة في فقرتها 1 من معاهدة مونتريال المتعلقة بقمع الافعال غير المشروعة الموجهة ضد سلامة الطيران المدني للعام 1971، والقاضية بأنه إذا قام خلاف على تفسير أو تطبيق المعاهدة وتعذر تسويته بالمفاوضات او التحكيم فيجوز لاي من الاطراف إحالته على محكمة العدل الدولية. وعندما لجأت ليبيا في 3/3/1992 إلى محكمة العدل الدولية لاصدار قرار تحفظي بحكم وقتي يتضمن منع الولاياتالمتحدة الاميركية من اتخاذ اي عمل لإرغامها على تسليم المواطنين الليبيين وضمان عدم اتخاذ اية خطوات تضر بأي شكل بحقوقها في الاجراءات القانونية التي تشكل موضوع طلبها لحين البت في موضوع القضية الاصلية اصدرت المحكمة قرارها في 14/4/1992 برفض طلب ليبيا وذهبت الى وجوب امتثالها والولاياتالمتحدة لتنفيذ قرارات مجلس الامن وفق المادة 25 من الميثاق، ويحسب ان قرارات مجلس الامن صدرت بناء على احكام ميثاق الاممالمتحدة، لذلك فهي تعلو على غيرها من المعاهدات بما في ذلك معاهدة مونتريال وفقا لحكم المادة 103 من الميثاق. والغريب ان الولاياتالمتحدة وجدت في هذا الحكم الوقتي سندا وعضدا للقول بشرعية قراري مجلس الامن رقم 731 في 21/1/1992 ورقم 748 في 31/3/1992. ولم تحد عن هذا الزعم عندما اصدرت المحكمة في 27/2/1998 قرارها بحكم اصلي باختصاصها بنظر الدعوى في ضوء معاهدة مونتريال 1971 وعندما اكدت المحكمة في قرارها ايضا دحض مزاعم الدولتين الاميركية والبريطانية بعدم اختصاصها ولائياً بنظرها - بزعم عدم وجود خصومة بينهما وبين ليبيا على تفسير او تطبيق معاهدة مونتريال العام 1971 ولكونهما الى جانب ليبيا ملزمين بتطبيق قراري مجلس الامن المذكورين، ولأن هذين القرارين جعلا الدعوى الليبية غير ذات موضوع - مؤكدة اختصاصها في نظر الدعوى وبابطال مزاعم ان قرارات مجلس الامن تحول بينها وبين نظر الدعوى. وكان من مقتضى صدور هذا الحكم الاصلي، ان يرفع مجلس الامن وبقرار فوري، العقوبات الجائرة التي فرضها بغير حق على ليبيا تطبيقاً لمبدأ علوية ميثاق الاممالمتحدة وفقا للمادة 103 طالما ان المحكمة وهي الجهاز القضائي الاصيل اعلنت تصديها لنظر الدعوى في ضوء معاهدة مونتريال، بيد أن المجلس بدلا من ذلك اصدر قرارا مشروطاً فحواه ان الرفع الفوري للعقوبات عن ليبيا يرتبط بقيامها بتسليم مواطنيها الى هولندا لمحاكمتهما وفقاً لأحكام القانون الاسكتلندي. وسوف يدوّن تاريخ المنظمة الدولية، ان مجلس الامن، باصراره على سريان قراراته العقابية ضد ليبيا على رغم صدور حكم محكمة العدل الدولية الاخير في الدعوى الموضوعية، لا يعد متمسكا بقرارات فاسدة او منتهكاً لأحكام ميثاق الاممالمتحدة ووفاق فيينا ومعاهدة مونتريال فحسب، وإنما يُعد مرتكباً لصورة من صور جرائم ابادة الجنس البشري على نحو ما ورد في المادة الثانية في فقرتها ب في شأن الاعتداء الجسيم على افراد جماعة بشرية جثمانيا ونفسيا. والفقرة ج التي تجرم اخضاع الجماعة البشرية عمداً لظروف معيشية من شأنها القضاء عليها مادياً كلاً او بعضا. والقول الفصل في هذا التكييف القانوني لنتائج العقوبات المفروضة على ليبيا في هذا السياق هو لمحكمة العدل الدولية، التي يمكن لليبيا، بصفتها الدولة ذات الشأن، ان تلجأ اليها منفردة بموجب حكم المادة التاسعة من اتفاقية مكافحة جريمة ابادة الجنس البشري والجزاء عليها. مع كل ذلك ابدت ليبيا موافقتها على تسليم مواطنيها، شريطة تقديم ضمانات قبل ان تذعن لطلب التسليم الباطل. وقامت منظمة الوحدة الافريقية - تدعيما لشرعية الموقف الليبي - باتخاذ قرار في 8 حزيران يونيو 1998 يقضي بمطالبة مجلس الامن برفع العقوبات عن ليبيا انتظارا لحكم محكمة العدل الدولية في هذا السياق، وبعدم الامتثال لفرض العقوبات لمخالفة قرارات فرضها لميثاق الاممالمتحدة. واحسب ان منظمة الوحدة الافريقية وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي ودول عدم الانحياز، كان عليهم ان يتخذوا السبيل القانوني لتطبيق العقوبات المفروضة على ليبيا، خصوصاً وان الاخيرة غير ملزمة في ضوء قرار محكمة العدل الدولية بتسليم مواطنيها الى هولندا لمحاكمتهما بمقتضى القانون الاسكتلندي، على نحو ما ذهب اليه قرار مجلس الامن الاخير كشرط لتعليق العقوبات عليها وذلك للاعتبارات الآتية: الأول: ان قرارات مجلس الامن الصادرة بفرض العقوبات على ليبيا، سواء قبل صدور قرار محكمة العدل الدولية او بعد صدوره تعد قرارات فاسدة تطبيقا لقاعدة ان الغش يفسد التصرف، ولقاعدة المصادرة على المطلوب، ولقاعدة الاخلال بمبدأ المساواة بين الدول، ولقاعدة ازدواج المواقف، ناهيك عن مخالفتها لاحكام مواد ميثاق الاممالمتحدة. وبخصوص قاعدة ان الغش يفسد التصرف، نجد انه يتعين على مجلس الامن - وهو المنوط به العمل كنائب عن اعضاء الاممالمتحدة وفقاً لحكم المادة 24 فقرة 1 من الميثاق - ان يتحلى في ما يتخذه من قرارات بحسن النية فإن هو أهدرها، ونعت قراره بالغش وظهر سوء النية في مواضع عدة منها ان مجلس الامن تحدث في ديباجة قراره عن ما اسماه "جميع الانشطة الموجهة ضد الطيران المدني"، وتناسى ان تلك الانشطة تمت مواجهتها بتشريعات دولية هي معاهدات أمن وسلامة الطيران المدني ومن اهمها معاهدة طوكيو الخاصة بالجرائم والافعال الاخرى التي ترتكب على متن الطائرة 1963، ومعاهدة لاهاي المتعلقة بالاستيلاء غير المشروع على الطائرات 1970، ومعاهدة مونتريال في شأن قمع الافعال غير المشروعة الموجهة ضد سلامة الطيران المدني 1971، وتكفلت تلك المعاهدات تحديداً بتجريم بعض الافعال التي تندرج تحت مسمى الارهاب، وبتشديد العقوبة على الجاني، وبضمان عدم إفلات المتهم من العقاب، وبضمان محاكمته. من ثم كان يجب على قرار مجلس الامن تحديد تحت اي من هذه الافعال تندرج التهم المنسوبة الى ليبيا ليتم محاسبتها عليها. الاعتبار الثاني: انه يجب على اميركا وبريطانيا التوقف عن الاستمرار في تصرفاتهما سيئة النية بعد ان دحضت محكمة العدل الدولية وبجلاء بأن لا نزاع بينهما وبين ليبيا وبأن الامر يتعلق بقرارات من مجلس الامن يلزم بها كل المعنيين بالقضية، واكدت المحكمة بغالبية 12 صوتاً، مقابل اربعة اصوات، بطلان هذا الزعم، ومن ثم يعد قرار المحكمة كاشفا عن سوء نيتهما منذ إصدار قرار مجلس الامن رقم 748 لعام 1992 وما لحقه من قرارات. الاعتبار الثالث: إن مبدأ حرية إرادة ليبيا في محاكمة مواطنيها على ارضها ووفقا لقانونها تمشيا مع احكام القانون الدولي عموما وتطبيقا لاحكام معاهدة مونتريال خصوصاً، يتعين ان يحترم ان ديباجة وفاق فيينا كانت صريحة في تأكيد رغبة شعوب الاممالمتحدة في تطبيق مبادئ القانون الدولي التي يتضمنها ميثاق الاممالمتحدة مثل المساواة، حق تقرير المصير، عدم التدخل في الشؤون الداخلية. الاعتبار الرابع: إن حق ليبيا في تطبيق مبدأي حرية الارادة وحسن النية في ما يخص موافقتها على معاهدة مونتريال، أمر يكفله لا ميثاق الاممالمتحدة فحسب، وانما نصوص وفاق فيينا ايضا. وعمد وفاق فيينا الى تكليف محكمة العدل الدولية بالسهر على ضمان سريان أحكامها من دون الحاجة لموافقة طرفي الخلاف، إذ يكفي ان يلجأ اليها احدهما طالبا الحكم له بعدم دستورية معاهدة او نص في معاهدة لمخالفته احكام ذلك الوفاق الآمر، فتختص المحكمة بصفتها المحكمة الدستورية الدولية العليا بالنظر في دعواه وتمنحه صكاً دولياً بعدم دستورية المعاهدة او نص منها إن تبين لها ذلك، فيتمكن ذاك الطرف، من الاستظهار به لدفع تطبيق تلك المعاهدة الباطلة او ذاك النص المخالف، ومن ثم لم يكن مفاجأة ان تصدر المحكمة تبعاً لذلك قرارها بنظر الدعوى في ضوء صراحة تلك النصوص. الاعتبار الخامس: إن عدول ليبيا عن تسليم مواطنيها الى هولندا لمحاكمتهما - حتى وإن اعطيت الضمانات الكافية - لا يعد عدولا غير قانوني، وإنما هو حق لليبيا طالما ان هولندا واميركا واسرائيل، لم يقوموا بالتحقيق في جريمة طائرة "العال" الاسرائيلية التي تأكد انها خالفت احكام الاتفاقات الدولية المتعلقة بحظر نقل البضائع الخطرة، وكيف لم يتمكن رجالُ الجمارك والامن الاميركيون من اكتشاف كنه تلك المواد الخطرة المشحونة من مطار كيندي على متن طائرة شحن مدنية اسرائيلية على رغم عدم وجود مسؤولين عن الشركة الشاحنة في ذلك اليوم بحجة وجودهم في اجازة، في حين تمكنوا يوماً ما من توقيف طائرة شحن عسكرية مصرية بحجة قيامها بحمل كمية من مادة كربونية لطلاء الطائرات العسكرية. ويلاحظ ان تخلف هولندا عن اجراء تحقيق نزيه في واقعة جريمة طائرة "العال" الاسرائيلية لا يدعم الموقف الليبي بأن هولندا ليست بالمكان النزيه لمحاكمة مواطنيها فحسب، وإنما سوف يلقي بظلاله وبلا شك استمرار بقاء محكمة العدل الدولية في الاراضي الهولندية، بدعوى ان فاقد العدل لا يمكن ان يمنحه للآخرين. الاعتبار السادس: إن العمل الدولي دل على انه إذا ما أساء اعضاءُ مجلس الامن الدائمون الصلاحيات التي خولها لهم ميثاق الاممالمتحدة، فإن الجمعية العامة الممثلة لارادة شعوب الدول الاعضاء يمكنها وقف تطبيق سريان احكام تلك القرارات الجائرة، وذلك حينما اعطت لنفسها الحق في اصدار احكام لها قوة قرارات مجلس الامن إن لم يكن اعلى في ما عرف بقرارها "الاتحاد من اجل السلام". ويومها تم قبول أعداد غفيرة من الدول الراغبة في الانضمام للمنظمة الدولية، تلك الدول التي حرمت من تلك العضوية بسبب اساءة استعمال "الفيتو" الاميركي والروسي وقتذاك. ويذكر أن قرار "الاتحاد من اجل السلام" ابتدعته الديبلوماسية الاميركية اثناء الحرب الباردة بينها وبين الكتلة الشرقية. واليوم يحق للجمعية العامة، وبعد صدور قرار محكمة العدل الدولية أن تتصدى لقرارات مجلس الأمن الجائرة - بفرض عقوبات ضد ليبيا وتجديد فرضها - وأن تصدر قرارها بصيغة "الاتحاد من أجل السلام" لتعليق قرارات المجلس، تغليباً للقواعد والمبادئ القانونية على الأحقاد والتصرفات العنصرية تجاه ليبيا وشعبها ومكافحة لجريمة إبادة الشعب الليبي المستمرة مع استمرار سريان قرارات مجلس الأمن الجائرة. صفوة القول إذن، إنه يتوجب على منظمة الوحدة الافريقية وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ودول عدم الانحياز، أن يتخذوا السبيل القانوني لتعليق العقوبات التي فرضها مجلس الأمن على ليبيا بقرارات فاسدة. وهذا السبيل يتمثل في العمل على استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بصيغة "الاتحاد من أجل السلام" ينص على تعليق العقوبات التي فرضها مجلس الأمن، خصوصاً بعد أن نجحت ليبيا أخيراً في استصدار قرار من الجمعية نفسها يطالب بإلغاء العقوبات الاقتصادية التي تضعها دول من جانب واحد. ويعد ذلك انتصاراً للمبادئ القانونية، وتصدياً لجريمة الإبادة البشرية التي يقترفها مجلس الأمن بقراراته الجائرة بفرض العقوبات على ليبيا واستمرارها على رغم صدور حكم محكمة العدل الدولية الموضوعي في هذا السياق. * مستشار قانوني، رئيس محكمة الاستئناف في القاهرة سابقاً