في 27 شباط/ فبراير 2011، أصدر مجلس الأمن الدولي بالإجماع قراراً دعا فيه إلى إحالة الوضع في ليبيا، القائم منذ 15 شباط/ فبراير، إلى المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، "باعتبار أن ما تردد عن انتهاكات قد يرقى إلى مستوى جرائم الحرب". إن حجم المجازر والدمار الذي لحق بالشعب الليبي الشقيق يعني، من الزاوية الإجرائية، أن هناك حاجة لجمع آلاف الأدلة الميدانية، استعداداً لمحاكمة نظام القذافي، فهذه المحاكمة ستكون إحدى أكبر المحاكمات في تاريخ البشرية.. وقال قرار المجلس، الذي حمل الرقم (1970)، إن "الهجمات الواسعة النطاق والمنظمة، التي تجري حالياً في الجماهيرية العربية الليبية ضد السكان المدنيين، ربما تمثل جرائم ضد الإنسانية". إن قرار مجلس الأمن الدولي هذا قد مثل نصراً قانونياً ومعنوياً للشعب الليبي، وللمدافعين عن كرامة الإنسان أينما كانوا. إن كلاً من الأرضية السياسية والقانونية قد توفرتا الآن لتقديم العقيد معمر القذافي للمحاكمة الدولية بصفته مجرم حرب، ومرتكب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية. ولا يقتصر الأمر على القذافي وحده، بل كذلك على أركان جهازه العسكري والأمني، وكل من يثبت تورطه في جرائم الحرب التي تمت ممارستها جهاراً، وعلى نطاق واسع، في الأراضي الليبية، بقصد إجهاض ثورة السابع عشر من فبراير. ولم يسبق لمجلس الأمن الدولي أن أحال من قبل أية قضية إلى محكمة الجنايات الدولية، باستثناء الصراع في إقليم دارفور، بغرب السودان. وكانت محكمة الجنايات الدولية قد تأسست بصفة قانونية في الأول من تموز/ يوليو من العام 2002، بموجب "ميثاق روما"، الذي دخل حيز التنفيذ في 11 نيسان/ أبريل من السنة ذاتها، بعد أن تجاوز عدد الدول المصادقة عليه الستين دولة. وتختص هذه المحكمة بمتابعة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب. وتعني جرائم الإبادة الجماعية حسب تعريف "ميثاق روما"، القتل أو التسبب بأذى شديد، بغرض إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية إهلاكاً كلياً أو جزئياً. أما الجرائم ضد الإنسانية، فهي أي فعل من الأفعال المحظورة المنصوص عليها في نظام روما، وتشمل قتل المدنيين أو إبادتهم أو تهجيرهم، أو أي أعمال غير إنسانية ترتكب ضدهم قبل الحرب أو خلالها. وكذلك أفعال الاضطهاد المبنية على أسس عنصرية أو دينية أو سياسية، ترتكب تبعاً لجريمة ضد السلام أو جريمة حرب أو كانت ذات صلة بهما. وتُعرّف جرائم الحرب، بأنها كل الخروقات المرتكبة بحق اتفاقية جنيف لسنة 1949. وتُعرّف هذه الجرائم كذلك بأنها تلك التي ترتكب ضد قوانين وأعراف الحرب، وهي تشمل الاغتيالات، وسوء المعاملة، وتهجير السكان المدنيين، وقتل أسرى الحرب أو معاملتهم معاملة قاسية وقتل الرهائن، ونهب الأموال العامة أو الخاصة، وتدمير المدن والقرى، والهدم الذي لا تبرره المقتضيات العسكرية. ويمكن لمحكمة الجنايات الدولية أن تنظر في قضايا أشخاص متهمين بارتكاب هذه الجرائم مباشرة، أو آخرين لديهم مسؤولية غير مباشرة فيها، كالمسؤولية عن الإعداد أو التخطيط، أو مسؤولية التغطية عليها، أو التشجيع على تنفيذها. وورد النص لأول مرة حول إمكانية محاكمة ومعاقبة مجرمي الحرب في معاهدة فرساي، التي تم التوصل إليها بعد الحرب العالمية الأولى؛ إذ قضت المادة (227) من المعاهدة بمحاكمة ومعاقبة إمبراطور ألمانيا ولهلم الثاني وأفراد القوات المسلحة الألمانية. وطبقت فكرة الولاية الجنائية الدولية لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية، حينما تم إنشاء محكمتين عسكريتين دوليتين، إحداهما محكمة نورمبرغ لمحاكمة كبار مجرمي الحرب من دول المحور الأوروبية، والثانية محكمة طوكيو، لمحاكمة كبار مجرمي الحرب في الشرق الأقصى. أما محكمة العدل الدولية، فتعد أحد الأجهزة الرئيسية الستة التابعة للأمم المتحدة، شأنها في ذلك شأن كل من الجمعية العامة، مجلس الأمن، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مجلس الوصاية، الأمانة العامة (المادة 1/7من الميثاق). وتعتبر محكمة العدل الدولية، طبقاً لنص المادة (92) من ميثاق الأممالمتحدة، وكذلك طبقاً لنص المادة الأولى من نظامها الأساسي، بمثابة الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، وهي تقوم بعملها وفق نظامها الأساسي الملحق بالميثاق، والذي يعتبر جزءاً لا يتجزأ منه. وقد اختلفت محكمة العدل الدولية عن محكمة مشابهة سبقتها هي "المحكمة الدائمة للعدل الدولي" (1920 - 1946)، حيث كان النظام الأساسي لهذه الأخيرة بمثابة وثيقة أو معاهدة دولية مستقلة عن عهد عصبة الأمم. وقد ترتب على هذا الوضع الخاص لمحكمة العدل الدولية في علاقتها بالأممالمتحدة نتيجة مهمة، مؤداها أن أعضاء هذه المنظمة يكونون في الوقت ذاته ودون حاجة إلى أي إجراء خاص أطرافاً في النظام الأساسي للمحكمة. ولم تعمل محكمة العدل الدولية بوصفها جهازاً من أجهزة الأممالمتحدة وحسب، وإنما عملت أيضاً بوصفها جهازاً للقانون الدولي، فهي لا تعطي فقط آراء إفتائية لأجهزة الأممالمتحدة، ولكن تصدر أحكاماً بشأن المنازعات التي ترفعها إليها الدول بصفتها هذه أيضاً. وقبل نحو عقدين من الزمن، أقيمت محكمة لمعاقبة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة، بقرار من مجلس الأمن الدولي، صدر في العام 1993. بيد أن هذه المحكمة لم تحصل على التمويل الكافي حين إعلانها، أو على الدعم السياسي الفاعل، كما لم تتمكن من احتجاز عدد من المتهمين الرئيسيين . وحتى حين تحرك حلف شمال الأطلسي (الناتو) ضد جيش صرب البوسنة، وفرض معاهدة "دايتون"، التي أنهت الحرب، كان على المحكمة أن تنتظر عامين آخرين تقريباً، حتى تموز/ يوليو من العام 1997، لتبدأ قوات الحلف باعتقال المتهمين بجرائم حرب في البوسنة. ومع ذلك بذل النظام القومي في كرواتيا ونظام الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش في صربيا جهودهما لعدم التعاون. ولم يواجه ميلوسيفيتش الإدانة إلا في العام 1999 ، خلال حملة الناتو في كوسوفو، كما أنه لم يرسل إلى لاهاي إلا بعد الثورة التي اجتاحت صربيا في العام 2000. ودخل قاعة المحكمة لأول مرة في شباط/ فبراير من ذلك العام. وقد جرت محاكمة ميلوسيفيتش في ضوء أكثر من 60 تهمة تتعلق بارتكاب جرائم حرب، بسبب دوره في النزاعات الثلاثة الكبيرة التي مزقت يوغسلافيا السابقة في كرواتيا (1991-1995) والبوسنة والهرسك (1992-1995) وكوسوفو (1998-1999)، فضلاً عن تهم بالإبادة الجماعية في البلقان في تسعينيات القرن العشرين. وباعتبار أن ميلوسيفيتش لم يكن متهماً بارتكاب التطهير العرقي بيديه، فإن أي حكم يصدر ضده كان يجب أن يستند إلى إثبات مسؤوليته القيادية. ويجب على الادعاء إثبات أنه أعطى أوامر بالقتل أو أنه عرف بأمر المذابح وقرر ألا يوقفها. ولتحقيق نجاح حقيقي، كان يجب على المحكمة أن تثبت أن ميلوسيفيتش لا يمثل فقط قمة تسلسل القيادة العسكرية الصربية، بل إنه هو قائدها الفعلي. ولزعزعة مزاعم ميلوسيفيتش بعدم مقدرته على فعل شيء، كان على الادعاء أن يظهر بالضبط كيف كان نظامه يتحكم بكامل جهاز القتل والتهجير العرقي. وهذا يعني الخوض في التفاصيل لتحديد أصحاب الأيدي الملوثة، ومن أين أتى القتلة، وكيف كانت وحدات القوميين الصرب خارج حدود صربيا تنسق هجماتها، وكيف كانوا يتفاوضون مع الآخرين ونيتهم عدم الوفاء بتعهداتهم، وكيف خدعوا الأممالمتحدة والعالم، ومن الذي أعطى الأكاذيب لمن، وكيف كان كل ذلك يجري تبعاً لأوامر تأتي من الأعلى. وقد مات ميلوسيفيتش في سجنه بلاهاي قبل أن تكتمل فصول محاكمته. وبالعودة للوضع الليبي ذاته، المطلوب بداية جمع الأدلة الحسية التي توضح الانتهاكات التي اقترفتها أجهزة ومرتزقة نظام معمر القذافي، والتي تدخل في إطار جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية. وهذه مهمة راهنة وفورية، لأن أي تأخير قد يتسبب في طمس أو فقدان بعض أكثر الأدلة حيوية. إن المطلوب من شباب الثورة الليبية تشكيل فرق خاصة لجمع وتوثيق وتدوين الأدلة، وأخذ صور للشهداء، تُظهر طبيعة الإصابات المميتة التي تعرضوا لها، وكذلك صور وشهادات للجرحى، وإفادات الأطباء بشأنها. وهناك حاجة أيضاً لأخذ إفادات شهود العيان بالصوت والصورة. وكذلك الاحتفاظ بعينات من التربة والأبنية التي تعرضت للقصف الجوي أو لسواه من القصف، وذلك بهدف تحليلها، لمعرفة نوع الأسلحة والذخائر المستعملة، وتاريخ ومكان تصنيعها. ومن المفيد أيضاً أخذ صور للطائرات المغيرة وهي تقترب من أهدافها، متى بدا هذا ممكناً، وذلك من أجل تحديد زمن الغارة ونوع الطائرة المغيرة (على نحو تقريبي)، لأن ذلك سيكون ضرورياً في التحقيق الذي سيتم إجراؤه فيما بعد لمعرفة من نفذ الغارة، ومن كان المسؤول عن إصدار الأوامر في تلك الساعة. إن حجم المجازر والدمار الذي لحق بالشعب الليبي الشقيق يعني، من الزاوية الإجرائية، أن هناك حاجة لجمع آلاف الأدلة الميدانية، استعداداً لمحاكمة نظام القذافي، فهذه المحاكمة ستكون إحدى أكبر المحاكمات في تاريخ البشرية..