تطالعنا في الثقافة العراقية اليوم مسارات معقدة ليس من السهل دائماً الاحاطة بآليتها، نظراً لأن ما يكتب من داخل العراق لا يجيب على ما يُنتظر منه وليس بمقدوره ان يؤدي وظيفة ما إلا تلك التي حددها له النظام مسبقاً. ولقد أضحى جلياً ان النظام لن يترك أحداً او جماعة من دون عبودية، وليس لأحد مهما كان قريباً منه ان يأمنه، حاضراً او مستقبلاً، فكأن هناك قدراً أسود لا يفوته شيء ولا يوقفه شيء، يمسك برقاب العراقيين من دون تفرقة ويحول الزمن الى سرطان لا يتوقف نموه. ها هو النظام مرة أخرى يراهن على تحولات جديدة، متشبثاً بنجاح واهن. وها هو مقال يخرج من بغداد المحاصرة، حيث الرقابة صارمة. المقال نشرته "الحياة" في 18 من الشهر الماضي بعنوان "المبدعون المقيمون للتسامح" والكاتب، فاروق يوسف، عُرف حزبياً ملتزماً في السابق وكان بين مَنْ تذوق طعم السلطة. لكنه تضرر كغيره بالحصار الاقتصادي فوضع بينه وبين السلطة مسافة ما وسافر الى عمان بحثاً عن الرزق ثم عاد الى بغداد ثانية مزوداً بأخبار المهاجرين. وقبل مقال فاروق كان النظام اطلق حملة سياسية خاطب فيها المعارضة العراقية ككل وعرض على لسان أكثر من كاتب عراقي وعربي نفس ما عرضه مقال فاروق، أي التصالح من دون ان يتخلى عن اتهامه القديم لها بأنها عميلة! ومقال فاروق في الثقافة، يسير متوازياً مع هذا الخط السياسي. ولأنه مكرس لما هو ثقافي فقد كان ممكناً في هذه الحالة وضعه موضع استثناء واعتباره غير موحى من أحد ومستجيباً لنداء تطلبات الكاتب الداخلية. لكن ما يمنعنا من تصديق ذلك هو مغالطاته الكثيرة، من ناحية، وتزامنه مع الحملة السياسية المذكورة من ناحية ثانية، ثم تشابهه، من حيث المضمون من ناحية ثالثة، فقد صب، هو الآخر، على مثقفي الخارج اللعنات مشفوعة بالتسامح، والتزاماً بالنص الحكومي الأصلي، وقبل ان يعرض التسامح دمغهم بالعمالة لهيئة الأممالمتحدة واتهمهم بالكذب ومهاجمة مثقفي الداخل بلا هوادة، وفي المقابل أزجى لثقافة النظام ما تستحقه من مدائح، فهي في رأيه واقعية، تقاوم الحصار وتتعلم دروساً جديدة. وتستند الحملتان، الثقافية والسياسية، الى منطق مشترك واحد مفاده ان النظام الحالي باق، على رغم كل ما واجهه من تحديات، فغير مسموح اذن بأي جدل حول امكانية تغييره. ويجب، في هذه الحال، التسليم بما هو قائم. اما الاخلاقية التي تعرض هنا فخطيرة، إذ عليك ان تنسى انك عاقل، انك حي، ويتعين ان تعيش من أجل العيش نفسه! ويبدو ان مثل هذا المنطق الزامي، فالنبرات، مهما اختلفت مترددة بطريقة او بأخرى، ولا بد، في حقل الثقافة من عرض المأساة بطريقة تجعلها أشبه بقصة هادئة وملطفة. يبدأ الكاتب أولى مغالطاته بتقسيم الثقافة حسب الجدول الحكومي الى ثقافتين، ثقافة داخل وثقافة خارج، الأولى واقعية وتتغذى من الوقائع، فهي لذلك، ترسم وتكتب وتقرأ وتشاهد وتقاوم الحصار ببطولة، وستموت مع النظام إذا تعرض لأي عدوان. والثانية ثقافة الخارج "عقائدية" و"خفيفة" و"كذابة" و"تطقطق بفقاعات دعائية" و"تعتبر الوطن مجرد سقيفة" و"تقيس مسافاتها عن الوطن بمقاييس الجمعية العامة للأمم المتحدة" الخ. وبعد كل هذا الاحتقار الحاسم لهذه الثقافة يعرض على أهل الخارج التسامح! وهذا العرض المقدم في شكل مكرمة لا يحوي في رأي الكاتب ورأي السلطة أي تناقض. دأبت السلطة منذ البداية على انكار وجود المصيبة الشاملة التي هي الدكتاتورية، انكرت وجود الموت والحروب والخسائر والاعدامات وفرضت حب القائد على الجميع كسخرة واتخذت وضع البقاء بين حربين او عدة حروب أسلوباً للعيش، وصيرت المواطن مخلوقاً ينتظر الموت في أية لحظة، ومن ناحية ثانية اوجدت له "علم جمال بعثي" وعلمته "نظرة اعادة كتابة التاريخ" واعتبرت "كل مواطن بعثياً وإن لم ينتمِ". ومنذ ان لوحت السلطة بالشعار الأخير ودعمته بالمال والاستخبارات والجيش و"الميديا" بدأ العراق يهتز روحياً، فانقسم فعلاً الى أجزاء والى أجزاء الأجزاء، واختفى منه كل ما يوحي بأنه أحد أغنى أقطار العالم الثالث التي ستتحول الى مصاف الدول الحضارية المتقدمة. وتبعاً لهذه التجزئة تجزأت الثقافة ايضاً، لا على أساس جغرافي، داخل/ خارج، كما أورد الكاتب، بل على أساس النوع والتوجه، فالأولى ثقافة سلطة ديكتاتورية، نموذج انتاجها هو "الأيام الطويلة" والنصب التذكارية وجوقات الانشاد المربدية ومئات الرسوم والقصائد والافلام والكتب والمسرحيات والمهرجانات الرخيصة التي أفرغت الحياة من شواغلها الحقيقية. ولعل خير وصف لها جاء في مقال الكاتب نفسه، فممثلوها عبارة عن "منشدي شعر ورسامي لوحات وصانعي تماثيل ومشيدي عمارات حسب الطلب". هؤلاء، وليس الشعب العراقي، هم من "اشعلوا الحروب وكانوا ضحايا لنارها"، هم انفسهم من تساهلوا مع انفسهم فصاروا بناة "أدب تعبئة" ودعاة عقائد وحملة مسدسات وكتاب "قصائد الحرب" وأصحاب رتب عسكرية ونياشين وقادة مهرجانات والمصدر الوحيد لأية معلومة تصدر عن القائمين على الاعلام والرقابة. هؤلاء لم يتكلموا إلا من أجل السلطة ولم يكن لهم أي انتاج أصيل ولم يسعوا إلا لأجل توحيد الجميع في صوت ملتزم واحد يكون بالتالي عار الجميع. اما الثقافة الثانية، فهي ثقافة الشعب المقموع بكل تنوعاته وأصوله من الظلم العميق ربطها بالثقافة الأولى، فهو الرهينة وهو من يحتك يومياً بالجهاز المرعب، وهو وقود الحرب المرسل الى الخطوط الأمامية، وهو الذي يجوع ويبيع كتبه وأثاث منزله، بل حتى أبواب بيته ونوافذه لكي يستمر في العيش، لكنه من ناحية أخرى يكتب وينتج ويقاوم قدره المعاكس، وهو الممثل الوحيد للثقافة الحقيقية، وهو من سيخط السطور الحقيقية لما يجري وجرى في الداخل، وهو من سيظهر الصورة التي لم تظهر بكاملها بعد. اما الآن فيكفي استمراره في العيش، لأن هذا وحده معجزة، ومجرد استمراره هو نصر حاسم ضد الموت. ينتقد الكاتب كل الأجيال المنفية والمهاجرة على السواء، علماً ان عدد هؤلاء يقدر بثلاثة ملايين عراقي، لكنه يركز على المثقفين في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات والستعينات ويشخصهم بأنهم "بعثيون وشيوعيون ودينيون". ويزداد تركيزه على المهاجرين الجدد المصطفين طوابير أمام مفوضية هيئة الأممالمتحدة في عمان، فهؤلاء، من وجهة نظره، "كذابون" وحملة "اضبارات اضطهاد ملفقة" و"يعتبرون الوطن مجرد سقيفة" وهم بالتالي "ضحايا لعبة دولية". يتيح لنا هذا الكلام ان نتصور حجم الاستهانة التي يتناول بها الكاتب هذه المأساة وحجم الاحتقار الذي يكنه للمهاجرين، انه يسخر من عذاباتهم ويجعلهم مرتكبي أعمال قذرة لمجرد انهم أفلتوا من قبضة النظام وقدموا طلبات لجوء الى بلدان أوروبا. ولم يلفت نظره انهم كانوا بالآلاف وأن عدد من نجح منهم في ايصال طلبه الى المفوضية في عمان وحدها بلغ 38 ألفاً، حسب احصاء المفوضية نفسها. وطبعاً فإن هؤلاء من وجهة نظر الكاتب ليسوا ضحايا ارهاب، وقد كان عليهم ان لا يتوجهوا الى العالم الخارجي، طلباً للنجدة …. في السابق كان مثقفو السلطة يطرحون علينا اسئلة مريبة، منها: ماذا فعلتم للثورة؟ ماذا فعلتم للحزب؟ اما اليوم فالسؤال على لسان الكاتب هو: ماذا فعلتم من أجل فك الحصار، ماذا فعتلم للمحاصرين؟ فكأن الزمن الأسود هو هو وكأن لم يتغير شيء رغم كل هذه المحن، فليس المقصود هنا سماع أجوبة، بل توجيه اتهام او اجراء تحقيق، هذا إذا كان المعني بالسؤال موجوداً في الداخل …. العراقيون لا يحتاجون الى شهادات تثبت انهم مضطهدون، غير ان البعض يحتاج، وهؤلاء كما نعتقد هم من مثقفي السلطة نفسها، فقد جاءت ساعات اليقظة بالنسبة للجميع، وها انها تشمل جزبيين كانوا يعتقدون حتى الأمس بأن لهم حزباً وليس عشيرة، ثم اكتشفوا انهم مخدوعون، وها ان تقلبات الزمن تسحق حتى من خدم السلطة الى آخر نفس وها ان المخاوف تطل من وراء زمن ليس لهم، زمن أسود سيكون ضدهم هذه المرة. وفي هذه العناصر تشكل طابور مهاجر آخر وقد انضم هذا الطابور الى ضحاياه السابقين وكان عليه وهو يحاول الخلاص ان يخفي سجلات الماضي وأن يزور الحقائق. لا بد ان الكاتب كان يفخر، في بعض مقاصده، بهؤلاء ونحن هنا نصدقه ونوافقه على وجود مثل هذه الحالات، لكننا، من ناحية ثانية، نرفض تعميماته، فهو لا يستطيع بهذه الأمثلة الشاذة انكار وجود الارهاب في بلد أشتهر بفجائعه المستمرة، بل هو هنا يؤكد على احتراق الجميع بنفس النار، وعلى انصهار الجميع في محطة شتاء واحدة. هنا لا يستطيع الكاتب ان ينكر ان السلطة اضطرت أكثر من الفي مثقف الى الهجرة خارج أسوار الوطن وابقت من لم يستطع الهجرة داخل أسوارها، سجيناً للجوع والتعتيم والارهاب والغد الغامض، وبالنسبة لهؤلاء فقد تحول الوطن الى خربة شتاء. فهل يمكن لثقافة حقيقية، في مثل هذه الأوضاع، ان تستجيب لحاجتها من الكلام وأن تجازف بالتعبير عن نفسها بحرية، ام ان ثقافة الجوقات هي التي ستعلو على السطح وهي التي ستصوغ الوقائع وأنها هي الملهم وهي الأول والأخير؟ نعود الى قصة المهاجرين ونقول مع الكاتب بأن البعض زور شهاداته لأنه كان منتسباً الى السلطة وتوجب عليه اخفاء سجلاته الحقيقية. هذا البعض تعلم مهارات المسرح واستطاع، بتغيير اقنعته، ان يخدع مفوضيات هيئة الأمم وأن يعيد بناء خدائعه في الخارج بطريقة أخرى جديدة، بل ان البعض وفق الى صعود سلالم عالمية، فحصد في غفلة من الزمن جوائز الشعر والنضال على مستوى عالمي هذه المرة، وكان حتى يوم أمس، ومتى استطاع ذلك، يلقي بالآخرين من فوق الحائط، حتى إذا تسنى له الافلات مدّ لسانه للجميع قائلاً: موتوا بغيظكم! عند الحديث عن الثقافة في الداخل، يخبرنا الكاتب انها بخير، لكننا للأسف لا نستطيع تصديقه، على الأقل لأننا نتلمس يومياً وقائع ملموسة. وأقل ما نعرفه، بهذا الصدد، هو ان الاتصال الشخصي يكاد يكون مقطوعاً مع الداخل وكل شيء مراقب اعتباراً من الرسائل وانتهاء بالتلفونات، اما المطبوعات فممنوعة منعاً باتاً عدا ما يوافق سياسة السلطة. نعرف ايضاً ان مئات من الكتاب العراقيين، وأنا بينهم، منع تداول كتبهم، ونشرت وزارة الداخلية قوائم كاملة بأسماء الكتب والكتّاب، علماً بأن بعض هذه الكتب لا يمس الدولة لا من قريب ولا من بعيد، ولم يجر المنع إلا لقطع الحبل السري مع الخارج قطعاً باتاً. نعرف ايضاً ان عشرات المثقفين سجنوا وعذبوا وأن بعضهم اختفى نهائياً، والسعيد من يعلم أهله بموته، وفي هذه الحال توضع جثث الذين اعدموا في اكياس قنب وترمى أمام بيوت ذويهم، على ان يمنعوا من اقامة عزاء، وأن يدفعوا في بعض الأحيان ثمن الطلقة التي اطلقت على القتيل. ويكشف لنا سجل المفأجآت عن فرق اعدام مؤلفة من مثقفين تجبر او تتبرع بتنفيذ احكام اعدام ضد مثقفين آخرين … ان نظام بغداد لا يفرق بين مثقف وغير مثقف فقد عمل بدأب، ومنذ البداية، على تحويل الشعراء الى جلادين، برغبتهم او رغماً عنهم. وطبعاً ليست للسلطة اية حساسية تجعلها تعتقد ان مثل هذه الأعمال هي جرائم بحق الانسانية …. وفي مثل هذه الظروف ينتهي، كما نعتقد، كل أدب وكل ثقافة، ولن نتكلم عن فن ولا عن خلق، فهذه الكائنات تصر على ان تأخذ الخراب حتى نهايتها. وبعد ان اوهمنا ان البعض غيّر مواقفه ومواقعه لأن حجم النكبة ألانت قلب الحجر، جاءت مغالطات الناقد فاروق يوسف لتعيد المأساة مسافات الى الوراء، فما زال النظام على عادته، يضع في أفواه كتابه أقاويله وطروحاته القديمة، وما زلنا في نفس المكان، حيث كل شيء عبارة عن حيل ومراوغات لفظية وحيث ما من أحد يحمل وجهه الحقيقي، وحيث القيم الانسانية، ومنها قيم التسامح تعامل باحتقار كامل. كان أجدى لفاروق ان يطلع على الأدبيات التي أصدرها مثقفو الخارج عن التسامح وأن يطلع على البيان الذي وقعه مئات المثقفين بهذا الصدد، ففي هذا البيان وضعت الأسس الأولى التي تراعي جميع المصالح وتعد الجميع بحرية لا تزال ممكنة، وتجمع الكل تحت سقف الوطن الواحد. لكن فاروق يتحدث من بعيد، وحتى لو ظن انه يجسد تأملات شخصية فلن نستطيع، للأسف، تصديق ذلك، فمنطقه هنا هو منطق النظام نفسه، والجديد فيه هو انه حول وحشية النظام الى عاطفة نبيلة، الى تسامح؟ اما الأكثر غرابة فإن يتشكى الكاتب من أهله في الخارج لأنهم قتلوا أخاه: أهلي، همو قتلوا أميم أخي فإذا رميت أصابني سهمي ما هذه العذوبة الحالمة؟ اننا نشفق عليك من رقّتك، فمن قتل مَنْ يا رجل؟ وهل هناك من يمعن في احتقار الحقائق الى هذا الحد؟