الأفكار بالغاً ما بلغت من التجريد، ينتهي بها المطاف إلى التجسد في أشياء أو مواضيع. وقد يجوز إيجاز العالم أو اختصاره، اليوم، في شيئين أو غرضين، وليس في كلمتين أو لفظتين. فالأشياء حقيقية، وهذا يخولها التخفف من الواقعية، ويحملها على استجابة رغباتنا وأهومتنا. والحق أن دور الرغبات والأهومة في تكوين العالم ليس أقل من دور موازين القوة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ما لم تولد الأحلام والرغبات نفسها من الموازين هذه. وهو ما قد يوحي به الشيئان: سيارة تاتا نانو (سيارة مصانع تاتا الهندية وهي صغرى السيارات وأرخصها) وحقيبة بلييَّاج لونشان الفرنسية. والسيارة الهندية مرآة تعاظم قوة البلدان الناشئة، وإثرائها السريع والظاهر والمتفاوت. وتاتا نانو هي «سيارة الشعب» وثمنها 2000 يورو، وتشبه شبهاً قوياً سيارة الحصانين («دوشيفو») الفرنسية غداة الحرب الثانية. وبادرت المجموعة الصناعية العائلية تاتا إلى الإعلان عنها وصناعتها قبل سنة ونصف سنة. وافترضت المجموعة أن نانو الصغيرة محط رغبة مئات الملايين من هنود الطبقة الوسطى وانتظارهم، وأن مبادرة المجموعة إلى صناعتها سبق صناعي وتجاري وتسويقي عظيم، ولن يعدم أثراً عميقاً في صناعة السيارات وتجديدها. ولم يتردد راتان تاتا، وهو رجل الفريق الصناعي البارز وملهمه، في الإعراب عن يقينه. وماشاه المراقبون الأوروبيون وتابعوه وهم لم ينسوا موجة مبيعات سيارة ال «دوشيفو» في أوروبا أثناء الاستلحاق الاقتصادي غداة الحرب. وذهبوا مجمعين إلى أن الهند ولدت سنواتها الثلاثين المجيدة، على ما سميت سنوات الازدهار المتصلة طوال ثلاثة عقود تقريباً (1946 – 1973) بأوروبا والولايات المتحدة. لكن الوقائع خيبت التوقعات. ومبيعات سيارة نانو الصغيرة إلى اليوم قرينة على إخفاق مدوٍّ. وفي تشرين الأول (أكتوبر) من العام الفائت، أثناء عيد ديوالي الهندي، وهو عيد الفرح والأنوار والهدايا وذريعة شراء الهنود الثياب الفاخرة والحلي المذهبة وأجهزة ال «هاي فاي» والثلاجات والسيارات، عزف الهنود عن شراء سيارة النانو. لكن بورجوازية المهندسين والأطباء وتقنيي المعلوماتية والمحاسبين الصاعدة هجمت على شراء نماذج أخرى من السيارات الأقل شظفاً من النانو، والأحسن تجهيزاً، والأفسح، مثل الهوندا سيتي أو الهيونداي سانترو. وهذه النماذج أغلى ثمناً، وتتيح إعلان ارتقاء اجتماعي ملموس يحرص الهنود الجدد، العاملون في المهن الناشئة، على إظهاره واستعراضه. وهذا الإخفاق عميق الدلالة. فليس في الهند المتألقة محل ل «سيارة الشعب» أو لل «دوشيفو»، على ما سميت النانو أحياناً. وذلك لأن الشعب، في الهند، يمتطي الدراجة الهوائية، أو يجمع العائلة على دراجة نارية من طرز السكوتير أو طرز ريكشاور، وهي مركبات على ثلاث عجلات تفتقر إلى أبواب. وفي المدن الكبيرة والمكتظة، ينحشر الشعب في حافلات مُترَعة، ويتسلق الجرارات والشاحنات والمقطورات في الأرياف. وبيعت النانو بألفي يورو، أي نحو 100 ألف روبية (وفي الأثناء تردى سعر صرف الروبية)، وهو ثمن في متناول معظم الهنود. وتبلغ المداخيل العائلية 700 إلى 3000 يورو في السنة، وتعد العائلة 5 أشخاص. وعليه، فالطبقة المتوسطة الهندية العتيدة أقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقع، ولا تشبه الطبقات المتوسطة الأوروبية أو الغربية إلا شبهاً بعيداً وضعيفاً. أخطأ تاتا الهدف حين أوكل إلى سلاسل مصانعه صناعة النانو، فهي غالية السعر قياساً إلى قدرة الفقراء، وتفتقر المكانة والبهرجة اللتين تحلم بهما الفئات الصاعدة التي يسعها أن تشتريها. فإذا قُصد بها الرمز إلى ارتقاء جماعي ووطني، على ما أوحى راتان تاتا، قصَّرت عن التمثيل على تطلعات الطبقة الهندية المتوسطة. فالارتقاء الاجتماعي يفترض توافر السكن والتعليم والصحة على شاكلة خدمات عامة ترعاها مصالح أو إرادات مشتركة، على المثال الأوروبي غداة الحرب. وهنود الطبقة المتوسطة يحصلون على السكن والتعليم والصحة من طريق كفاح يومي وفردي أو بالأحرى عائلي، على ما يصف أبها داويزار في روايته «ميراث الهند». والناس الذين يبذلون الغالي والرخيص في سبيل وصل كهربائي ثابت، أو في سبيل العلاج في عيادة خاصة موثوقة والدراسة في مؤسسة تعليم مناسبة، هؤلاء يرغبون في جزاء فردي أو عائلي يكافئ ما يبذلونه. فما شأنهم و «سيارة الشعب» وهم لا يدينون بشيء مما بلغوه إلى المكاسب المشتركة أو الاجتماعية؟ ففي الهند اليوم، لا يسع الأطباء وخبراء المعلوماتية وصغار أصحاب التجارات المزدهرة وأطر الشركات الحلم بالارتقاء الاجتماعي إلا لأنفسهم وأسرهم. وهم يريدون الإثراء الفردي. وعلى سيارتهم أن تنهض قرينة على مكسبهم، وعلى سبقهم غيرهم وتفوقهم عليه. ولعل فشل النانو التجاري ثمرة الانقلاب، منذ زمن طويل، على مثال التقشف الغاندي. والدليل على هذه الحال هو صنع راتان تاتا نماذج جديدة أغلى سعراً (من النانو)، وأحسن تجهيزاً، مثل التاتا نانو دولوكس، أو النانو غولدبلوس الغريبة وذات الهيكل العظمي المطلي بالذهب. فهي تشبه «دوشيفو» لماعة وفاخرة، متناقضة، وصممت بقصد أن تستجيب نزعات طبقة متوسطة تقدم رغبتها في الامتياز على مثال آخر دعا إليه نهرو: فالنخبة لا تسعى في تحرير الشعب على قدر سعيها في التخفف أو التحرر منه. وينبغي أن يبدد هذا التباساً أو وهماً يداعب خاطر مراقبين أوروبيين أو نخب هندية على حد سواء. فالهند الناشئة ليست أوروبا غداة الحرب (الثانية)، ولا تسير على خطاها. وازدهارها السريع لا يشبه أعوام الثلاثين المجيدة، ودمجه طبقات شعبية في كتلة متوسطة وعريضة. وارتقاء طبقة متوسطة تعد مئات الملايين من الأشخاص المتعلمين والمتطببين والحائزين على السلع المعمرة والسيارات الملائمة، وعلى السكن اللائق، لا يزال خيالاً في البال. فالنمو الهندي السريع والفظ يفتح الباب على مصراعيه لتفاوت اجتماعي حاد. والوجه الآخر للعولمة، والفروق الاجتماعية والمرتبية الحادة التي تنشأ عنها، هو حقيبة «بلييَّاج لونشان». فعلى خلاف فشل تسويق النانو، وسع صانع السلع الجلدية الفرنسية، لونشان، بيع 12 مليون حقيبة في غضون الأعوام ال15 الماضية. ولعل السبب في انتشار بلييَّاج هو ما أودى بالنانو: سوء فهم المقصود بالسلعة. فالشيء الفرنسي هو حقيبة مصنوعة من النايلون الخفيف الموشح بالجلد الأنيق والمَوسوم بوسم فارس وباسمٍ يوحي بالعمل الحرفي المتقن. والحقيبة كثيرة أوجه الاستعمال. فإذا امتلأت بأغراض حاملها (حاملتها على الأخص)، فمن أيسر الأمور تفريغها وطيها، فلا يزيد حجمها عن حجم محفظة. وقد تكون ميزتها الأولى إقناعنا بأن ما يبدو لنا، في أثناء رواحنا ومجيئنا، أثقالاً لا مناص من تحملها ليس إلا ثمرة تقلبات مزاجنا. والحقيبة تجمع وقت الانتقال والضرورة المهنية وتلبية الحاجات العملية والحياة العائلية في «لعب» واحد، ومتداخل بعضه في بعض، على شاكلة الحقيبة: فهي محببة إلى القلب، ملونة ومتخمة وعملية، تميل مع الأهواء والرغبات الشخصية ما شاء حاملها. وفي مستطاع من أراد أن يبتكر حقيبة بلييَّاج على موقع الماركة على الشبكة، ويقترح على الشركة صناعتها له على وجه التخصيص، كناية مضمرة عن ابتكار واحدنا حياته وسيرته. فنحن كلنا، من غير استثناء، «أحرار ومبدعون»، على زعم الكناية السلعية. والسلعة مرنة، تنتقل بين الامتلاء والخواء نزولاً على رغبتنا، على مثالنا المفترض والمرغوب. والسلعة رخيصة السعر، تباع ب50 إلى 150 يورو بحسب الحجم (بينما بلغ متوسط سعر الحقائب الجلدية في العشرين سنة الأخيرة 400 أو 500 أو 700 يورو). والسبب هو غلبة النايلون على الجلد. وشركة لونشان يعود إنشاؤها إلى مستهل الثلاثين عاماً المجيدة، في 1947. وجمهورها المفترض هو جمهور عالمي، أكثر ثراء من البورجوازية المحلية (الفرنسية) المتواضعة وأقل حرصاً على الظهور بمظهر الحفاظ على مكانة بورجوازية مرموقة. وهي مصنوعة من مادة رخيصة هي النايلون. وهذا قرينة على أن صاحبها لا يحمل مكانته على محمل الجد الصارم والضيق الذي عرفت به البورجوازية القديمة. والحقيبة لعوب أو ماجنة، وتنتقل بين أحوال متفرقة ومختلفة من غير حرج: البسط والقبض، الأناقة والبساطة، الماركة المهيبة ويسر التناول. فهي طباق محمول باليد. وعلى شاكلة ال «دوشيفو»، مرة أخرى، يرغبها العمال والمثقفون معاً، وتدعوهم دواعٍ متباينة إلى الرغبة فيها. وتتستّر الحقيبة الفاخرة والمتواضعة في آن على تعاظم الهوة بين الطبقات. وتحل محل عدالة التوزيع الاجتماعية، أو هي توهم شكلاً وظاهراً بالحلول محلها، بينما تتردى أحوال الطبقة الوسطى، وتهوي من علٍ إلى الحضيض، وتخسر شطراً عريضاً من عديدها وشارات مرتبتها، على ما لاحظ لوي شوفيل وبيار – نوويل جيرو. ولا تلبث السلعة في أعقاب سنتين من الاستعمال والغسل، وعلى خلاف مزاعم البائعة، أن تسفر عن الهرم والتجاعيد، شأن وعود العولمة والعقد الاجتماعي الوطني. * صحافية كتبت «الهند تغزو العالم» (2007)، عن «إسبري» الفرنسية، 8-9/2011، إعداد منال نحاس