منذ أفلامه الأولى، لم يَسْهُ عن اللوبيات اليهودية في أميركا والعالم، أن سينما ستيفن سبيلبرغ هي، بعد كل شيء، سينما تحمل أفكاراً وقيماً مستمدّة في معظمها من جوهر الأساطير التي رسمت ما يحلو للمفكرين اليهود أن يعتبروه جوهرَ الفكر اليهودي. لكن هذه النظرة بدت دائماً على شيء من الاعتدال، خاصة ان سبيلبرغ طوّع أفكاره ليحولها الى افكار انسانية بشكل عام. لكنه حين حقق «قائمة شندلر» قبل أكثر من عقد من السنين ونيف، ليتحدث من خلالها عن «الهولوكوست» (المحرقة)، وعن صناعي ألماني نازي تمكن في بولندا خلال الحرب العالمية الثانية، حين راح النازيون -بأوامر من هتلر- يذبحون اليهود كوسيلة «مثلى» لإيجاد «حلّ نهائي» لما كان هتلر يعتبره «القضية اليهودية»، تمكن من انقاذ عشرات اليهود من المذابح، تحوّل سبيلبرغ ليصير، بسرعة، الابن المدلل للفكر الصهيوني، وهو ثنّى على ذلك بتمويله نشاطات عديدة تتعلق بتاريخ «الهولوكوست». ومع هذا، طلع في ذلك الحين من ينتقد سبيلبرغ، في الاوساط الصهيونية، بحجة انه حين قرر أخيراً أن يدنو من تلك القضية التي تشكل «عصب الذاكرة» اليهودية، دنا منها من خلال إضفاء البطولة والطابع الإنساني على «نازي ألماني غير يهودي». كان هذا كثيراً بالنسبة الى هؤلاء المنتقدين، حتى وإن كانت حكومات اسرائيل تقرّ بفضل ذلك «النازي» وتقيم له نصباً، يرينا سبيلبرغ إياه آخر الفيلم. هؤلاء المنتقدون أنفسهم، سيكون سبيلبرغ هو من سيضع ماءً في طاحونتهم بعد سنوات، حين يحقّق واحداً من أكثر أفلامه اثارة للسجال «ميونيخ» (2005)، هذا الفيلم الذي بناه على حكاية حقيقية تتعلق بانتقام حكومة اسرائيل وأجهزة مخابراتها من الفلسطينيين، الذين افترضت انهم العقول المخططة لعملية خطف الرياضيين الاسرائيليين خلال دورة ميونيخ الأولمبية عام 1972 والقضاء عليهم، أي قادة التنظيم الذي كان يطلق على نفسه اسم «أيلول الأسود». عندما عُرض «ميونيخ» وكثُر الضجيج من حوله، صرخ منتقدو سبيلبرغ بانتصار: «ألم نقل لكم؟ ها هو هذا السينمائي اليهودي الأميركي يعبّر مرة أخرى عن عدائه لإسرائيل وقيمها وتاريخها!». طبعاً ردَّ سبيلبرغ يومَها، بل شاركه في رده واحتجاجه على مثل تلك «التهم» عدد من كبار النقاد والصحافيين... وفي تلك الأثناء كان «ميونيخ» قد أضحى واحداً من كلاسيكيات السينما العالمية، وعلامة من علامات سينما المخابرات، ولكنه أصبح كذلك اصابعَ ممدودةً في وجه اجهزة المخابرات الاسرائيلية وفي وجه الحكومة الاسرائيلية، حتى وان سعى مخرجه فيه الى توازن شديد، وغض طرفه عن مسائل كان من شأنها ان تبدو اكثر ادانة لاسرائيل (مثلاً عملية ليلهامر في النروج، حيث قتلت الموساد ساقي مقهى لا علاقة له بالأمر، هو أحمد بوشيكي، على سبيل الخطأ، معتقدةً اياه أبو حسن سلامة، ما أثار العالم كله حين كشف الأمر). مثل هذه الامور اختفت من الفيلم، ومع هذا لم يسامح الصهاينة المتشدّدون مخرجه، ما أسفر عن حجب أوسكارات عنه في ذلك الحين كان يستحقها بالتأكيد. كما نفهم إذاً، يتحدث هذا الفيلم، انطلاقاً من عملية ميونيخ، عن القرار الذي اتخذته الحكومة الاسرائيلية بتصفية 11 قائداً فلسطينياً رداً على العملية. لكن الفيلم يؤكد لنا قبل هذا، ان الفلسطينيين الذين قاموا بالعملية، لم يكونوا هم المسؤولين عن الدماء التي سالت خلالها، بقتل 11 رياضياً اسرائيلياً مع الخاطفين. في الفيلم، لا ينسى سبيلبرغ ان البوليس الألماني هو الذي شنّ هجوماً عنيفاً على الخاطفين ورهائنهم، بناء على طلب الحكومة الاسرائيلية وتصلّبها في التعاطي مع مطالب الخاطفين التي كانت تنحصر في أمور ممكنة التحقق، مثل اطلاق سراح مائتي أسير فلسطيني. والحقيقة ان التذكير بهذا كان من العناصر التي أثارت أكبر قدر من الغضب الاسرائيلي على الفيلم، فكيف وسبيلبرغ صوّر بعد ذلك رجال الاستخبارات الاسرائيلية (الموساد) وهم يدينون حكومتهم، حتى خلال تنفيذهم العمليات؟ وكيف استبدّت المرارة ببعضهم إذ احسوا أنهم دمى مسيَّرة ونَزَع عنهم طابعهم الانساني امام سلطات لا يهمها سوى الانتقام؟ وكيف وقد فصّل الفيلم كوارث وأخطاء ارتكبت خلال تنفيذ العمليات آثرت السلطات السكوت عنها؟ ثم كيف خاصة والفيلم صور الضحايا الفلسطينيين الذين تم التخلص منهم خلال الشهور التالية بصور انسانية، مذكراً بأن واحداً منهم (وائل زعيتر) كان مترجم «ألف ليلة وليلة»، وثانياً رب عائلة يهتم بدروس البيانو التي تتلقاها ابنته... الخ. من الطبيعي أن الأوساط الصهيونية، كذلك أوساط السلطات الاسرائيلية، ما كان من شأنها أن ترتاح لفيلم يحققه يهودي (ربما يكون الفنان اليهودي الأشهر في العالم)، يصوّر واحدة من أكبر العمليات التي بنت عليها الاستخبارات الاسرائيلية سمعتها، بهذه الصورة التي تحمل كل هذه الإدانة... ومن قبل اليهود أنفسهم، بل من بينهم عملاء سابقون في هذه الاستخبارات؟ فالحال أن ستيفن سبيلبرغ حقق فيلمه انطلاقاً من كتاب عنوانه «انتقام»، وضعه صحفي كندي يدعى جورج جوناس معتمداً فيه على حكاية يوفال آفيف، الذي قدم نفسه كعميل سابق في الموساد شارك في العمليات الانتقامية ضد الفلسطينيين. في الفيلم قُدم آفيف باسم «آفنر» (الشخصية المحورية)، ولقد حاول نقاد صهاينة كثر أن يقولوا إن هذا الشخص وهمي ولا وجود له، لكنهم عجزوا عن اثبات ذلك. ثم إن سبيلبرغ ذكّر هؤلاء مرات ومرات، بأنه إنما يحقق فيلماً «لا ريب أن النصف الأول من أحداثه يحكي وقائع تاريخية موثّقة لا يمكن أحداً نكرانها»، مشيراً الى أن النصف الثاني، والذي يتمحور حول مواقف العملاء أنفسهم وغضبهم على سلطات حكومية واستخباراتية تتعامل معهم كآلات قتل لا أكثر، ينتمي الى السينما اكثر مما قد ينتمي الى الواقع التاريخي و «هذا طبيعي، فنحن هنا أمام عمل فني لا أمام درس أكاديمي» قال. وإذا كان «ميونيخ» قد اثار كل هذه السجالات في الأوساط الصهيونية والاسرائيلية، يصح التساؤل حول ما كان له وعليه من ردود فعل عربية. والجواب هو: لا شيء، باستثناء بعض المقالات الصحفية السريعة والقاطعة في رأيها وفي التعبير عنه. ولعل معظم ردود الفعل العربية ركزت على أن سبيلبرغ يهودي، وبالتالي فإن وراء الفيلم «لعبة صهيونية ومؤامرة» همُّها «تبرئة العملاء اليهود من تبعات تلك الجرائم التي ارتُكبت ضد القادة الفلسطينيين». وفي مقابل مثل هذه الآراء، التي يبدو أن معظم أصحابها لم يكلِّف نفسه حتى عناء مشاهدة الفيلم أو تحليله، كانت هناك آراء أخرى أشادت بسبيلبرغ، معتبرة إياه «منشقاً» عن اسرائيل الصهيونية. وبين مثل هذا الرأي وتلك الآراء، غاب أي نقاش حقيقي، كالعادة، بل حتى ندر أن نقلت الصحافة العربية في ذلك الحين، ولو صورةً عن النقاش الصاخب والحاد الذي دار من حول الفيلم، وبالتالي من حول دور السينما في التصدي لهكذا مواضيع، أو حقّها في ذلك. ولعل من المفيد هنا أن نذكر أن السجال من حول «ميونيخ»، الفيلم لا الحادثة، لا يزال قائماً حتى اليوم، وأن من فضائله، في سلبياته كما في إيجابياته، انه أعاد الى الواجهة النقاش حول العملية نفسها، بل حول مسألة الإرهاب وجذوره. فالفيلم، من دون أن يعطي أي تبرير للإرهاب طبعاً، طرح بعض المسائل الهامة حول جذور الإرهاب: من يصنعه؟ وكيف صنع؟ ودور الدول وأجهزة استخباراتها في ولادته (إن لم يكن في تنظيمه)، وفي الاستفادة منه في أحيان كثيرة. ولعل واحدة من اللقطات الاخيرة في الفيلم تكفي للتعبير عن هذا: آفنر، الشخصية الرئيسة في الفيلم، وصل الى نيويورك بعد أن رأى ان من المستحيل عليه مذّاك وصاعداً ان يواصل حياته في اسرائيل. وفي خلفية الصورة نشاهد برجي مركز التجارة العالمية. ترى ألم يضع سبيلبرغ في هذه الصورة فرضية للكيفية التي ساهمت فيها الاستخبارات الاسرائيلية في ولادة ذلك الإرهاب الذي سوف يضرب لاحقاً ذينك البرجين، في إشارة الى ولادة عصر جديد يلعب الإرهاب فيه دوراً كبيراً... لكنه إرهاب لا يمكن التعامل معه بتبسيطية الاسود والابيض، بل بكونه ظاهرة شديدة التعقيد تصلح أفلام مثل «ميونيخ» للدخول في تعقيداتها! [email protected]