تتيح نتائج الاستطلاع الأخير للرأي العام في الولاياتالمتحدة بعضَ التفاؤل للجمهوريين، وتدفعهم باتجاه قدر غير ضئيل من إعادة النظر بتوجهاتهم الحالية، فهذا الاستطلاع يفيد بأن الناخبين ينقسمون بالتساوي في ما لو جرت الانتخابات الرئاسية افتراضياً اليوم، بين التصويت للرئيس الحالي باراك أوباما وبين اختيار حاكم ولاية ماساتشوستس السابق ميت رومني كمرشح للحزب الجمهوري. هذا والحملات الانتخابية لم تبدأ فعلياً بعد، ولم يطرح رومني أو غيره تفاصيل برامجهم وتوجهاتهم، فمدلول هذا الاستطلاع، وهو الذي يدعم الاتجاهات العامة للاستطلاعات الأخرى، هو أن التفوق الذي تمتع به الرئيس أوباما لدى الجمهور يتبدل كالمعتاد إلى مواجهة غير محسومة بين طرفين. إلا أنه كي يتمكن ميت رومني من خوض المعركة في مواجهة الرئيس أوباما، لا بد له أولاً من الفوز بترشيح الحزب الجمهوري. فهل هو قادر على ذلك؟ لميت رومني سمات عديدة تسمح له بأن يصبح رئيساً قديراً، بل هو أثبت قدرته على التفاعل مع الحلفاء والخصوم بجدارة، حين فاز بمنصب حاكمية ولاية ماساتشوستس ذات الميل الصريح للحزب الديموقراطي، فيما صفته الحزبية جمهورية. وخلال تولِّيه الحاكمية، حقَّق رومني جملة هامة من الإنجازات، أهمها إصلاح النظام الصحي في الولاية لضمان شموله غيرَ المستفيدين من التأمين، ولتقديم خيارات وبدائل لأرباب العمل والموظفين. والواقع أن الرئيس أوباما كثيراً ما استدعى في مساعيه للترويج لإصلاح النظام الصحي على مستوى الولايات كافة، ما كان قد وضعه رومني موضع التنفيذ، وذلك في سبيل تنفيس المعارضة الجمهورية لمشروعه. والواقع أنه توجد بالفعل أوجه تشابه عديدة بين المشروعين، إلا أن الوطأة الضريبية لمشروع رومني، على ما يؤكده الجمهوريون، هي أخف في ولاية هي أكثر رخاء وأكثر ميلاً إلى تقبل البرامج الحكومية. واستعراض سجل ميت رومني ومواقفه (ما قبل خوضه معركة السعي إلى نيل ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية للعام 2008) يكشف عن توجه وسطي راسخ يوازن ما بين تشجيع مبادرات الأعمال وتحقيق التعاضد الاجتماعي. وحتى على مستوى المسائل الثقافية الخلافية التي تشق المجتمع الأميركي، مثل الحق بالإجهاض وحقوق المثليين، فإن رومني كان ميالاً إلى ما يمكن اعتباره منحاً توفيقياً يسمح بإرضاء جوانب من مواقف الجانبين المتخاصمين. إلا أن وسطية رومني هذه تبدلت بشكل صريح في إطار الحملة الانتخابية الماضية، فأصبح من أنصار السعي إلى تجريم الإجهاض ومنع المثليين من الاستفادة من عقود زواج، بل تطرق إلى كافة إنجازاته خلال توليه منصب حاكمية ماساتشوستس بلهجة نقدية توحي بأنه لا يعتبرها مقياساً لما يتوجب تطبيقه على مستوى البلاد. وبالطبع، يمكن اعتبار تحولات رومني هذه خطوة مرحلية أقدم عليها، كما العديد من المتنافسين للترشيح، لاسترضاء القاعدة، وسرعان ما يتخلى عنها ويعود إلى مواقفه الوسطية الأولى يوم يفوز بالترشيح. وهو لذلك كان موضع اتهام لدى العديد من المحافظين الذين جاهروا بعدم ثقتهم بقناعاته المحافظة. بل هو ربما أتاح للوسطي الآخر بين الجمهوريين عام 2008، إنما الأقل ترسخاً في وسطيته، أي جون ماكين، نيل الترشّح، كخيار توفيقي بين وسطية رومني غير المعلنة وعقائدية المرشحين الآخرين. وقد كان على رومني طوال الأعوام الماضية بذل السعي الدؤوب لتأكيد صدق تحوله نحو القناعة المحافظة. وهو، وإن لم ينجح في إثبات ذلك للقاعدة المطالبة بذلك، أقحم نفسه بمواقف قد يمسي من الصعب عليه أن يتراجع عنها بلباقة. ويمكن بالتالي للمحافظين أن يرضوا إلى حد ما برومني وإن بقوا على رأيهم بأن في مواقفه قدراً من التدليس. إلا أن لرومني ثلاث نقاط ضعف: الأولى أنه خاض الانتخابات الحزبية وخسر. وذلك لا يعني تلقائياً أنه غير قادر على التكرار، إلا أن الميل في الثقافة السياسية الأميركية هو تفضيل الوجوه النضرة غير المثقلة بخسارات سابقة. والثانية أنه مورموني المذهب، والمورمونية رغم إشهارها الانتماء المسيحي، فإن اعتمادها كتباً إضافية وعقائد مخالفة لمعظم المذاهب المسيحية، يجعلها في رأي البعض فرقةً خارجة عن الدين. والتزام رومني بها قد يتسبب بتخلف بعض المسيحيين المتدينين عن التصويت له في الانتخابات الرئاسية، فيما الحاجة إلى هؤلاء تبقى ماسة من وجهة نظر الحزب الجمهوري. أما نقطة الضعف الثالثة، وهي ربما الأهم، فأن علاقته ب «تيار حفلة الشاي» الشعبوي مرتبكة، فالعديد من أوساط هذا التيار يدرجونه في خانة التوجهات الملتبسة في الحزب الجمهوري، والتي يريدون التخلص منها. والاستطلاع الأخير، الذي يجعل من رومني دون غيره من الجمهوريين منافساً فعلياً في انتخابات رئاسية عامة، يفيد القيادات الجمهورية بأن خسارة بعض أصوات المتدينين والمعبئين شعبوياً يعوّضه بشكل إيجابي، عبر كسب أصوات الوسطيين من المستقلين والديموقراطيين. وقد يكون من صالح الحزب الجمهوري والتيار المحافظ نفسه إيصال ميت رومني إلى موقع منافسة باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية. إلا أن تحقيق هذا الهدف تعترضه عقبات عديدة، فالمتنافسون الآخرون للترشيح، ولا سيما منهم المطمئنين إلى سمعتهم المحافظة، ليسوا بوارد التسليم لرومني. ثم إن جمهرة غير ضئيلة من أصحاب السمات المشابهة له، والذين لم تطرح أسماؤهم بعد في التداول العام، ليسوا بدورهم على استعداد للتخلي عن فرصة نيل الترشّح. والمعركة الانتخابية، حتى داخل الإطار الحزبي، لا تزال في أولها، فرغم النتائج المشجعة للاستطلاع المذكور، فإنه ليس بوسع رومني أن يعتبر أن الاختيار الحزبي قد حسم لصالحه. ولكن بالمقابل، بوسع الحزب الجمهوري أن يدرك قطعياً بأن الإمعان في الخطابيات الشعبوية وفي استدعاء الوجوه والشخصيات ذات الحجم الإعلامي دون الوزن الفعلي ليس السبيل إلى تحدي الرئيس، بغضّ النظر عن قوة الرئيس أو ضعفه، فقد لا يكون المرشح الجمهوري هو ميت رومني، إلا أنه من الأفضل للحزب أن يكون هذا المرشح أشبه برومني منه من سائر من يصادرون المساحات الإعلامية اليوم.