ابتهج أهالي مدينة سيدي بوزيدالتونسية بالإفراج عن الشرطية في البلدية، فايدة حمدي، بعد ثبوت عدم صفعها محمد البوعزيزي. وكان قد راج إلى حد الحقيقة المؤكدة أن الصفعة كانت لمّا امتنع البوعزيزي في ظهيرة 17 كانون الأول (ديسمبر) الماضي عن التوقف عن بيعه غير القانوني فاكهة على عربته. وقبل أيام من وفاته، وهو الذي انتحر حرقاً، استقبل والدته وإخوته الرئيس زين العابدين بن علي، وزاره في المستشفى مع زوجته ليلى الطرابلسي. وشاع من وحي رواية الصفعة والانتحار حرقاً كلام أسبغ بطولة، أسطورية أحياناً، على محمد البوعزيزي، باعتبار أن إشعاله النار في بدنه هو ما أوقد الثورة التونسية التي كان نجاحها حافزاً لثورات مصر واليمن وليبيا وسورية، فاستحق أن يستبدل اسم شارع 7 نوفمبر في العاصمة التونسية باسمه. أن يثبت بعد شهور من شيوع توظيف هذه الحكاية في بناء تصورات بشأن الثورات كيف تقوم، ومتى تنتفض الشعوب، أنها ليست كما شاعت، وأن يبدأ التونسيون في تداول مسألة البوعزيزي بكيفية أخرى تنزع عنه التمجيد إياه، وأن يهتف كثيرون منهم في سيدي بوزيد بأن الشعب التونسي هو من أشعل الثورة وليس «الولد المحروق»، عند ابتهاجهم بخروج فايدة حمدي بريئة، وأن يطالب التونسيون بإعادة النظر في ما حظيت به عائلة البوعزيزي من امتيازات...، أن يحدث هذا كله يعني أن مراجعة تصير واجبة بشأن الحكاية من ألفها إلى يائها، وإن تم التسليم بأنه كان ضرورياً صياغتها كما ذاعت، ليمضي الولع بالشاب المحروق، باعتباره بطلاً مشتهى، إِلى حيث ينبغي أن تنجح الثورات، وإلى حيث لحاجة شديدة الإلحاح إلى أن تصل الدرامية إلى ذروتها. تقول فايدة حمدي إنها ظهيرة ذلك النهار توجهت مع زميلين لها إلى محطة سيارات الأجرة في المدينة، لمعاينة حالة البيع غير القانوني، هناك، الممنوعة في عموم تونس. وتوضح أن أفراد شرطة البلدية يعاقبون إذا سمحوا لأحد بمخالفة المنع، وتضيف أنه لم يكن على عربة البوعزيزي غير صندوق صغير للكمثرى، حاول زميلاها حجزه، غير أنه منعهما، فتركاه قبل أن يعودا إليه ليحتجزا الميزان، لتحتفظ به فايدة حمدي، وتنقله إلى مستودع البلدية. غضب وتقدم منها في محاولة لاسترداد الميزان، ولما عجز عن ذلك، جذبها بقوة من الشعار المهني على زيها الرسمي، ما أحدث جرحاً بسيطاً في يدها اليسرى، فطلبت حماية رجال الشرطة. وأبلغها البوعزيزي إحساسه بالقهر من تركيز موظفي البلدية عليه، وأنه تم التحفظ عليه قبل شهور، ثم هرع إلى أمام مبنى الولاية وأشعل النار بنفسه، بعد أن امتنع موظفون فيها من الاستماع إلى شكواه. أكد شهود للمحكمة صحة رواية فايدة حمدي، الموظفة التي تبدت في الحكاية الشهيرة رمزاً للتجبر في نظام بن علي، فيما كانت تطبق القانون، أقله لئلا يعاقبها المسؤولون عنها في عملها. ومع تأكد المحكمة من ثبوت مرافعات الاع وصدق خمسة من ستة شهود عيان، سحبت عائلة البوعزيزي شكواها، وقوبل إطلاق سراح حمدي وطي قضيتها، بعد أربعة شهور في السجن، بارتياح تونسيين كثيرين، صاروا على قناعة بعدم ارتكابها الصفعة المزعومة، وبأنها كانت ضحية أمر بن علي بحبسها لتهدئة الرأي العام الغاضب في حينه. وكادت تمكث في السجن طويلاً من دون محاكمة، قبل تعيين قاض جديد للقضية، سيما وأن إحساسها أنها ضحية إشاعة غير صحيحة. وكان التشكيك في تونس بواقعة الصفعة من قبيل المحرمات، إبان الثورة وعقب نجاحها، ما كاد يعرض فايدة حمدي لانتهاك حقها في محاكمة منصفة، وهي التي قالت إنه لو لم تنجح الثورة لبقيت منسية في السجن سنوات، وهو ما كان محتملاً أيضاً لو لم تتخفف تونس، أخيراً، من الشعبوية، المهرجانية والانفعالية أحياناً، فتنعطف إِلى أن تكون دولة قانون في كل قضية وشأن. وساعد إثبات التحقيق أن الصفعة لم تحدث في التحرر الواسع من الترميز الغزير الذي خلع على محمد البوعزيزي الذي غالى الشارع التونسيُّ أولاً، ولحقته نخب عربية عدة، في مديح إضرامه النار في جسده، غضباً من فقر وظلم كان يغالبهما، جعلاه يخرق قانوناً لا يجيز البيع غير المشروع في شارع عام من دون ترخيص. وكانت الحاجة ملحة ليكتمل سيناريو غضب البوعزيزي بحدوث الصفعة المهينة، وساعد على ذلك أن الثورة التونسية بدأت وسارت عفوية ومفاجئة، ولم تتأطر في منحى أيدولوجي أو حزبي، ولم يكن للنخب في أيامها الأولى دور فيها. ساهمت الصحافة الحرة المستجدة في تونس في إزالة ما تراكم على الحدوتة من خرافة وأساطير، أقله من أجل محاكمة عادلة لموظفة البلدية بعيدة من تأثيرات مزاج الشارع العام، وهو ما كان بعد تحري العقلانية والتخفف من العواطف. واللافت أن التضامن اللاحق مع فايدة حمدي، في صفحات في «فايسبوك» مثلاً، وازته دعوات إلى التعامل مع البوعزيزي بغير الهالة إياها، «فيكفي أن الشعب التونسي ظل يعبد بورقيبة وبن علي أزيد من نصف قرن حتى تصنعوا لنا إلهاً جديداً»، على ما بات يقال. وإذ أزال بعض أهالي سيدي بوزيد صورة كبيرة للبوعزيزي ولوحة رخامية تحمل اسمه أمام مقر بلدية سيدي بوزيد، ولافتات تحمل اسمه من محلات ومؤسسات في المدينة، في الأيام الماضية، فذلك يعكس اتساعَ النزوع نحو التخفف من تقديس الأفراد، وإدراكاً بوجوب نسبة ثورة تونس إلى شعبها، وقد صار تخوف هناك من تمادي «البوعزيزية» فتصير ظاهرة. ومع المبالغة الواضحة في القول إن والدة محمد البوعزيزي صارت ليلى الطرابلسي الجديدة، فإن رواجه يؤشر إلى حدة الحاجة المستوطنة في نفوس التونسيين إلى أن يعيشوا بلا رموز، وإلى عدم التسامح مع أي غلو أو إفراط. وقد صار يشيع أن «ممارسات انتهازية» تقترفها أسرة البوعزيزي التي حصلت على منزل فخم في تونس العاصمة كان لأحد رموز العهد السابق. ... هو الشعب التونسي، إذاً، يواصل ثورته بتنويعات مختلفة، يلزم أن ينتبه إليها العرب، وقد غمروا محمد البوعزيزي بما يستحق ولا يستحق، فيتملوا في حالة رمي التوانسة البوعزيزية وراءهم، ونقضها أيضاً. * كاتب فلسطيني