الغزال الأوكراني يعيش مخاضاً لا يتمنى لأعدائه أن يمرّوا به، في سياق الصراع على النفوذ بين النسر الأميركي والحمامة الأوروبية والدب الروسي، في بقعة تشكّل حجر الأساس في المجال الحيوي لروسيا وفضائها الجيوستراتيجي الأوروبي. صراع وضع أوكرانيا بين تحدّيين، «حرب روسية هجينة» تمزج بين القوات التقليديّة وغير التقليديّة وتعتمد على الدعاية السياسيّة، وورشة إصلاحية لتأهيل أوكرانيا لدخول الناديين الأوروبي والأطلسي، وطي صفحة ماضيها السوفياتي. حتى الساعة لم يهضم المسؤولون الأوكرانيون الذين التقيناهم في إطار جولة نظّمها السفير الأوكراني في لبنان إيغور أوستاش إلى كييف، مسألة ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، ولن يوفّروا جهداً لاستعادتها، وعازمون على إكمال مسيرة الألف ميل نحو الاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي (الناتو)، ومتابعة «مكافحة الإرهاب» في الشرق الأوكراني، لتوحيد البلاد التي مزّقتها الحرب، وذهب ضحيتها 10 آلاف قتيل منذ 2014. أن تصبح كييف عضواً في اتفاقية الدفاع المشترك الأوروبي، مع وجود قوات أطلسية وأوروبية على الحدود الروسية، أمر لن يرضاه الكرملين. فخسارة أوكرانيا تخلق فجوة في جدار الأمن الإستراتيجي الروسي- الأوراسي، وتسدل الستار على استعادة روسيا دورها كقوة عظمى، وتسمح للولايات المتحدة مواصلة إحكام الطوق عليها من بوابة أوروبا الشرقية. وفي هذا السياق، جاءت مسارعة موسكو إلى ضم القرم، بعد تلويح كييف بعدم رغبتها تجديد عقود الإيجار الروسية للقواعد العسكرية في شبه الجزيرة، التي كان يفترض أن تنتهي في 2017. ضمّ اعتبره الأوكرانيون خرقاً لتعهد روسي- أميركي- بريطاني وقّع عام 1994 يضمن حماية استقلال أوكرانيا مقابل تخلّيها عن الأسلحة النووية السوفياتية. روسيا تتصرف على أنّ القرم عادت إلى أحضان الوطن (الاتحاد السوفياتي «أهداها» إلى اوكرانيا عام 1954)، في وقت يُذكّر رئيس المجموعة الأوكرانية- اللبنانية النائب في البرلمان الأوكراني «الرادا» سيرغي سيبولف بأنّه في السنة الأولى من احتلال القرم تبنّى البرلمان قانوناً باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الأوكرانية. وحتى اليوم لا يزال لرئيس مجلس تتار القرم رفعت شوباروف مقعد في البرلمان الأوكراني بصفته ممثلاً لشعبه. وهناك «تخوّف» من استخدام روسيا قواتها في القرم، إذ تعكف على تدريب 3 كتائب على مسافة 25 إلى 55 كليومتر من حدودها مع أوكرانيا، وسط إمكان الاستعانة بقواتها الجوية في أجواء بيلاروسيا لتوسيع العدوان المسلّح ضد أوكرانيا، يحذّر الناطق باسم غرفة العمليات المشتركة لعملية مكافحة الإرهاب في وزارة الدفاع. لكن، لماذا تعتبر أوكرانيا ما يجري في شرقها عملية لمكافحة الإرهاب وليس حرباً؟ يقول سيبولوف: «يقتضي القانون الأوكراني إذا اعترفنا بحال الحرب إمكانية مصادرة الأملاك الخاصة، وما تبنّاه البرلمان سمح للسلطات بعدم خرق حقوق السكان المدنيين، وضمان إجراء الانتخابات». الواقع الذي تعيشه كييف هو نتيجة رفض الرئيس الأوكراني في 2014 فيكتور يانوكوفيتش، توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ما أشعل الحركة الاحتجاجية في الميدان، التي انتهت بفراره إلى روسيا، وضم القرم، قبل نشوء الحركة الانفصالية في الشرق. وتقول نائبة رئيس الوزراء لشؤون الاتحاد الأوروبي والأطلسي إيفانا كليمبوش تسينتيساندزي: «إنّ دولة تنفق 5 في المئة من موازنتها لحماية شعبها، يعني اجتزاء قسم من مواردها لغايات دفاعية بدل تخصيصها للنمو». وتذكّر تسينتيساندزي بأنّه بعد الثورة البرتقالية في 2004 احتجاجاً على تزوير انتخابات الرئاسة، «كان ثمن إعادة الانطلاقة في 2014 كبيراً. اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي كان حلماً، نحن ندفع ثمن استقلالنا». فالثورتان كانتا نتيجة غياب الإصلاحات وسوء الإدارة في الماضي، بحسب تسينتيساندزي التي تشير إلى أنّ أوكرانيا تحارب على جبهات عدة في مسيرتها لتحقيق القطع مع ماضيها الشيوعي الذي أعاق الإجراءات الديموقراطية لتحقيق التنمية، وتأمين حياة أفضل لمواطنيها. وتقول: «إلى جانب مواجهة الاعتداء الروسي العسكري والسيبيري على شرق البلاد، وضم القرم، تنهمك أوكرانيا بورشة إصلاحية تطاول قوانين التقاعد والخصخصة واللامركزية، تتيح لنا الاستفادة من إلغاء التأشيرة مع دول الاتحاد الأوروبي، وتحقيق نمو أفضل». وفي ظلّ تنامي موجة مغادرة «الأوروبي»، لا تنكر تسينتيساندزي أنّ الأوكرانيين اتخذوا قرارات صعبة، سيقطفون ثمارها بتحقيق مستوى معيشة أفضل مستقبلاً، إذ سيتيح اتفاق الشراكة لأوكرانيا استقطاب المزيد من الاستثمارات، والولوج إلى أسواق جديدة. أمّا عضوية «الأطلسي»، فتشكّل هدفاً استراتيجياً لأوكرانيا التي ستعمل على تعزيز قدرات قواتها لمضاهاة القوات الأوروبية، تتابع تسينتيساندزي، وتقول: «منذ قمة الحلف في وارسو، تعمّق التعاون مع الناتو لتأهيل قواتنا المسلحة على الصعيدين اللوجستي العسكري والأمن الإلكتروني، ومن الطبيعي أنّ تستمر روسيا في التحذير من انضمامنا إلى الأطلسي، روسيا لا تنظر إلينا فقط كحديقتها الخلفية، وتتعامل مع دول البلطيق بالمنطق عينه». وتشيد تسينتيساندزي بواشنطن- «الشريك الاستراتيجي» لكييف- ودعم الكونغرس الذي انعكس في تراجع الإصابات في صفوف الجيش الأوكراني. واقع يؤكّده الناطق باسم غرفة العمليات المشتركة، مطالباً واشنطن تزويدهم بأسلحة ذات فعالية، وليس الاكتفاء بتدريب جنودهم. ويقول: «في سورية كانوا يتحججون بالخشية من وقوع الأسلحة في يد الإرهابيين، ولكن في حال كييف، واشنطن تخشى رد فعل موسكو وتوتر علاقاتهما». وفي لغة الأرقام، استقبل المستشفى العسكري منذ 2014 نحو 28000 ألف جريح، في حين لم يتجاوز عدد الجرحى خلال الحرب الأفغانية- السوفياتية 800. مفاوضات مينسك ومحاكاة مع ما شهدت مفاوضات جنيف السورية، وخلق مسار مواز في آستانة، لا ترى نائبة رئيس البرلمان الأوكراني إيرينا جيراشنكو أن هناك توجهاً لإحلال صيغة ديبلوماسية جديدة مكان اتفاق مينسك الذي وقّعت عليه كييف وموسكو في 2015. تقول: «إنّ محادثات بلغراد بين المبعوثين الروسي فلاديسلاف سيركوف والأميركي كورت فولكر هدفها الضغط لتطبيق اتفاق مينسك، وليست مساراً منفصلاً، ولكن، حتى في المسائل الإنسانية في اتفاق مينسك، لا تعاون روسياً للسماح بدخول المنظمات الإنسانية إلى مناطق الشرق، وانتهاكات لحقوق الإنسان في القرم، وعدم الرغبة في التزام وقف النار، وتقارير بعثة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا المكلفة مراقبة احترام اتفاقات مينسك تظهر ذلك». وفي اقتراح قوات دولية لحفظ السلام، تصرّ كييف على انتشار هذه القوات في دونباس وعلى الحدود الأوكرانية- الروسية، وانسحاب كل القوات المحتلّة، في حين تقترح روسيا انتشار القوات الدولية على الخط الفاصل بين الجانبين، في دونيتسك ولوغانسك. تقول جيراشنكو: «أوكرانيا تركّز على الشق الديبلوماسي واتفاقات مينسك لتوفير وقف نار مستدام، نريد استعادة السيطرة على 400 كيلومتر من حدودنا، لا نؤيد سيناريو بوتين بنشر قوات على خط الاتصال فقط، لأنّ ذلك يمهد لفصل أراضينا المحتلّة روسياً عن أوكرانيا». وتلفت إلى أنّ «المندوب الأميركي طلب إلى نظيره الروسي رفع مجموعة مبادئ تحدد إطار عمل قوات حفظ السلام، فالأساس تحديد نطاق عملها ومن تضم». في المقابل، تخشى موسكو تسوية لدونباس بالطريقة التي استخدمتها واشنطن في يوغوسلافيا في 1995، حيث أبيد الصرب. ولا تتخوّف جيراشنكو من تداعيات التناغم بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وتقول: «واضح أنّ الولاياتالمتحدة تريد علاقات جيدة مع روسيا، ولكن على الأخيرة أن تدرك أنّ أوكرانيا ليست محافظة روسية. نحن نريد الشراكة، وأن تحترم روسيا التزاماتها الدولية، فالعقوبات ليست هدفاً، بل وسيلة لدفعها إلى احترام القانون الدولي». وترى أنّ «بوتين يعيش في عالم الأوهام، وتكتيكه بخلق مشكلات ثم التدخل لحلها، وتمرين يد روسيا وأسلحتها في أوكرانيا وسورية». أجواء اللقاءات السياسية لم تختلف عن ما سمعناه من الزملاء في اللجنة الحكومية للإذاعة والتلفزيون الأوكراني، فلسان حالهم: «نمرّ بمرحلة، كما يقول الصينيون، لا نتمنّاها لأعدائنا». لجنة تعكف على إبراز أهمية توجّه أوكرانيا نحو الاتحاد الأوروبي وزيادة نسبة التأييد للانضمام إلى الأطلسي، ومواجهة البروباغندا الإعلامية بأدلة قوية. طالما بوتين في الحكم، لا يتفاءل الأوكرانيون بتعديل في سلوك موسكو، فقلما كانت الجارة الروسية تنظر إلى أوكرانيا كدولة مستقلّة ضمن حدود 1991، باستثناء عهد الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين. وذاكرة الأوكرانيين مُثقلة بصور مؤلمة من مجاعة هولودمور في عامي 1932 و1933، مروراً بتهجير تتار القرم إبان الحرب العالمية الثانية. غير أنّ ما لمسناه في لقاءات مجلس الوزراء والبرلمان ووزارة الدفاع، يتفق مع ما خلص إليه وزير الخارجية الأميركية السابق هنري كيسنجر، بأنّ واشنطن تركّز على تقاسم النفوذ ووضع «نهاية لاستراتيجية إثارة غضب الدبّ الروسي». فالنزاع في الشرق الأوكراني مجمّد حتى تبلور معطيات جديدة، والتسوية في الغالب ستكون ضمن سلة واحدة، سورية- أوكرانيا.