أسمعتم بمن يحفر لنفسه قبراً ليحيا؟ يبدو الأمر كما لو انه سيناريو رواية بعيدة من الواقع. ولكن لدى الخوض في التفاصيل، نجد أن الأمر حقيقي وواقعي. بل انه أسلوب حياة بات اعتيادياً لدى كثير من العمال الفلسطينيين الذين يتسللون بمختلف الطرق الى إسرائيل بحثاً عن لقمة العيش، وهرباً من دوريات الشرطة الإسرائيلية وقوات حرس الحدود التي تلاحقهم باستمرار وتعتقلهم او تطردهم الى بلداتهم الفلسطينية في الضفة الغربية وحتى في قطاع غزة. عشرات الحفريات على شاكلة القبور تحولت الى مأوى للعمال. فالمكان البعيد من السكان وعيون الشرطة والجيش هو الأحراش، وحتى هنا الخطر يلاحقهم اكثر في حال اتخذ العمال من الارض فراشاً للنوم والسماء غطاء لهم. فقد سبق وتمكنت الشرطة من ضبط مئات الذين ينامون بين الخردوات او قطع كرتون ما دفعهم الى البحث عن طريقة أخرى، واختاروا تحت الأرض مأوى لهم. فقاموا بتجهيز حُفر على شاكلة قبور ينامون فيها ويخفونها بألواح خشب، كضمانة لاستمرارية عملهم وجمع النقود للقمة عيشهم وعيش عائلاتهم. هذا هو حال العامل الفلسطيني الذي، لأسباب عدة ومعظمها غير مفهومة، ترفض إسرائيل منحه تصريح العمل داخل الخط الأخضر، حيث تتوافر فرص عمل شبه معدومة في الأراضي الفلسطينية. والقبور مأوى من انواع عدة يختارها العمال الفلسطينيون. فبعضهم يختار أشجاراً كبيرة ينامون بين أغصانها الغليظة ومن وجد بيتاً مهجوراً يغامر في النوم هناك، او ينتظر إغلاق أماكن عمل في بنايات ويتسلل الى سطحها للنوم. وإذا نجح العامل في الهرب من الشرطة، يقع ضحية للتجار الإسرائيليين، فيحولونه الى سلعة تجارية ربحية. فمقابل ضمان العمل يضطر الفلسطيني الى دفع مبلغ تصل قيمته، في بعض الأحيان، الى نصف راتبه. وحتى من يحصل على تصريح عمل يدخل بواسطته الى إسرائيل ويضمن عملاً من دون قلق وخوف من ملاحقة الشرطة، يقع فريسة لهؤلاء التجار. في هذه الأيام لا تزال التحقيقات مستمرة حول «تجار العمال» وطرق استغلالهم، بعدما كشف أن العمال الفلسطينيين الذين يطلبون الحصول على تصاريح للعمل في إسرائيل، يضطرون احياناً الى دفع نحو 15 الف شيكل (قيمة الدولار تساوي 3.6 شيكل) لوسطاء يهتمون بإحضار التصاريح. وحسب التقديرات فإن المبلغ يتراوح بين 1500 و 2500 شيكل شهرياً، أي ما يشكل ربع او ثلث الراتب الشهري وتبين أن هذه الظاهرة منتشرة وتشمل تقييد العامل بالعمل مع مقاول واحد. هذه التفاصيل، التي يعرفها ويتداولها العمال، لم تكن معروفة للعامة وتجاهلتها سلطات القانون والنقابات. ولكنها مدونة اليوم بوثيقة أعدت في وزارة العمل الإسرائيلية، بعدما تقدم عشرات العمال بدعاوى مطالبين بحقوقهم. الوثيقة، تعترف للمرةالأولى، وفي شكل واضح، باستغلال العمال الفلسطينيين، إذ جاء فيها أن «طريقة التشغيل لم تفرض حتى اليوم شروط عمل مناسبة للعمال. والأخطر من ذلك أنها سمحت بأوضاع كثيرة لم يحصل العمال خلالها على أجورهم». وحسب الوثيقة فإن قيمة الدعاوى التي قدمها عمال فلسطينيون ضد مقاولين إسرائيليين لم يدفعوا لهم رواتبهم، وصلت الى نحو ستة بلايين شيكل. وتلخص الوثيقة الداخلية عمل طاقم من المكاتب الحكومية، تم تشكيله بهدف تطبيق القرار الذي اتخذته الحكومة الإسرائيلية في 2016 «لتحسين تنظيم العمال وتغيير تخصيص العمال لفرع البناء». 87 ألف عامل ... والحقوق مهضومة أشارت المعطيات الإسرائيلية إلى انه يعمل في إسرائيل حوالى 87 الف عامل ممن يحملون التصاريح، وحوالى 40 ألف عامل يعملون سراً من دون تصاريح. ويستدل من معطيات جمعتها منظمة «خط للعامل» أن المقاولين الإسرائيليين يستغلون تصاريح العمل التي يحصلون عليها للمتاجرة بالعمال الفلسطينيين. فإذا حصل مقاول على عدد معين من التصاريح ولم يكن بحاجة اليه يقوم «ببيع» رخص العمال الذين تم تخصيصهم له لمقاول آخر، ويدفع المقاول الذي تسلمهم للمقاول الأول الثمن من أجور العمال. ويضطر العمال الى الاستسلام بسبب الحاجة والبطالة المتفشية في أراضي السلطة الفلسطينية. ووفق ما روى أحد العمال، الذي يصل للعمل في شمال إسرائيل «يصعب الحصول على تصريح عمل ولذلك فإننا ندفع مبالغ كبيرة. الإسرائيلي يبيعني لمقاول آخر او لمشغل آخر، ومنذ سنوات وأنا أعمل لدى مقاول لم اسجل لديه. والجميع يعرفون كيف تتم الطريقة. 2400 شيكل أدفع، وهي تساوي عشرة أيام عمل، هذا يعني أننا نحصل على أجرة أسبوعي عمل فقط، وإذا تم فرض الإغلاق او كانت هناك أعياد فنحن في مشكلة، يجب علينا الدفع للوسيط حتى لو لم نعمل خلال هذه الأيام». أما العمال غير القانونيين، فهؤلاء يصلون الى إسرائيل ويضطرون لاجتياز المعابر وجدار الفصل العنصري وأحياناً كثيرة عبر خطوط الصرف الصحي القريبة من الجدار، وعبر الصهاريج والشاحنات المحملة بمواد البناء، بعضهم يتعرض للإصابات والبعض يتم ضبطه ويعتقل لدى الشرطة الإسرائيلية. ومن يتمكن من اجتياز الأخطار يعيش ويعمل سراً وبلا حقوق، ويضطر للبحث عن وسيلة مناسبة للنوم غير القانوني. البطالة القاتلة وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ارتفعت معدلات البطالة في الأراضي الفلسطينية إلى 29 في المئة في الربع الثاني من العام الحالي، ليصل عدد العاطلين من العمل في الأراضي الفلسطينية الى 396.4 ألف فلسطيني، وهذه أعلى مستويات البطالة منذ الربع الثالث من 2014. كانت نسبة البطالة في الضفة الغربية وقطاع غزة، قد بلغت 27.1 في المئة في الربع الأول من العام 2017، و26.9 في المئة في الربع الأول من 2016، و29 في المئة في الربع الثالث. ووفق تقرير الجهاز المركزي الفلسطيني يتوزع العاطلون من العمل، بواقع 216.9 ألف فلسطيني في قطاع غزة، بنسبة بطالة بلغت 44 في المئة، مقابل 179.5 ألف في الضفة الغربية بنسبة 20.5 في المئة... وترجع الفجوة الكبيرة في نسب البطالة بين الضفة الغربيةوغزة، إلى الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ 11 عاماً، الذي قوض مقومات الإنتاج. وتعد أزمة الطاقة التي يعاني منها القطاع منذ أكثر من 8 سنوات، عاملاً إضافياً في ارتفاع نسب البطالة، مع غياب مقوم رئيسي لمدخولات العمل والإنتاج. وانعكست نسبة البطالة في السوق الفلسطينية، خلال شهر أيار الماضي، حيث تقدم أكثر من 42 ألف خريج جامعي، للعمل في ألفي وظيفة معلم في المدارس الحكومية. يشكل العمل في إسرائيل، وفي المستوطنات خصوصاً، عاملاً مغرياً بنظر الفلسطينيين، بسبب قلة الأعمال في الضفة وبالأساس بسبب الراتب المرتفع نسبياً. ويبلغ متوسط الأجر اليومي للعامل الفلسطيني في إسرائيل 187.5 شيكل، بينما ينخفض الأجر في الضفة إلى 90.9 شيكل وإلى 63.9 شيكل في قطاع غزة، ووفق «ماكرو – المركز للاقتصاد السياسي»، الذي أجرى بحثاً خاصاً حول وضعية العمال الفلسطينيين فإن الحكومة الإسرائيلية تحدد «الحصص التشغيلية» لكل فرع، والتي بموجبها يتقرر عدد الفلسطينيين الذين يحصلون على تصاريح عمل. وهذه «الحصص» تُمنح لعدد قليل من الفروع الاقتصادية والتي يوجد فيها نقص بالعمال من إسرائيل، وهي البناء والزراعة والصناعة والخدمات. ووفق تقرير «ماكرو» فإنه في المستوطنات لا توجد حصص تسري على تشغيل الفلسطينيين. ووفقاً لتقرير البنك المركزي الإسرائيلي، فإن «للنسبة العالية من العمال الفلسطينيين في فرع البناء في إسرائيل أهمية كبيرة»، وتبلغ نسبة الفلسطينيين فيه 15.3 في المئة. وتصدر إسرائيل تصاريح العمل للفلسطينيين من الضفة الغربية فقط، وتتراوح مدتها ما بين 3 إلى 6 أشهر. وتتحمل دائرة خاصة هي «الدائرة لتشغيل الفلسطينيين»، في مديرية السكان والهجرة التابعة لوزارة الداخلية الإسرائيلية، المسؤولية عن مراقبة وتنظم عمل الفلسطينيين في إسرائيل. ووفق القانون الإسرائيلي، للعامل الفلسطيني حقوق وامتيازات اجتماعية، وينبغي أن يتلقى راتباً إجمالياً وراتباً صافياً مثل أي عامل آخر في إسرائيل، لكن العامل الفلسطيني لا يحصل على هذه الحقوق والامتيازات. ويعتبر الفلسطينيون من عمال البناء، الأكثر ظلماً حيث لا يحظون بمساواة حقيقية على رغم أن الاتفاقات الجماعية وقانون حماية الأجر تلزم بذلك. إذ تلقي إسرائيل المسؤولية على المشغلين، وفي حالات كثيرة هم لا يلتزمون الحقوق التي يستحقها العمال الفلسطينيون. ووفق النظام المعمول به فإن المشغل يحول الراتب الإجمالي الشهري والامتيازات الاجتماعية عن العامل الفلسطيني إلى «دائرة المدفوعات» التي تصدر قسيمة راتب للعامل. وبعد ذلك يتم تحويل الحسومات من الراتب إلى المؤسسات الإسرائيلية ذات العلاقة، مثل مصلحة الضرائب ومؤسسة التأمين الوطني و «صندوق التأمين الاجتماعي» في وزارة المالية. ووفق الباحث غاي موندليك، فإن إسرائيل تحول جزءاً صغيراً فقط من الحسومات من الرواتب لتمويل مخصصات التأمين الوطني للعمال الفلسطينيين، بينما القسم الأكبر منها، يتم تحويله إلى وزارة المالية الإسرائيلية بذريعة الحاجة الى تطوير الأراضي الفلسطينية. لكن لا توجد أية تقارير للوزارة او غيرها تدل اذا كانت هذه الأموال استخدمت فعلاً لمصلحة الفلسطينيين. وتكمن المشكلة الأساسية في أن العمال الفلسطينيين لا يعرفون حقوقهم ولا يعرفون الجهات التي ينبغي التوجه إليها من أجل الحصول على هذه الحقوق. ونتيجة لذلك فإن أموالاً طائلة لا تُحول إلى أيدي العمال الفلسطينيين وإنما إلى خزينة إسرائيل. أمام هذا الواقع المأسوي للعمال لم تعد الحاجة تتطلب النهوض في المشاريع الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية فقط، بل طرح قضيتهم على المحافل الدولية. فإسرائيل لا تهضم حقوق العمال الفلسطينيين فقط، بل تتعامل معهم بتمييز صارخ الى حد انها تحتجز بلايين الدولارات من مستحقاتهم.