بدأت الآثار الحقيقية للأزمة الاقتصادية العالمية على صورة الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية في إسرائيل تتضح أكثر فأكثر مع انقضاء نصف العام الحالي. ويرى معظم الخبراء الاقتصاديين الإسرائيليين، كما غيرهم في الدول أجمع، أن هذه الأزمة، وهي الأعنف التي تجتاح العالم الرأسمالي منذ الأزمة الكبرى في عام 1929، تتألف في الظاهر من مركبين متصلين: الأول - مركب الأزمة في الأسواق المالية والثاني - مركب الأزمة الاقتصادية العامة والتي تترتب حتماً على الأزمة الأولى، المالية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وعلى المدى القريب أو المدى البعيد. وبات من المعروف أن الأزمة في الأسواق المالية نجمت، أساساً، عن سوء أداء المنظومات المالية المختلفة بمنأى عن الرقابة الدولانية، وانعكست في تكبّد تلك المنظومات خسائر مالية فادحة وانهيار مؤسسات مالية كبرى وبخاصة البنوك وفقدان الثقة بالمؤسسات وتراجع السيولة المالية في شكل حادّ للغاية. ومن ناحية أخرى موازية ومكملة أدّى النقص الكبير في «الأوكسجين» الماليّ إلى قيام المزيد من الشركات بإلغاء مشاريع اقتصادية وفصل عمال على نطاق واسع، كما أدّى إلى هبوط حجم الاستهلاك التجاري وحجم الإنتاج العام، وإلى ارتفاع حالات إفلاس المصالح والمؤسسات التجارية وتقلص مدخولات الدولة من الضرائب، علاوة على ارتفاع البطالة واتساع دائرة الفقر وما إلى ذلك. بصورة عامة يمكن القول إن المنظومات المالية في إسرائيل لم تواجه انهيارًا على غرار ما واجهته هذه المنظومات في سائر أنحاء العالم الرأسمالي، لكن بما أن الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد، في شكل رئيسي، على التصدير (الذي يبلغ نحو نصف الناتج القومي)، فهو متعلق للغاية بالاقتصاد العالمي، إلى درجة التبعية شبه المطلقة. كما أنه يتأثر، إلى حدّ بعيد، بهبوط حركة النشاط الاقتصادي في أميركا وأوروبا. ويبدو أن هذا الاعتماد كان له الأثر الأبلغ، حتى الآن، وتمثل في دخول الاقتصاد الإسرائيلي مرحلة ركود كبير، وفي تراجع نسبة نموه خلال العامين الحالي والفائت، تحت وطأة الأزمة العالمية. وتشير معطيات رسمية إلى أن نسبة النمو في الاقتصاد الإسرائيلي، خلال عام 2008، الذي اندلعت تلك الأزمة في ربعه الأخير، انخفضت إلى 2.8 في المئة، بعد أن بلغت 5.2 في المئة في عام 2006 (على رغم «حرب لبنان الثانية») و5.4 في المئة في عام 2007. وتقدر معطيات مصرف إسرائيل المركزي أن يشهد عام 2009 نسبة نمو سلبية ربما تبلغ 0.2 في المئة تحت الصفر، وفقًا للمؤشرات المتوافرة في ما يتعلق بالربعين الأول والثاني. وتتوقع المعطيات نفسها أن تعود نسبة النمو لتصبح إيجابية فقط في عام 2010، ولكن من دون أن تتعدى ال 1 في المئة، وذلك في ضوء انعدام أي محرّك حقيقي للنمو الاقتصادي عدا التصدير، الذي تضرّر كثيرًا بسبب الركود الاقتصادي العالمي. خمسة مظاهر بارزة للأزمة الاقتصادية في أحدث تقدير موقف بالنسبة الى بيئة إسرائيل الإستراتيجية في عام 2009، صدر في تموز (يوليو) 2009 عن «معهد دراسات الأمن القومي» في جامعة تل أبيب، يرى الخبيران الاقتصاديان شموئيل إيفن ونيتسان فيلدمان أن انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية على الاقتصاد الإسرائيلي باتت تتجسّد بجلاء في خمسة مظاهر بارزة: الأول - إساءة المعطيات على المستوى الماكرو اقتصادي. ووفقًا لمؤشرات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، المتعلقة بالربع الأول من عام 2009، فقد انخفض الناتج القومي الخام بنسبة 3.6 بالمئة، وانخفض الإنتاج التجاري بنسبة 4.2 بالمئة، وبلغت نسبة انخفاض الاستهلاك 4.3 في المئة. وبناء على ذلك فقد انخفض تصدير البضائع والخدمات بنسبة 14.4 في المئة مقارنة بالربع الذي سبقه (أي بنسبة سنوية ربما تبلغ 46.3 في المئة)، وانخفض استيراد البضائع والخدمات (باستثناء الاستيراد الأمني واستيراد الطائرات والمجوهرات) بنسبة 21.4 في المئة (أي بنسبة سنوية ربما تبلغ 61.9 في المئة). الثاني - اتساع موجات فصل العمال من العمل. وأعلن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي في شهر تموز أن نسبة البطالة حتى شهر أيار (مايو) الفائت ارتفعت إلى 8.4 في المئة، بعد أن وصلت خلال الربع الأول من عام 2009 إلى 7.6 في المئة. وهذه الأخيرة هي النسبة التي كانت عليها في النصف الثاني من عام 2007، بينما كانت 6.5 في المئة في الربع الأخير من عام 2008. ووصل عدد العمال الإسرائيليين العاطلين من العمل إلى نحو 259 ألف شخص، في مقابل 189 ألف شخص في الربع الأخير من العام الفائت. وبحسب تقرير المكتب نفسه فإن عدد المنتمين إلى القوة العاملة المدنية الإجمالية في إسرائيل تجاوز 3 ملايين شخص بقليل. ويتبين أن ارتفاع نسبة البطالة كان متساوياً بين الرجال والنساء، ما يعني استمرار تقدّم النساء في سلم البطالة. وارتفعت نسبة البطالة في كل مناطق إسرائيل، لكنها بقيت أعلى من المعدل العام في منطقتي الجنوب والشمال، إذ بلغت في الجنوب 9.2 في المئة وفي الشمال 8.9 في المئة، وذلك بسبب وجود نسبة عالية من العرب فيهما، ففي الشمال يشكل العرب أكثر من 52 في المئة، وفي الجنوب قرابة 38 في المئة من السكان، ما يؤكد أن البطالة لا تزال عالية جداً بين العرب وبفرق شاسع عن نسبتها بين اليهود. وما يعزز هذا الاستنتاج أن نسبة البطالة في منطقة حيفا، وهي أيضاً ذات نسبة عرب عالية، هي 7.1 في المئة، بينما في منطقة تل أبيب، التي لا تتجاوز نسبة السكان العرب فيها 3 في المئة، هي 6.1 في المئة، وهي أقل بكثير من المعدل العام، وفي منطقة الوسط عمومًا هي 6.7 في المئة. وأشار تقرير مكتب الإحصاء إلى ارتفاع عدد الذين يعملون في وظائف جزئية رغمًا عنهم، وبلغ عددهم في الربع الأول من العام الجاري 113 ألف شخص، وهذا بزيادة 1.7 في المئة عما كان عليه في الربع الأخير من عام 2008. وأظهر تقرير نشره الملحق الاقتصادي «مامون» في صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن 11 عاطلاً من العمل بالمعدل يتنافسون على كل وظيفة شاغرة، ولكن بتفاوت كبير بين فرع عمل وآخر، فنرى مثلاً أن عدد المرشحين للعمل في سلك الشرطة وسلطة السجون مطابق لعدد الوظائف الشاغرة، بينما يتنافس 14 موظفاً على كل وظيفة شاغرة في البنوك، ويتنافس عدد مماثل على كل وظيفة مدرس في المدرسة الثانوية، بينما يرتفع عدد المتنافسين على كل وظيفة شاغرة في المدارس الابتدائية إلى 27 مدرساً عاطلاً من العمل. وبينما نجد أن كل 35 مهندساً ميكانيكياً يتنافسون على أي وظيفة شاغرة في مهنتهم، فإن هذا العدد يرتفع إلى 44 متنافساً في قطاع الهندسة الكهربائية، وإلى 60 متنافساً على كل وظيفة في الهندسة الإلكترونية. وأعلى منافسة نجدها في سلك الحقوق (المحاماة) حيث يوجد 103 متنافسين على كل وظيفة. يذكر أنه خلال آذار (مارس) 2009 بلغ عدد العمال، الذين فصلوا من أعمالهم في إسرائيل، وفقًا لما أعلنته مصلحة التشغيل الإسرائيلية، 20070 عاملاً. وهذا يحطم الرقم القياسي لعدد المفصولين من العمل خلال شهر واحد في تاريخ إسرائيل كله. وكانت البطالة في إسرائيل سجلت في عام 2008 أدنى معدل لها منذ أكثر من عشرين عاماً، وبلغت في الربع الثالث من ذلك العام 5.9 في المئة، لترتفع دفعة واحدة في الربع الأخير من العام نفسه إلى 6.5 في المئة. وقد بدأ هذا التراجع منذ النصف الثاني من عام 2003، حين قفزت البطالة عن نسبة 11 في المئة بقليل، واستمر حتى الربع الثالث من العام الفائت. الثالث - المسّ بأرباح ودائع الجمهور العريض وبرامج التوفير وصناديق التقاعد. الرابع - انخفاض أرباح شركات إسرائيلية كثيرة بصورة حادة للغاية. الخامس - انخفاض مدخولات الدولة من الضرائب وارتفاع كبير في عجز الموازنة الحكومية. وقدرّت مصادر وزارة المال الإسرائيلية، في شهر آذار الفائت، أن تبلغ مدخولات الدولة من الضرائب المباشرة وغير المباشرة خلال عام 2009 نحو 160 بليون شيكل (يتراوح سعر الدولار بين 3.9 - 4 شيكل)، أي أقل ب 40 بليون شيكل من تقديرات سابقة للحكومة الإسرائيلية أعلن عنها في آب (أغسطس) 2008. لقد مرّت إسرائيل، على مدار الأعوام ال 61 التي مضت منذ إقامتها، بثورة اقتصادية كبيرة، وفقًا لما يقوله المعلق الاقتصادي في صحيفة «هآرتس»، نحميا شترسلر، الذي يعتبر من أبرز المعلقين الاقتصاديين. فقد انتقلت من «اقتصاد اشتراكي» يُدار من فوق (الدولة) إلى اقتصاد سوق حرة تنافسية، أتاح إمكان رفع مستوى المعيشة. ويضيف أنه نظرًا الى أن إسرائيل وجدت نفسها تخوض غمار الأزمة القاسية الحالية في ظل أوضاع اقتصادية جيدة نسبيًا فستخرج منها بجروح أقل، مقارنة بما سيحدث في العالم. علاوة على ذلك فإن الحكومة الإسرائيلية انتهجت، منذ عام 1985، سياسة موازنة مسؤولة، بحيث بقي العجز منخفضًا وتقلص الدين العام. كما أن مصرف إسرائيل المركزي نجح في كبح التضخم المالي. بناء على ذلك يمكن القول، في رأي شترسلر، إن أوضاع إسرائيل الاقتصادية تبدو جيدة على المدى القريب، غير أنها ليست كذلك على المدى البعيد، بحسب ما يؤكد. وتبقى المشكلة المركزية كامنة في فئتين من فئات المجتمع الإسرائيلي، هما الحريديم [اليهود المتدينون المتشددون] والعرب، فمعظم أفراد هاتين الفئتين هم تحت خط الفقر. ونسبة الذين لا يعملون في صفوف الرجال الحريديم والنساء العربيات تبلغ نحو ثلثين. كما أن الحديث يدور، في الوقت نفسه، على فئتين ليستا صهيونيتين. ونظرًا الى أن نسبة الولادة لديهما عالية جدًا، فمن المتوقع أن تشهد الأعوام القريبة المقبلة نشوء أكثرية ليست صهيونية وذات مستوى معيشة منخفض. وثمة مشكلة أخرى تواجه إسرائيل هي تدهور جهاز التربية والتعليم، الذي لا يحفّز التفوّق. وتُضاف إليها مشكلة عدم الاستقرار السياسي للحكومات الإسرائيلية المختلفة. لكن تبقى المشكلة الأشد وطأة هي العبء الأمني الهائل. ولا شكّ في أن التركيز على مشكلة الأمن، وابتعاد احتمالات السلام، لا يتيحان للحكومة الإسرائيلية أن تهتم بقضايا الحريديم والعرب وبجهاز التربية والتعليم خصوصاً وبمشكلات الاقتصاد والمجتمع عموماً. ولدى بدء الأزمة الاقتصادية شهدت إسرائيل جدلاً حاداً في شأنها. وجرى الحديث، خلال ذلك وفي أثناء ولاية الحكومة السابقة برئاسة إيهود أولمرت، على بلورة خطة حكومية تقضي بتقديم شبكة أمان لصناديق التقاعد العامة. غير أن شبكة الأمان هذه، بل والأزمة الاقتصادية كلها، سرعان ما تبخرتا بمجرّد بدء عملية «الرصاص المسبوك» في غزة في نهاية عام 2008. وعادت الأزمة لتتصدّر جدول الأعمال العام على أعتاب الانتخابات الإسرائيلية العامة، التي أجريت في 10 شباط (فبراير) 2009، وأسفرت عن فوز أحزاب اليمين وعن تأليف رئيس الليكود، بنيامين نتانياهو، حكومة جديدة. (*) باحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار.