نأتي دوماً متأخرين. فقبل عقود كنا نستنكر نقد المشاريع الإيديولوجية التي طرحتها النخب الثقافية معتبرين ذلك نوعاً من «جلد الذات». كنا نفزع من إعادة النظر بالعناوين التي ترجمت بأضدادها على أرض الواقع، وكما كانت مآلات العقلانية والتقدم والحرية والوحدة... إزاء هذا الفشل على جبهة المثقف الحداثي، أخذ البعض يغازل التيارات الأصولية ويراهن على شعارها للنهوض والإصلاح: الإسلام هو الحل. وها نحن نكتب اليوم: أخفقت كل الشعارات سواء تعلّق الأمر بالحداثة والعلمانية أو بالإسلام والديموقراطية. كذلك الأمر في مسألة الحوار. إننا نأتي دوماً بعد فوات الأوان، أي بعد هذا التدمير الذي يتعرض له غير بلد عربي. ومن المفارقات أن هذا الدمار هو حصيلة التحالف بين الضدين المتواطئين: الديكتاتوريات والأصوليات المتطرفة، الاستبداد السياسي والإرهاب الديني. ولو كانوا يقبلون بالحوار لما شهدنا كل هذا العبث والجنون، وكل هذه الانفجارات التي تترجم إفناءً متبادلاً. وهذا شأن الأنظمة الشمولية أكانت قومية أم دينية أم مجتمعية. إنها لا تقبل التراجع أو التنازل، ولا تشتغل بمفردات التسوية أو الإصلاح. لأنها تتأسس على عقلية التملك وإرادة الاحتكار والمصادرة للحقيقة والسلطة أو للثروة والثورة. والشواهد بليغة عندنا وعند غيرنا. هذا ما حصل في أوروبا. فالأنظمة الشمولية التي ظهرت في زمن هتلر وستالين وموسوليني، لم تقبل التراجع إلا بعد هزيمتها التي كلّفت أوروبا دماراً لا سابق له في تاريخ البشرية. وإذا كانت أوروبا عادت بعد ذلك إلى صوابها، فليس بسبب الفكر التنويري، بل بسبب الدمار المتبادل، أو الخوف المتبادل من القوى الجديدة التي ظهرت على المسرح: أميركا وروسيا. لكن أوروبا استخلصت الدرس، فتصالح الألمان والفرنسيون لكي يشكلوا نواة للاتحاد الأوروبي الذي تحولت معه القارة القديمة إلى مساحة تداولية. والأهم أن الألمان هم أول من استخلص الدرس، كما يتجلّى ذلك في حساسيتهم المفرطة تجاه أي منزع عنصري أو فاشي. ومع ذلك لا قيمة تكتسب بصورة نهائية. فها هي القوى الأوروبية، المحافظة أو العنصرية، المدافعة عن السيادة الوطنية ونقاء الهوية، تخرج من معاقلها في شكل حركات راديكالية شعبوية، لتفاجئ أصحاب الفكر التنويري والشعار الديموقراطي. استجماع المساوئ وإذا كان هذا شأن أوروبا، فإن ما حصل عندنا هو الأسوأ، إذ جمعنا أسوأ ما في الحداثة والقدامة، أي بين الشمولية والأصولية، بين الاستبداد السياسي والإرهاب الديني، بين الشوفينية الوطنية والفاشية الطائفية. هذا ما فعله الزعيم الأوحد، صاحب الإيديولوجية القومية. لقد تصرّف بوصفه مالكاً لبلده يفعل به ما يشاء، كما شهدت النماذج في الأنظمة التي رفعت شعارات القومية والعلمانية والوحدة والحداثة. وهذا ما فعله، من جهته المرشد صاحب العقيدة الاصطفائية. لقد تصرّف، هو الآخر، بوصفه مالكاً الحقيقة الدينية، مما جعله يسخر الذات الإلهية، كما يشاء، لمطامحه وسيطرته أو لأهوائه وعصبيته. من هنا فإنه عندما اندلعت الثورات العربية، في غير بلد عربي، وكانت في بدايتها سلمية، مدنية، جوبهت منذ اللحظة الأولى بأقصى أشكال العنف. لأن النظام العربي غير قابل للإصلاح، ولا هو مؤهل لادارة حوارات ناجحة ومنتجة. فهو نظام أمني استخباراتي، بقدر ما هو نظام أحادي استبدادي، هاجسه تشكيل جماهير وحشود تمارس طقوس العبادة للزعيم الأوحد، ومن لا يذعن يُستبعد ويهمّش أو يتّهم ويلاحق أو يُعتقل ويُقتل. المتطرّف ضد الحوار وما يصحّ على النظام العربي، يصحّ على أنظمة وسلطات إسلامية. والشاهد يقدمه النظام الإيراني الذي يستخدم أصحابه الديموقراطية كواجهة لتلميع الصورة في الخارج أو لقمع المعارضة في الداخل. ولذا فهم لم يتراجعوا في الملف النووي، إلا لأن الاقتصاد الإيراني كان أصبح على حافة الانهيار. وهذا ما تفعله إيران، في ما يخصّ علاقتها بالدول العربية الخليجية وغير الخليجية: انتهاج سياسة ركنها الأول عدم الاعتراف بتلك الدول، وركنها الثاني التدخل في شؤونها عبر تمويل وتسليح الجماعات والأحزاب أو الميليشيات الموالية لها في هذا البلد العربي أو ذاك. وما كان يخفيه أهل النظام الولايتي بات مكشوفاً: التعامل مع الدول العربية المشرقية بوصفها جزءاً من الإمبراطورية الفارسية، أو مدى إستراتيجياً لمشروعها التوسعي. مما يعني أن الدعوة إلى الحوار مع نظام الملالي والعسكر في طهران هي مضيعة للوقت، تماماً كما هي محاولات إجراء تسوية مع الحوثيين لوضع حدّ للحرب التي جعلت اليمن ضحية بل فريسة لكل الآفات والمصائب (...). إن الحوار الناجح يقوم على الاعتراف بالوقائع، لا على إنكارها أو تمويهها، وكما تفعل قطر في ما يخص علاقتها بالمنظمات الإرهابية. ولذا من السذاجة والغفلة أن نصدق ما تعلنه في هذا الخصوص، فهي ليست استثناءً بل شأنها شأن دول وقوى لاعبة على المسرح كانت لها صلات بمنظمات متطرفة، لكنها قطعت هذه الصلات. إن ما تفعله قطر الآن ليس رد فعل على الموقف الخليجي. بالعكس إنه فعل مدروس ومخطط له. فهي لم تكن يوماً منسجمة مع دول مجلس التعاون، لأنها لم تكن مقتنعة أصلاً بتوجهاته وقراراته. فحال قطر في هذا المجلس كحال بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. ما جعلها تنتهج سياسة قوامها الازدواجية واللعب على التناقضات، إذ تفعل عكس ما تعلنه في غير ملف أو قضية. والآن وبعد أن انكشف المستور، عادت قطر إلى مشروعها والى قواعدها «الإخوانية»، بانشقاقها عن محيطها وانحيازها إلى المُعسكر المضاد الذي تقوده إيران. هذا ما جعل دول الخليج تلعب بدورها على المكشوف وتسمي الأشياء بأسمائها، فوضعت على لائحة الإرهاب الشيخ يوسف القرضاوي الذي يلعب دور المرشد العام في قطر. وهكذا، نحن إزاء النموذج الأصولي المتطرف ذاته، بوجوهه الثلاثة: مرشد ينظّر ويشرّع، داعية يفتي ويكفّر، جهادي يقتل وينفّذ. والنتيجة كل هذا الفساد والخراب وإراقة الدماء. والدرس أن محاربة الإرهاب لن تفلح قبل سقوط مشاريع الإسلام السياسي على اختلاف نماذجها. بل هي لن تجدي ما دام الدين هو عنوان وحيد للعمل الحضاري ينفي العناوين الأخرى. فالذين يتمسكون بالحلّ الإسلامي، يشهدون على جهلهم بأصول عقائدهم وبمآلاتها في هذا العصر، أو أنهم يمارسون النفاق بقدر ما يدعون إلى شيء لا يعملون به أو لا يقتنعون بصدقيته وفاعليته. وحسناً فعلت دول الخليج أخيراً، إذ اعتبرت أن انشقاق قطر يهدد «الأمن القومي العربي»، مستبعدة بذلك العنوان الإسلامي. فالعالم العربي ليس مستهدفاً فقط من إسرائيل والعالم الغربي، بل أيضاً وبخاصة من دول إسلامية لم تفد العرب بشيء، بل صدّرت لهم النماذج التكفيرية والإرهابية. وها هي إيران وتركيا، الجارتان المسلمتان الأقرب، تتدخلان لتعميق الشرخ بين قطر وعالمها الخليجي. وهم بذلك يخدعونها ولا يفيدونها، إذ هي ستصبح رهينة لمن تطلب حمايتهم من بيئتها ومحيطها. قد يعترض حماة الهوية الإسلامية بأن الغرب تخلى عن الدين كهوية روحية، ولكنه ما زال يستخدم الإرث الدّيني كأداة لخدمة مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية، بحثاً عن الغنيمة أو الموقع. ولكن هذا المنطق ينطبق، في شكلٍ خاص، على الأنظمة والحركات الإسلامية التي تستثمر الدين لأغراض ومصالح سياسية سلطوية، لأن هاجسها هو الوصول إلى الحكم والبقاء فيه بأي ثمن. وآخر ما تفكر فيه هو القيم الدينية كالتعارف والتواصل والتكافل والتراحم... من هنا نشأ التحالف العريق والمشبوه بين الدول الغربية من جهة، وبين الدول والحركات الإسلامية الراديكالية من جهة أخرى. حتى وإن اختلف الطرفان، فليس حرصاً على الهويات الثقافية أو على روحية الأديان، وإنما هي حسابات المصالح والمنافع. والحصيلة أن ثنائية الغرب والإسلام، التي شغلتنا طويلاً، هي ثنائية خادعة، فقدت صدقيتها منذ زمن، ولا يستخدمها إلا مكابر معاند لا يحسن قراءة التحولات التي غيّرت المعطيات الاستراتيجية والثقافية، وسط المشهد العربي والإقليمي والعالمي. لنحسن القراءة لكي نجد المخارج. إن مشكلة العرب هي مع أنفسهم ومع العالم، وهي بالأخص مع هويتهم الدينية سياسياً بالدرجة الأولى (...). وهذه هي بالذات مشكلة قطر. فهي بانشقاقها عن دول الخليج، واستقدامها قوات تركية أو إيرانية لحمايتها، تكاد تتحول الى لغم، كما هي ألغام الحوثيين و«داعش» و«النصرة» و«جيش المهدي» وسورية المفيدة، وسواها من الأنظمة والجماعات والميليشيات التي تساهم في تفكيك المجتمعات العربية وتمزيقها، تماماً كما فعلت إسرائيل عند إنشائها في فلسطين (...). الحوار الذي نطالب به ليس شعاراً نطلقه، لكي نهرب من مواجهة الذات بأعمال المراجعة والمحاسبة. وإنما هو مفهوم له منطوقه كما له منطقه. فالواحد يدعو أحياناً للحوار عن غير قناعة، لأن كل سياسته أو أعماله تشهد على الضد من ذلك. وهناك من يدعو صادقاً للحوار، ولكنه غافل عما يقتضيه الحوار الناجح الذي يخلق مساحة للتداول والتبادل والتفاعل. وذلك يحتاج الى العمل بمفردات الإعتراف والتوسط والتسوية. ممكنات الحوار والتسوية ليست مجرد الانتقاء أو التلفيق الذي يقوم على الجمع بين نقيضين لا يلتقيان أو بين ضدين يتمترس كل منهما وراء ثوابته، وكما تجري الحوارات العقيمة في لبنان والبلاد العربية، بين الطوائف الدينية أو بين الأنظمة السياسية. مثل هذا الحوار هو مجرد هدنة هشّة بين فتنتين أو حربين، حيث كل طرف ينتظر تغيّر الظروف لكي ينقُض التسوية وينقَضّ على الطرف الآخر. فالتسوية الناجحة تتم بعقلية التركيب البناء، الذي يتيح لصاحب الهوية أو الرأي أو الموقف أن يكسر نرجسيته القاتلة، فيعترف بالآخر وينصت إليه، لكي يحسن التداول معه ويفيد منه، بإنتاج صيغ وتركيب حلول تعود بالنفع المتبادل عليهما. والوجه الآخر للفكر المركب هو إدارة الحوارات والتسويات بمنطق التحويل الخلاق، وعلى نحو يتيح لكل طرف أن يتغير بانزياحه عن مركزيته الخانقة، بقدر ما يساهم في تغيير الطرف الآخر. ولذا لا تداول يثمر خيراً مشتركاً من دون تحول متبادل. مثل هذا التحول لا يُنجز من دون التحرّر من الماضي بأثقاله وقيوده التي تشدّ المجتمعات إلى الوراء. والمسلمون أمة مصابة بداء فتّاك هو عبادة الماضي. فهي تتشبّث به ولا تريد له أن يمضي، والمآل هو تلغيم الحاضر وتدمير المستقبل. ولذا لا يجدي حوار بمعطيات الذاكرة الموتورة التي تجعل صاحبها يشتغل بعقلية الثأر والانتقام، ولا بمعطيات الثقافة النرجسية التي تُترجم ادّعاءً وجهلاً وإخفاقاً. الحوار الناجح هو الذي يتم بلغة الخلق، التي تمكّن صاحبها فتح أبواب المستقبل، بقدر ما تتيح له إدارة حوارات ناجحة بابتكار مساحات للتعاون. مثل هذا التحول يحتاج الى تغيير العقلية والمفاهيم وقواعد العمل، على نحو تتغير معه رؤية الواحد الى نفسه والى واقعه، كما تتغير نظرته الى الغير والى العالم. ومن دون تغيير كهذا نطرح سؤال الحوار، لا لكي نصل الى أجوبة تفتح الإمكان للخروج من المأزق، بل لنساهم في إعادة إنتاج المشكلة بشكلها الأسوأ والأخطر. مرةً أخرى، هل قطر مستعدة لمثل هذا التحول؟ هذا ما يؤمل: أن تستخلص هذه الدولة الدروس والعبر، بعد أن وقعت في فخ سياستها، فتعود الى صوابها، وتعيد النظر في استراتيجيتها التوسعية التي ترتد عليها عزلة وخسارة. من هنا فإن العقل القطري الآن أمام التحدي: صوغ رؤية تتيح لقطر صنع صورة جديدة عن نفسها، لكي تمارس دورها الفاعل والبناء في محيطها الخليجي وعالمها العربي وفي العالم أجمع. الأزمة تعني أن هناك مرحلة استُهلكت بأفكارها وأدواتها، والمخرج هو أن تفكّر قطر بطريقة مختلفة، لكي تفتح أمامها أفقاً جديداً للعمل الحضاري. لم يعد الزمن زمن القرضاوي الهارب من بلده أو الإرهابي الباحث عن ملاذ آمن، كما لم يعد زمن علي عبدالله صالح والحوثي والغنوشي وعلي خامنئي وقاسم سليماني، وسواهم من الذين مارسوا أو يمارسون حضورهم على المسرح. لكي نحصد الكارثة والبربرية والعدمية، أي ما يكتب عاجلاً أو آجلاً نهاية دعواتهم المستحيلة واستراتيجياتهم القاتلة. لعلي أغرق بالتفاؤل لأنني أشكك بأن تتحول قطر عن مواقفها، لأنها تشكلت عبر العقدين الأخيرين، أي منذ إنقلاب الأمير حمد على والده، بانتهاج سياسة تحولت معها إلى إمبريالية مالية وإعلامية لخدمة مشروعها الأصولي «الإخواني»، بامتداداته الجهادية الإرهابية. بذلك اجتمع الطرفان على تبادل المنافع: قطر التي توظف المنظمات الجهادية لكي تصنع لها نفوذاً في المنطقة، والشيخ الذي يستغل الإمارة لإقامة دولة الخلافة. ولذا استبعد أن تعود قطر إلى البيت الخليجي، إلا بعد سقوط مشروعها. فهي لم تعارض ولم تنشق لكي تتصالح مع مصر أو مع السعودية أو الإمارات العربية (...). مقاطع من مقالة طويلة