كانت قمة الرياض غير مسبوقة، سواء من حيث حجمها واتساعها، أو من حيث أجنداتها وقراراتها. إذ كانت قمة مثلثة، متعددة الرؤساء والبلدان، بقدر ما هي متعددة القضايا والمهام. ولا شك في أنه ستكون لهذه القمة نتائجها ومفاعيلها أو تداعياتها الاستراتيجية والسياسية أو الاقتصادية والثقافية، في ما يخصّ دول الخليج والعرب عامة، أو في ما يخصّ دول المنطقة واللاعبين على المسرح من الدول الكبرى والقوى الفاعلة. أتوقف في هذه المقالة عند الجانب المتعلق بالثقافة. وما يلفت النظر على هذا الصعيد هو افتتاح «المركز العالمي لمكافحة التطرّف»، في مدينة الرياض، وهو على ما يبدو الأحدث من حيث أنظمته وبرامجه وأدواته الفائقة. من الضروري أن يحارب الإرهاب على المستوى العسكري والأمني. ولكن محاربته بصورة جذرية تتمّ على المستوى الفكري، لأن العمل الإرهابي، هو في أساسه ترجمة لعقيدة أو لعقلية، لنمط من التفكير أو لأسلوب في المعاملة. هل هو يشوّه الفكرة الأصلية التي انطلق منها؟ ولكنه يحاول استثمارها، لصلة بينه وبينها لا يُجدي إنكارها. هنا يكمن أصل المشكلة. فالمنظمات الإرهابية الجهادية لها جذرها الضارب في أصول العقيدة الإسلامية. ولا أعتقد أن مواجهته يمكن أن تنجح من دون تغيير نظرتنا إلى هويتنا الدينية. لنقارن في ما يخصّ هذا الشأن بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبيننا كعرب ساسة ومثقفين وإعلاميين. فهو تحدّث في قمّة الرياض بصفته يمثل بلده ويدافع عن مصالحه، لا بوصفه ممثلاً لدين أو طائفة أو هوية ثقافية كالغرب أو المسيحية... وهذا ما يفعله زعماء الدول الغربية في شكل خاص، بل معظم زعماء العالم، فهم يتحدثون بمنطق الدول والمصالح، لا بلغة الهويات والعقائد. من غير أن يعني ذلك عداءهم للدين. فباستثناء فرنسا التي تعد دولة علمانية لا دين لها، معظم الدول الغربية لها دياناتها الرسمية. فبريطانيا هي أنغليكانية، وإسبانيا كاثوليكية، واليونان أرثوذكسية. وهذه حال أميركا التي هي مسيحية، بروتستانتية، إنجيلية. وهي ليست على خصام مع الدين ومؤسسته، بدليل شعارها المصكوك على الدولار: إننا نثق بالله. ولهذا دلالته الكبرى، إذ شتان ما بين مفهوم «الإيمان» ومفهوم «الثقة». فالمؤمن يرجع إلى الله ويتوكّل عليه ويرجو عفوه. ولذا فالإيمان ينتج عبودية وطاعة عمياء. أما الثقة فهي تُحيل إلى معنى تبادلي، بقدر ما تعني امتلاك الفرد، في علاقته مع الله، قدراً من الحرية تجسّد في انشقاق البروتستانتية عن الكاثوليكية، كما عبّر عن نفسه في غلبة المذهب الليبرالي والنظام الرأسمالي. قد يتفاوت حضور العامل الديني في هذه الدولة أو تلك في العالم. ولكن الأمر الجامع بين معظم الدول، والذي يشكّل سمة من سمات العالم الحديث، هو انسحاب الدين من المجال العام باقتصاره على المجال الخاص، ورفع وصاية السلطة الدينية على الدولة والمجتمع، بحيث لم يعد لرجال الدين أي دور في الحياة السياسية. ولم يكن هذا ممكناً، إلا بعد انهزام السلطة الدينية أمام موجات الحداثة. تراجع الحريات لم يعرف العالم العربي مثل هذا التحول البنيوي، مع أن المجتمعات العربية أخذت، بعد احتكاكها بالعالم الغربي، تتدرّب على الرؤية العقلانية والفكر الحر أو على المنهج النقدي والنظام الديموقراطي، كما حصل ابتداءً من عصر النهضة والتنوير. ولكن حصل في ما بعد تراجع عن هذه المكتسبات، بعد صعود الأيديولوجيات القومية واليسارية. ومع صعود التيارات الأصولية ازداد الوضع تردياً، في ما يخصّ حريات التفكير والتعبير ونمط الحياة الحديث، مما جعل اللغة الدينية هي السائدة، بثوابتها الألفية وطوطماتها القدسية، بتهويماتها الخلاصية ونماذجها البائدة. ولهذا ترانا نعرف أنفسنا سياسياً تحت الخانة الإسلامية، وكما جاء في البيانات والكتابات التي صدرت عن قمة الرياض أو حولها، حيث العناوين كانت: التوافق الإسلامي الأميركي، الشراكة الأميركية مع العالم الإسلامي، القمة الأميركية - الإسلامية. قادة العرب والمسلمين... هذا فضلاً عن ثنائية الغرب والإسلام التي تتحكم، منذ عصر النهضة، في تفكير المثقفين حداثيين وأصوليين. قد تكون قمة الرياض بدّدت، على مستوى الخطاب، الصورة السلبية التي تكوّنت عند الرئيس الأميركي عن الإسلام. ولكن ذلك لن يحل المشكلة، لأن مشكلتنا الكبرى ليست مع الغير، بل تكمن في تعاملنا مع خصوصيتنا الدينية التي هي بُعد من أبعاد شخصيتنا، بوصفها عنوان الهوية وأساس المشروعية، وعلى عكس ما يحدث في معظم دول العالم التي انخرطت في العالم الحديث. لذلك اختُزلت هوية المرء المزدوجة، الملتبسة والمتوترة، إلى بُعدها الواحد، الضيّق والخانق، بخاصة بعد سيطرة رجال الدين الذين ابتلعوا سائر السلطات العائدة للأهل والمعلم والشرطي والنقابي والمثقف والسياسي. لذلك عدنا إلى الوراء بعد أن اجتاحت مجتمعاتنا مفردات الثقافة الدينية ورموزها كالشريعة والخلافة والمرشد والفتوى والصدقة والمبرّة والحجاب والبرقع والعمامة والحاج... على حساب مفاهيم الدولة والمواطنة والديموقراطية والقانون والمهنة والنقابة والحرية والحياة المدنية... وكانت النتيجة ممارسة الهوية على سبيل الخواء الفكري والإرهاب الديني أو التخلف الحضاري والتراجع الحقوقي. ولا عجب، فالذي يعتقد أن بوسعه اليوم ممارسة هويته على طريقة أسلافه، من غير تحويلٍ خلّاق، ينتهك ثوابته ويعود القهقرى إلى الوراء، بقدر ما تصدمُه المُتغيرات وتنتقم منه الوقائع. ومن السذاجة أن نقول إن هذا الطغيان للدّين يتم باسم الإيمان بما هو قدسي أو عُلوي أو روحاني. فما مورس باسم الدين من بربرية في الماضي والحاضر، قد فضح اللعبة وكشف المستور. فالبشر يتجاوزون الإيمان باعتمادهم كيانات معنوية وشخصيات مفهومية يستثمرونها لكي يشرعنوا سلطتهم بعضهم على بعض، أو لكي يسخّروها لمصالحهم وأهوائهم وعصبياتهم ونزواتهم... وليفق من غيبوبتهم الفكرية أولئك الغرقى في أوهامهم الروحانية والخائفون من موجة ما بعد الحداثة بفتوحاتها الفكرية وثوراتها المنهجية. فهم يشهدون على أنهم لا يعرفون مبنى أقوالهم، بقدر ما لا يحسنون قراءة الوقائع والنصوص. إنهم كالمرضى الذين يقفون ضد إرادة الفهم والتشخيص لما يشكون منه. وبيانه أن الروحانية هي العلاقة التي يقيمها الإنسان مع المعنى، كما تتجسد في ما يصوغه من القيم والقواعد أو يتعلق به من المُثل والمبادئ، التي هي محل للخرق والانتهاك، مما يجعلها في حاجة إلى إعادة البناء والتركيب على سبيل التعديل أو التطوير. أما ما أنجزه فلاسفة ما بعد الحداثة، على المستوى الفكري، فقوامه أنهم بتفكيكهم النصوص، تعرية وفضحاً، قد كشفوا ما تنطوي عليه المشاريع من الادّعاء والجهل أو الزّيف والكذب، على وقع ما انتهت إليه العناوين من الإخفاقات المدوية والمآلات البائسة، سواء على جبهة الحداثة أو في معسكر الدين. هذا ما حدث بنوع خاص في العالم العربي، حيث البدايات كانت واعدة، ولكن النهايات كانت كارثية. مثل هذا المأزق الحضاري جعل النقد يتجاوز الصراعات الأيديولوجية بين المدارس والمذاهب. لكي يطال ما يستبعده المثقفون والدارسون من نطاق التفكير والمساءلة، أعني مفهومنا للإنسان وطريقة تعاملنا مع هويتنا البشرية، وكما يتمثل ذلك في ما صنعنا بها إنسانيتنا من المفردات كالألوهة والعظمة والقداسة والنرجسية والنخبوية والبطولة، وسواها من الصور والنماذج التي هي مكمن العلّة ومصدر المُشكلة. لهذا فما يفعله واحدنا اليوم هو خفض السقف الرمزي من المقدسات والمتعاليات، الروحانية والمثالية، القديمة والحديثة، الدينية والعلمانية، عبر صياغة مفاهيم جديدة، لإعادة ترتيب علاقتنا بمفردات حياتنا واجتماعنا، كالتُقى الفكري والتواضع الوجودي. هذا ما تعبّر عنه مقولة «الإنسان الأدنى»: نحن أقل شأناً بكثير مما نحسب، من حيث علاقتنا مع مقولات العدالة والحرية والحقيقة والإيمان... وإلا كيف نفسّر أن تجتاحنا البربرية من حيث لا نحتسب، بعد كل هذا العصور من العمل الديني والتنوير العقلي، أو أن نغرق في العدمية التي تشهد بأن أوّل من ينتهك القيم والمثل هم دُعاتها وحُماتها؟ إن من يُطلقون الوعود الكاذبة ويمارسون الشعوذة الفكرية ليسوا نقّاد الإنسان، الذين يحتفظون بعينهم النقدية تجاه ما يطلق من الدعوات أو يطرح من المشاريع، وإنما هم الذين يتعاملون مع عناوينهم بعقل أحادي، يقيني، قطعي. والنتيجة أن تصدمهم الوقائع من حيث لا يحتسبون. وبدلاً من أن يعمدوا إلى إتقان منهج المراجعة والمحاسبة، نراهم يضعون الملامة على الغير لكي تزداد المشكلات تعقيداً واستعصاءً. لكل عصرٍ لُغتهُ والدرس هو أن نتعامل مع أفكارنا ومشاريعنا، لا بوصفها حقائق مطلقة أو متعالية، بل مجرّد رهانات، أي قراءة لما يحدث، تنبثق معها إمكانات جديدة للحياة والوجود، بقدر ما تُجترح طرائق مختلفة في التفكير، أو تُبتكر نماذج فعالة في العمل والتدبير، أو تُقتحم صعد جديدة للبناء الحضاري والإنماء البشري. وأياً يكُن، لم يعُد يُجدي استخدام العُدة الفكرية القديمة في هذا العصر، حيث المصائر والمصالح باتت متشابكة، سواء على مستوى دولة أو منطقة أو على مستوى الكوكب الأرضي. لكل عصرٍ لغته ومفاهيمه وقيمه، كما لكل عصرٍ قِواه وأدواته وبُناته. لنحسن التشخيص، كي نجد المخرج: ما ينقصنا ليس استمالة هذه الدولة أو تلك إلى جانبنا، كمسلمين، بل إجراء تحويل جذري يطال علاقتنا بالإسلام هوية ومعنى، مؤسسة ودوراً. وذلك يقتضي إخضاع معطيات وجودنا، وبالأخص التراث الديني، إلى المراجعة النقدية العقلانية والتنويرية، بحيث نقرأ في النصوص والخطابات ما لم يُقرأ من قبل، ما مُنع من القول أو استعصى على الفهم، تعريةً وكشفاً، تفسيراً وتأويلاً، تحليلاً وتركيباً. ثمة حاجة ماسة إلى مثل هذا النقد لتسليط الضوء على مواطن الخلل والقصور وعلى مكامن العِلل والآفات، وعلى نحو يتيح لنا ابتكار صيغة جديدة لحياتنا، نستثمر بها منجزات الماضي، ونفيد مما أنجزته المجتمعات الحديثة من الفتوحات والثورات والتحولات في مختلف مناحي الحياة. بذلك يحسّن العرب صورتهم في العالم، بقدر ما يشاركون في صناعة الحضارة القائمة على نحوٍ إيجابي وبنّاء. وهذا ما حصل إبان ازدهار الحضارة الإسلامية، حيث كانت حرية التفكير في ذروتها، في الشأن الديني كما في سواه، وكما عبّر عن ذلك المعرّي الذي وضع الأديان كلها على مشرحة النقد والمحاسبة من غير تمييز أو تفريق. وهذا ما عبّر عنه من جهتهم المعتزلة والفلاسفة الذين أخضعوا المفاهيم للمنطق العقلي. وبالإجمال لم يكن للحضارة الإسلامية أن تتطوّر وتتقدّم على المسرح العالمي على أساس الدين وحده. فهي ازدهرت لأن هناك عقولاً كانت تشتغل وتبتكر، لكي تدير وتُدبّر أو تقدر وترتّب أو تبني وتهندس، وكانت النتيجة التجديد المتواصل في حقول التفكير وفروع المعرفة، أو في قواعد العمل ونماذج البناء. لن تنجح المجتمعات العربية في الخروج من هامشيتها ما دامت تعتبر ما صنع في الماضي هو النموذج الذي يُقاس عليه، لكل تطورٍ أو تقدم . ولن تمارس حيويتها الوجودية ما لم يستخدم الفرد عقله بصورة حية وخلاقة، بكسر الوصاية عليه من أية سلطةٍ أتت، بحيث إذا أراد أن يدير شأننا أو يحلّ مشكلة يُفكر بصورة حية ومُستقلة، من غير أن يستعبده اسم أو أصل أو نموذج. هناك من يقول إن الإرهاب لا دين له ولا هوية. وهؤلاء يبسّطون المشكلة ويهربون من معالجتها، لأن الإرهابيين لم يأتوا من الخارج، إذ هم أبناء أو أحفاد لمن أسسوا مشاريع الإسلام السياسي، من أجل إقامة الحكومة الإسلامية وتطبيق أحكام الشريعة، كما هي نماذجهم من حسن البنا إلى روح الله الخميني، ومن يوسف القرضاوي إلى راشد الغنوشي. نخدع أنفسنا عندما نقول إن هناك من سرق الإسلام أو اختطفه أو صادره واحتكره، لأن الإسلام يملك القابلية لأن يكون محل احتكار أو أداة استبداد وإرهاب، كونه يقوم على احتكار الحقيقة، شأنه بذلك شأن الديانات القديمة والأيديولوجيات الحديثة التي يدّعي أهلها امتلاك الحقيقة لمصادرة حرية الرأي وإلغاء التعددية، باسم النص المقدس أو القضية المقدسة أو الشخص المقدس، والمآل هو احتقار الآخر والعمل على إلغائه، تكفيراً أو تخويناً، إما رمزياً أو مادياً، بالكلمة أو بالرصاصة. خلاصة القول: لن تفلح مكافحة الإرهاب، ما دمنا نعمل تحت سقف السلطة الدينية أو نتخذها عنواناً لهويتنا ومجتمعاتنا أو لدولنا وسياساتنا. فالمخرج هو رفع وصاية السلطة الدينية على الدولة والمجتمع والناس. لقد أُعطي رجال الدين وعماله الفرصة لكي يحكموا، ففشلوا فشلاً ذريعاً لكي ينشروا الرعب ويزرعوا الموت حيث أمكنهم ذلك. ولذا ليس لهم إلا العودة إلى مؤسساتهم ومدارسهم لكي يهتموا بمحاسبة أنفسهم وإصلاح أمورهم، بابتكار أدوار جديدة في ضوء المشكلات التي تستأثر باهتمام الإنسان المُعاصر. فذلك أصلح لهم وللإسلام، وأصلح لمجتمعاتهم وللعالم أجمع. من غير ذلك ستحصد المجتمعات العربية المزيد من الدمار وتسفك المزيد من الدماء.