في واحدة من رسائلها المهمة، كتبت جيرترود بيل (1907) مستغربة: «ما قيمة روابط القومية العربية والمنشورات التحريضية التي يطبعونها في المطابع الأجنبية؟ الإجابة سهلة، لا شيء. ليس هناك أمة عربية واحدة». كلمات بيل ربما تصلح لوصف طبيعة ما يجري في بعض دواوين وشوارع الخليج، حيث يتم رفع شعارات، واستعارة مفاهيم أجنبية، وترديد عبارات قد لا تعبر في الحقيقة عن واقع الأمر في تلك الدول. في هذا السياق يمكن طرح تساؤل ضروري: هل تحتاج دول الخليج إلى سلوك الطريق الراديكالي لتحقيق الإصلاح السياسي؟ أم أن الشعارات التي ترفع اليوم - مهما كانت جاذبيتها - تضمر تناقضات حادة لا بد أن تطفو للسطح في القريب العاجل لتكشف سراب وعود بعض المعارضين في الخليج؟ هناك حالة لا تخفى من الاحتقان والتحفّز يضّج بها الخطاب السياسي لبعض أطياف المعارضة في أكثر من بلد خليجي. الأسباب متعددة ومختلفة، والوسائل تفاوتت بحسب أحجام الجماعات والشخوص التي تنتهجها، ولكن ما يجمع بينها - للأسف - هو ارتفاع نبرة التصعيد اللفظي والحركي أحيانا إلى الحد الذي باتت معه بعض تلك التصرفات تمثل خطورة على السلم المدني، والوحدة الوطنية. الذي يتابع ما ينشر ويعرض في الإعلام، أو بعض ما يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، لا بد أن ينتابه القلق من حجم الشقاق الاجتماعي، بل والتعدي الشخصي في بعض الحالات نتيجة لخلافات سياسية ومذهبية ضيقة داخل المجتمع الواحد. بعض هذه المظاهر المغالية في معارضتها تعكس للأسف تأثرا سلبيا بما جرى ويجرى في المنطقة من انتفاضات شعبية ضد نظم شمولية عسكرتارية أو فاشستية استحال بعضها إلى حروب أهلية، فيما عبرت الأخرى إلى انتخابات عجلى حصدتها ائتلافات مهزوزة تقودها أحزاب دينية معروفة. ربما تجنبت دول الخليج المرور بهذه التجربة حتى الآن على الرغم من بعض المحاولات الخارجية لتصدير البعض منها كما جرى في البحرين، ولكن هناك تأثير هوائي ونفسي ما يزال يلتمس طريقه، وبإزائه هناك وجهتا نظر إحداهما متحمسة لما جرى ومستبشرة به، بل وينادي البعض - وهم قلة فيما هو ظاهر - بسلوك ذات الطريق الوعر زاعمين أن الإصلاحات وتوقيتها لا يرتقيان إلى رؤيتهم الخاصة أو الحزبية لما يجب أن تكون عليه الدولة والمجتمع. في المقابل هناك من يحذر من الانجذاب للنموذج «الثوري» - الطوباوي - لا سيما بين جيل الشباب، بل ويجادل البعض أن هناك محاولة لدى بعض التيارات الدينية المسيسة - الإخوان المسلمون على وجه الخصوص - نحو الضغط للحصول على مكاسب سياسية عبر التحالف المؤقت مع أطياف متناقضة ومتعارضة من المعارضة التقليدية والطارئة، وهناك من يرى أن ما تم مؤخرا في بعض الدول الخليجية هو افتعال للصدام مع الجهات الأمنية، والتشكيك في نزاهة القضاء، عبر التركيز على مسائل سياسية هي محل اجتهاد واختلاف، وهي مواقف تؤسس لصراع وجود أو إلغاء بين هذا الطرف أو ذاك. لا شك أن التصدي لنقد ممارسات المعارضة في دول الخليج ليس بالأمر الشعبي في هذه الأجواء لا سيما أن نقد السلطات الحاكمة بات أقل تكلفة وأكثر جاذبية مما كان عليه الأمر في السابق، فبوسع خطبة حماسية لهذا الخطيب، وعبارات مستعارة لذاك المدون، أن تشعر المرء أن ثمة تحولا تاريخيا يتم، ولكن العالم الافتراضي أو الخطابي لا يمكن أن يعوض العالم الواقعي. لأجل ذلك فإن المعارضة كما السلطة بحاجة إلى نقد وتقويم مستمرين، وإلى ملاحظة أنها هي الأخرى يخشى عليها من أن تتطبع بأخلاق وممارسات خصومها الحقيقيين أو المفترضين. دول الخليج تجمعها قيم ومصالح مشتركة كثيرة، ولكن ثمة اختلاف في تجارب وتاريخ كل واحدة منها سياسيا واجتماعيا، ولأجل ذلك فإن بوسعها أن تتعلم من بعضها البعض بيد أن لكل منها مسارها الخاص الذي يميزها، وتوقيتها الذي يلائمها في التغيير والتطور. كل تجربة تحكمها ظروفها ومواضعاتها الخاصة التي قد لا تتوفر لدى الأخرى. حقيقة.. النقاش الدائر اليوم حول تماسك أنظمة الخليج أو التحديات الصعبة الماثلة أمامها ليس بالجديد، فمنذ الخمسينات حين اجتاحت المنطقة موجة الانقلابات العسكرية تحت الغطاء القومي والباحثون يجتهدون لاستقراء مستقبل المجتمعات الخليجية. في كتابه «كل شيء في العائلة: الحكم المطلق، والثورة، والديمقراطية في ملكيات الشرق الأوسط» يدحض مايكل هيرب (1999) تفسير «الدولة الريعية» - نسبة إلى النفط - الذي عادة ما يستخدم لتفسير سرّ ديمومة واستقرار الأنظمة الخليجية ومجتمعاتها، ويشير إلى أن التحول المدني الحديث لم يلغ القواعد التاريخية التي تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بل تم تطويرها بنسب متفاوتة لتتوافق مع النظام العائلي الذي يطغى على العلاقة بين الطرفين. وفي سياق المقارنة مع نماذج مماثلة أدى فيها فشل الملكيات إلى نتائج كارثية كما في العراق، وإيران، وأفغانستان، واليمن، وغيرها، يؤكد هيرب على أن خيار التطوير التدريجي (evolution) هو الخيار الأضمن للدول الخليجية مقابل الخيار الراديكالي الثوري (revolution). للأسف، هناك في الخليج من يراهن على الخيار الثاني، وهؤلاء أقلية حزبية طامحة للسلطة حتى وإن كان ذلك على حساب الصالح العام للمواطنين في كل بلد خليجي، ولكن ما يدعو للقلق هو أن تلك الأقلية التي تضمر مشروعا سلطويا يتعارض في جوهره مع ما ترفعه من شعارات تتحدث عن «الحقوق» و«الحريات الفردية»، ومع ذلك فقد تمكنت من استمالة البعض، وعقدت تحالفات سياسية مع البعض الآخر. بيد أن وراء هذا المظهر «السلمي» المزعوم تاريخا لبعض هذه القوى والشخصيات من المواقف المتشددة، وأخطاء في الرأي والتصريحات لا يكترث البعض لمراجعتها.. في البحرين، استغل الإسلام السياسي الشيعي الأحداث الإقليمية، وانقلب على اتفاقات المصالحة مع الحكومة في السابق، وعلى التجربة البرلمانية التي كان جزءا منها، وعلى السلم المدني تحت شعار حرية التعبير والمطالبة بالحقوق السياسية. وفي الوقت الذي يتعاطف فيه مع بعض العناصر المتطرفة التي تنتهج العنف لكي يستخدم رد الفعل الأمني من قبل الحكومة لصالحه، لم يجد الحزب الأصولي الذي كان يصفق لزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله ما يقوله لإدانة ما يجري في سوريا حتى لا يغضب النظام في طهران. في السعودية، خرجت عناصر متطرفة حرضتهم شخصية من الإسلام السياسي متشددة كانوا يدعون للمواجهات العنيفة ضد الحكومة مما هدد الأمن والسلم الاجتماعي، ومع ذلك برزت أصوات تبرر ما جرى عبر استدعاء المظلومية الطائفية، ولكن في الحقيقة تلك الأحزاب الأصولية المستفيدة ليست معنية بحقوق الطائفة، بل باختطاف صوتها لمصالح حزبية ضيقة. وللأسف، فإن بعض مثقفي الشيعة واليسار الليبرالي في المنطقة يتحدثون عن تطرف الجماعات السنية فيما يتم وصف مثيلها من التطرف الشيعي بوصفها مظاهر مشروعة أو مبررة. أما في الإمارات التي تتميز بتجربتها التنموية في المنطقة، فقد برزت للسطح دعاوى مسيسة من شخصيات لها ولاءات تنظيمية، وعوضا عن أن تساهم في تطوير أنظمة البلد فإنها تعد بالانغلاق والتراجع عن تشجيع الاستثمارات الخارجية والانفتاح على العالم الخارجي لدعاوى آيديولوجية ضيقة، والبيانات التي صدرت مؤخرا شاهدة على ذلك. في الكويت، حيث هناك تجربة برلمانية مميزة منذ الستينات، يحاول البعض استخدام الشارع لفرض تفسيره للدستور وذلك أمر يدعو للقلق، فدولة لديها انتخابات برلمانية عريقة بوسعها إجراء الحوارات السياسية اللازمة وفق الضوابط الدستورية، والتشريع بما هو في صالح مواطنيها، ولكن مواجهة الجنود في الشوارع - أو تحريضهم ضد السلطات - لاقتحام المباني الحكومية هي وصفة للفوضى والشقاق الاجتماعي. لعل أبرز دليل على خطورة ما يجري هو قول البعض إن هذه القبيلة تدعم هذا الناشط أو تبارك ذلك الحراك؟ هذا مؤشر خطير. المعارضة في الخليج - للأسف - لها علل كثيرة، فهي لا تعد باستدامة الناجح من مشاريع التنمية الماضية، أو برامج اقتصادية واضحة لمستقبل بلدانها، وغير مكترثة بالتهديدات الإقليمية، بل إن بعض الشخصيات الناشطة اليوم في هذا الحراك كان يمتدح ويبارك دور حزب الله، وانقلاب حركة حماس على التجربة الديمقراطية في غزة، بل بعضها له آراء صريحة في رفض حرية التعبير، وإعطاء المرأة المزيد من حقوقها، والتبرير للعنف من قبل بعض الجماعات الإرهابية. ينبغي أن تتعلم مجتمعات الخليج من تجربة «الربيع العربي» الأخيرة، حيث شارك اليسار الليبرالي وقطاع من المستقلين التظاهر مع الإسلاميين في التحرير تحت دعاوى التوحد لإسقاط النظام، ولكن حين سقط النظام، انفرد الإسلاميون بالحكم، وذهب الآخرون ليندبوا حظ «الحريات» و«الحقوق» العاثر على مواقع التواصل الاجتماعي.