كان على محمد، سائقنا الكردي السوري الذي نقلنا من معبر سيمالكا بعد أن نقلتنا قوارب الحزب الديموقراطي الكردستاني إلى الضفة السورية من نهر دجلة إلى مدينة القامشلي، أن ينتظر تجاوزنا مسافة عشرين كيلومتراً حتى يتمكن من التقاط شبكة الهاتف الخليوي التركية لكي يعطينا إشارة ال «إنترنت» ولنباشر بدورنا اتصالاتنا. ف «روج آفا»، أي الإقليم الكردي السوري العتيد تتقاطع عند حدوده ثلاث شبكات هاتف خليوي، الشبكة السورية الضعيفة، والشبكة العراقية التي تتلاشى إشارتها بعد كيلومترات قليلة من معبر «فيش خابور» والشبكة التركية التي تعمل على طول الحدود السورية- التركية، لكنها تضعف ما أن تبتعد عن هذه الحدود. «روج آفا» يعيش على تخوم الشبكات الثلاث، وله مع الدول، صاحبتها، قصص توازي قصصه مع شبكات هاتفها. نهر دجلة يفصله عن كردستان العراق، فيما يتولى جدار إسمنتي هائل ومرتفع فصله عن عمقه الكردي في تركيا، وخطوط الجبهة مع «داعش» في الرقة وفي دير الزور ترسم حدود إقليم «شمال سورية» الذي يتصدره أكراد الجزيرة السورية. الطريق الذي قطعناه في السيارة من مدينة الموصل العراقية إلى مدينة كوباني السورية يبلغ طوله نحو 800 كيلومتر. وكان علينا أن نعبر نهر دجلة في قوارب الحزب الديموقراطي الكردستاني، ليتسلمنا على الجانب السوري من النهر موظفون في الإدارة المحلية التي أنشأتها قوات «سورية الديموقراطية». من العراق إلى سورية على خطوط حربين على «داعش» لا يربط بينهما سوى الدعم الأميركي للقوى التي تخوض الحربين على التنظيم الإرهابي. المقارنة تحضر من تلقائها أثناء عبورك العراق إلى سورية. ما يجمع البلدين في وعي العابر، حرارة مترافقة مع طقس جاف شديد القسوة، و «داعش» الذي يقاتل على تخوم المدن التي احتلها. الدمار الهائل أيضاً، واللغة الكردية التي لا نجيدها، على رغم أننا ألفنا عبارات كثيرة منها بفعل تغطيتنا الحروب الممتدة منذ التسعينات في بلاد الأكراد. طه، صديقنا الكردي السوري الذي كان ينتظرنا عند معبر سيمالكا على نهر دجلة، حمل أوراقنا وجوازات سفرنا وتوجه بها إلى إدارة المعبر، بينما كان عابرون قليلون ينتظرون مثلنا إنجاز معاملات الدخول والخروج من وإلى سورية. فالعلاقات بين الجماعتين الكرديتين العراقية والسورية لا تتيح كثيراً من التواصل ومن العبور. تركيا تقف هنا، ومجدداً، عائقاً بين تواصل الأكراد بعد أن تصدع «البعث». إيران أيضاً تشكل جزءاً من الانقسام الكردي أيضاً، ولا يبدو أن العلاقات التي تجمع الحزب العراقي والحزب السوري بالقوات الأميركية التي تتولى الحرب الجوية على «داعش» كافية لبعث الدفء في العلاقة بين الحزبين الكرديين. لكي نصل من سيمالكا إلى كوباني علينا أن نعبر معظم مدن الرميلان والقامشلي وعامودا والدرباسية ورأس العين وأن نجتاز مسافات صحراوية هائلة. القول أن هذه المدن كردية محفوف بأخطار «التكريد»، تماماً كما هو القول أنها عربية ينطوي على احتمالات التعريب التي واصلها البعث طوال فترة حكمه سورية. أثر البعث واضح في هذه المدن، والشفاء منه لا يبدو متاحاً. المباني على الطرق العامة بعثية، وكذلك وظائفها وأسماؤها، والغبار الذي لا يبدو أن أحداً قاومه منذ عقود طويلة. لكن طه، صديقنا الكردي، والمتحمس لتجربة الحكم الذاتي التي باشرها الأكراد السوريون منذ أكثر من ثلاث سنوات، يؤكد أن زمن البعث انقضى وأن السكان بصدد التأسيس لتجربتهم. صور عبدالله أوجلان ممتدة على طول الطريق. والمقاتلات الكرديات في حزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني (الأبوجي) منتشرات على الحواجز بين المدن والبلدات. الأكراد يحتفلون بمقاتلاتهم، ويقدمونهن بصفتهم علامة تقدمهم على محيطهم الذي لا يسمح لنسائه بالظهور وبالقتال. ففي الإدارة مثلاً فرضت قوات «سورية الديموقراطية» مديرة في موازاة كل مدير. الوثائق «الرسمية» تأتي موقعة من مديرة ومدير، ومعبر سيمالكا على رأسه ضابط وضابطة، ومخيمات اللاجئين العرب في المدن التي تسيطر عليها قوات «سورية الديموقراطية» يحرسها مقاتلون ومقاتلات كرديات. كنا فريقاً تلفزيونياً كبيراً، والأكراد لا يرغبون بإخفاء شيء عن الكاميرات الكثيرة التي كانت بحوزتنا. أو على الأقل هذا ما شعرنا به. طائرة التصوير (درون) التي أحضرناها لم تتمكن من التحليق بفعل ال «نو فلاي زون» التي أقامها الأميركيون فوق منطقة القتال مع «داعش»، لكن تمكن زميلنا مازن من حجب الطائرة عن رادارات الأقمار الاصطناعية ومن ثم إطلاقها، لم يثر حفيظة الأكراد. بدت المدن لي هذه المرة مشاهد أكثر منها حكايات. فأنا الصحافي الباحث عن قصة أكتبها كان علي هذه المرة أن أؤلف القصة من مشاهد، ومن تناسل صور تلتقطها الكاميرا. كان علي أن أمشي أمام الكاميرا وأن أواصل المشي وأن أكرره. الفكرة أقل من الصورة هنا، والمشهد يجب أن يكون سياقاً لحكاية مصورة. الطريق الصحراوي الهائل قطعت مسافة قصيرة منه وفوق رأسي ال «درون»، وهذا الأفق الذي يفصل بين مدينتي رأس العين وكوباني والذي يغور بين كتفي هضبتين صغيرتين علي أن أعبره لكي يُصدق المشاهد أنني كنت هناك. الأكراد الذين لطالما عرفتهم وألفتهم وغرقت في قضيتهم هم الآن على حقيقتهم أكثر مما كانوا حين كنت أسجل ما أعاينه وما أسمعه خلال زياراتي بلدانهم. الكاميرا حاجز بيني وبينهم، إلا أنها كاشفة لحجم الكارثة التي حلت بهم. حين كنت أؤلف الحكاية، حكايتهم، كنت أقترب فأصير واحداً منهم. اليوم الكاميرا تضعني خارجهم، ومن تلك المسافة يمكنني معاينة الفاجعة. في القامشلي مربع أمني تحت سلطة النظام السوري، فيما المدينة تحت سلطة ال «بي يو دي». علينا هنا أن نعود إلى شبكة الهاتف السورية الضعيفة وغير المكترثة لخدمة المواطنين السوريين الأكراد. لم يعد للسلطة السورية سوى هذه الخدمة الضعيفة. الكهرباء تتولى توزيع ساعات تغذيتها القليلة الإدارة الكردية، وحقل الرميلان النفطي صار تحت سيطرة الحزب الكردي. مطار القامشلي يعمل أيضاً، فيومياً تهبط فيه وتقلع منه أكثر من ثلاث طائرات مدنية سورية من وإلى دمشق. المطار هو المنفذ الرسمي الوحيد ل «روج آفا». والمربع الأمني المتبقي للنظام في المدينة مهمته الإبقاء على سلطة شكلية للدولة تتيح بقاء المطار. هذا ما شرحه لنا طه حين سألناه عن العلاقة بين ال «بي يو دي» والنظام السوري. والقامشلي لا تبدو متوترة جراء وجود هذا المربع الأمني في وسطها، والطريق الذي يصل هذا المربع بالمطار والذي تعبر منه سيارات تابعة للنظام، هو أيضاً طريق عبور عادي للمواطنين الأكراد. في القامشلي اليوم نحو نصف مليون مواطن، وهذا العدد هو نتيجة تضاعف عدد السكان بفعل لجوء عشرات الآلاف من مدن الشمال السوري إلى المدينة. واكتظاظ المدينة مضافاً إليه غرابة واقعها الذي يعكسه تعايش السكان مع مربع أمني تابع لنظام لطالما استهدف الأكراد، يصبح باعثاً على الاطمئنان، فأنت الآن بين نصف مليون شخص، وهذا يشكل استثناء في مدن الحرب السورية والعراقية. ما أن تغادر القامشلي متجهاً نحو عامودا ومنها وصولاً إلى كوباني، عليك أن تباشر البحث في هاتفك عن شبكة الهاتف التركية. الجدار الأسمنتي الذي بناه الأتراك أخيراً على طول الحدود مع سورية لا يحجب إشارة الهاتف. الجميع هنا يملك شرائح هاتف تركية يتزودون منها أيضاً بالإنترنت. وعلى الكاميرا هنا أن تختفي، ذاك أن الجنود الأتراك على أبراج المراقبة لا يحبون التصوير على ما قال لنا طه. وهم يعتبرون أن العابرين على الطريق السوري الموازي لحدودهم عناصر من حزب العمال الكردستاني. الحصار يظهر هنا جلياً أكثر مما يظهر على الحدود مع العراق، أو في مناطق التماس مع النظام السوري أو مع «داعش». فالحدود مع تركيا تفصل بين مدن فقيرة وأخرى مزدهرة، وبين نمط زراعي متقدم وآخر متخلف، وبين جنود نظاميين، وآخرين حديثي التشكل ومتفاوتي التجهيزات. المدن على طرفي الحدود، بحسب طه، هي نفسها، لكن الفارق بين جزأيها السوري والتركي هو أن الأولى حكمها البعث والثانية استفادت من وجودها في دولة أحدث، على رغم أن الأكراد كانوا ضحايا النظامين في سورية وتركيا. في الرميلان استقبلنا الدار خليل، وهو أحد مسؤولي الإدارة المحلية، في أحد المقار التي كانت سابقاً مبنى لخبراء النفط الروس الذين كانوا يديرون حقل الرميلان النفطي. شرح خليل تجربة الإدارة الذاتية في «إقليم شمال سورية»، مؤكداً أن الكلام عن هيمنة كردية على مناطق العرب في هذا الإقليم غير صحيحة، وأن طموح الأكراد بإقليم الشمال ليس قومياً على الإطلاق، وأن التمثيل العربي في هذا الإقليم سيوازي وربما يفوق التمثيل الكردي. ولفت إلى أن «روج آفا» ليس اسم إقليم الشمال السوري إنما هو الاسم الذي يطلقه الأكراد على مناطقهم في هذا الإقليم. حدود «روج آفا» ضيقة، وإذا كان أكراد العراق أطلقوا في أيام محنتهم مع صدام حسين عبارة «لا صديق للكرد سوى الجبال» فإن أكراد سورية لا صديق لهم سوى «السماء» حيث الطائرات الأميركية تتولى تغطية حربهم مع «داعش» فيما جيرانهم الأتراك والعرب، والأكراد العراقيون، مرتابون وينتظرون فرص الانقضاض على تجربتهم. الركون لوعود أميركية للخلاص أمر اختبرته معظم جماعات المنطقة وحصدت خيبة كبرى، وهذه حقيقة لا يمكن لأكراد سورية تفاديها في سعيهم للخلاص.