جاء فوز المخرج علي بدرخان خلال الأسابيع الماضية ب «جائزة النيل» وهي أرفع جائزة تمنحها مصر سنوياً في مجالات الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ليتوج مسيرة من العطاء السينمائي بدأها عام 1967 وامتدت حتى الآن عبر إخراجه مجموعة من الأفلام شكلت غالبيتها علامة في تاريخ السينما المصرية، لعل أشهرها «شفيقة ومتولي» و «الكرنك» و «الراعي والنساء». فنان بحكم الموهبة والوراثة والجينات، فهو نجل أحد رواد ومؤسسي صناعة السينما في مصر المخرج أحمد بدرخان. درس علي بدرخان السينما، ثم حاز منحة للتدريب في أستوديوات مدينة السينما الإيطالية لمدة عامين كاملين ليعود بعدها ليعمل مساعداً لوالده في عدد من الأفلام بينها «أرض النفاق»، و «نادية»، وبوفاة والده عمل مساعداً لمخرجين كبار منهم يوسف شاهين الذي أولاه ثقة كبيرة واعتمد عليه حال غيابه أو مرضه. أفلام قليلة لمسار طويل استطاع ذلك الشاب الوسيم أن يوقع سندريلا الشاشة وفاتنتها سعاد حسني في غرامه فتزوجا لمدة 11 عاماً، وكانا قد تعارفا أثناء تصوير «نادية». على رغم سنواته في عالم السينما والتي تمتد عبر خمسين عاماً، بلغ عدد الأفلام التي أخرجها 10 أعمال سينمائية فقط، آخرها عام 2009 «الرغبة»، فيما تفرغ إلى تدريس السينما إلى الأجيال الجديدة يعطيهم عصارة تجربته ويعلمهم أساسيات وحرفيات العملية السينمائية. فيما لا يعمل على إخراج أي أعمال سينمائية في الوقت الراهن. وللمناسبة كان هذا الحوار: لماذا اكتفيت بإخراج 10 أفلام فقط عبر مسيرتك الفنية، بينما ينتظر الجمهور منك المزيد؟ - لا يخضع الأمر للكم ولكن للمضمون، والجمهور لا يفكر ولا يلتفت إلى المخرج، ولكن يبحث عن نجوم العمل من الممثلين وإذا لاقى العمل صدى ونجاحاً يبدأ المشاهد بالاهتمام به. فالمشاهد يذهب إلى نجمه المفضل وليس إلى المخرج. وما أسباب الغياب عن الإخراج؟ - يخضع الأمر إلى الظروف الإنتاجية ووجهة نظر المنتج في الموضوعات التي يتم صناعتها، إذ إنني لست فنانًا يرسم لوحة أو موسيقاراً أؤلف مقطوعة موسيقية، لكني أقوم بصناعة مشروع اقتصادي يتكلف ملايين الجنيهات، وثمة جهات أخرى تتدخل في تلك الصناعة التي لا تتوقف عند المؤلف أم المخرج، وحتى الممثل لن يتعاقد معه أحد إن لم يكن قادراً على اجتذاب الجمهور. إذن سبب الابتعاد هو سطوة السينما التجارية؟ - من المحتم أن تفرض السينما التجارية شروطًا معينة لأنها بمثابة مشروع اقتصادي، ينبغي أن تتوافر فيه ضمانات استعادة تلك الأموال ويا حبذا لو حقق الفيلم نجاحًا ومكسبًا، كي تدور العجلة ويتم إنتاج المزيد. لذا لا أميل الى ترديد الشعارات والكلام المكرر لبعضهم حول المستوى الثقافي والفني للفيلم، إذ هو مجرد حديث «هواة» من خارج المهنة. فمنتجو الأفلام التجارية لا يقع على مسؤوليتهم نشر الثقافة لأنهم مجرد أشخاص يقيمون مشروعاً اقتصادياً للتكسب منه، فلا ينبغي تحميل المنتج مسؤولية أن يكون مثقفًا يرى أبعاد الفيلم وتأثيره في الجماهير، لكن الجهة المنوطة بذلك هي الدولة وإلا فلتلغَ وزارة الثقافة والإعلام. إذن انت تحمّل الدولة مسؤولية التراجع؟ - أقدمت الدولة على الإنتاج في الخمسينات والستينات وفقاً لرؤية وتصور وضعتهما حيال الثقافة والفن، وكانت تموله بأموال «الشعب للشعب»، ولا يمكن مطالبة المنتجين بأموالهم لإنتاج أفلام للشعب، ويعد تراجع الدولة عن الإنتاج أمراً مؤسفًا، إذ كانت السينما إحدى القوى الناعمة للدولة المصرية في العالم العربي الذي كان يفهم لهجتها ومعجبًا بنمط الحياة فيها ومحبًا للأغاني والموسيقى التي تعرض عبر أفلام تصنعها القاهرة، وفاقت قوتها وتأثيرها ما تحققه كل مساعي السفارات في الأنحاء كافة، لكن تحول الفن المصري إلى البحث عن المكاسب، ما يشير إلى أننا لا نرى المشهد ونقيّم الأمور في شكل عشوائي، بينما ثمة ضرورة أن تعي الدولة أهمية مردود الرسالة الفنية والتي تتجاوز العائد المعنوي والفكري لتصير وسيلة للتواصل مع الشعوب الأخرى، وهذا ثمن باهظ لا يقدر بمال ومن المؤسف أنه لا يوضع في حسبان المسؤولين. بدرخان والسندريللا لماذا استحوذت الفنانة الراحلة سعاد حسني على بطولة القسط الأكبر من أفلامك، خمسة أفلام من إجمالي 10 قمت بإخراجها؟ - تقاربنا بحكم كوننا زوجين، وحين تكون زوجتي هي النجمة الأولى في مصر والعالم العربي كيف لي أن أبحث عن ممثلة أخرى ولماذا، طالما متاح لي العمل مع النجمة الأولى. وعلاقتي مع سعاد ظللتها الاستفادة المتبادلة فخلال عملنا معًا تعلمت منها كثيرًا بخاصة الأمور المتعلقة بتوجيه الممثل وقراءته للسيناريو، وهي أيضاً تعلمت مني من خلال تبادل الملاحظات والخبرات. طالبت الجميع بأن يرحموا سعاد حسني بخاصة بعدما تحولت عقب رحيلها إلى مادة جدلية في الإعلام؟ - يحاول بعض العاملين في الوسائل الإعلامية أحيانًا استغلال الحياة الخاصة في شكل غير محترم نظراً لفقر الموضوعات المطروحة وهم يبحثون عن «خبطات» تضمن التفاف الجمهور، لذا يتخذ بعضهم من سيرة المشاهير «علكة في الأفواه»، وهو سلوك غير محمود. كما ينبغي ألا يتطرق عمل حول فنانة كبيرة مثل سعاد حسني إلى قصص الحب والخيانة والطلاق وأحاديث لا طائل منها وإلا تحولت إلى جلسة نميمة وليس رسالة فنية. كما أن إنتاج عمل عن فنان كبير ومؤثر ينبغي أن يدور حول بدايته وكيفية وصوله لقمة المجد وهو ما يسمى «رحلة الكفاح»، ومن لا يستطع أن ينتهج ذلك من الأفضل أن يبتعد عن نهش سيرة الراحلين. ألم تفكر في الكتابة عن علاقتك بسعاد حسني خلال فترة زواجكما التي استمرت 11 عامًا؟ - أرفض ذلك لكونه لا يخص أحداً سوانا، ولست مقتنعًا بكتابة مذكراتي الشخصية أو عازماً على ذلك مستقبلاً. حملت بعض أفلامك ملمحاً سياسياً ومن بينها فيلم «الكرنك» الذي اتهمه البعض بالمبالغة وتشويه عصر عبدالناصر؟ - ثمة من انتقد الفيلم من منطلق الفهم وحسن النية فيما انتقده آخرون بسوء نية، لكن لم يتطرق أحدهم إلى الشكل الفني العميق للعمل، ولم يتناولوا العمل السينمائي من حيث لغة الصورة وعناصره الفنية، والمخرج لا يسأل عن موضوع الفيلم لأنه ليس قضيته، و «الكرنك» هو قصة لنجيب محفوظ وأنا كمخرج لست معنيًا بالحديث عن موضوع الفيلم نفسه، كما أن السينما تتكون من مجموعة عناصر فنية منها التصوير والتمثيل والمونتاج وسيناريو وإخراج وديكور وموسيقى، كيف يتم تجاهل كل ذلك والتركيز حول الموضوع فقط من دون التطرق للفيلم ككل وهو أمر منوط به المتخصصون، فليتحدثوا عن السينما وعناصر العمل الفني ومن دون ذلك يمثل إضراراً بالتذوق وفن السينما عموماً. هل تعرضت لأي مضايقات بفعل الفيلم؟ - لم تصادفني أي عقبات أو مضايقة ولكن كي يتم التصريح بالفيلم طلبت السلطات المختصة التطرق إلى «ثورة التصحيح» في نهاية الفيلم على رغم أن أحداثه دارت في فترة سابقة. أخرجت أفلاماً عدة عن قصص لنجيب محفوظ بينها «الجوع» و «أهل القمة»... هل كان كاتبك الأثير والمفضل؟ - أحببت أعمال نجيب محفوظ بخاصة نظرًا لأن كل كلمة من تأليفه يقابلها معادل مرأي محسوس يمكن ترجمته سينمائيًا، ما يشكل سهولة على المخرج في تحويل تلك القصة إلى صورة، وهذا يعود إلى تأثر محفوظ بعمله ك «سيناريست» في بعض الأفلام، ما أثر في مؤلفاته الأدبية فكان يكتب وكأنه يشاهد الصورة أمامه ومن هنا كانت موهبته متفردة. وفي العادة كنت حين يتم ترشيحي لإخراج عمل سينمائي عن قصة لنجيب محفوظ، كنت أطرح عليه رؤيتي للقصة واستيضاح مقاربتها لرؤيته من عدمه، وللحقيقة كان لا يتدخل من قريب أو بعيد، قد يبدي ملاحظات طفيفة في شأن أمور قد يراها غير موفقة أو ليست في مصلحة العمل السينمائي، كنت أستأنس برأيه قبل العمل على الفيلم. خلاف مع محفوظ تناول فيلمك «أهل القمة» 1981 سياسة الانفتاح وتأثيراتها الاجتماعية والأخلاقية، لكنك غيرت نهاية قصة نجيب محفوظ، فكان اختلاف بين النص الأدبي والسينمائي... لماذا؟ - ثمة خلاف وقع بيني وبين محفوظ حول نهاية ذلك الفيلم، إذ تنتهي قصته بأن تضع الحكومة يدها في يد اللصوص فيما رأيت ضرورة أن يظل هناك من يقاوم، ووافق محفوظ على مضض، وآثرت أن يظل الضابط بطل العمل شريفاً، يسير عكس التيار ولا يضع يديه في أيدي اللصوص، إذ ابتغيت أن أبعث ب «رسالة أمل»، فطالما نحن على قيد الحياة لابد أن نطمح في غد أفضل يمنحنا القدرة على البقاء وإلا نموت. أترى أن تلك النهاية تحققت؟ - رأينا مؤشرات أمل، إذ انتفضت الجماهير في 17 و18 كانون الثاني (يناير) 1988، وأيضًا اندلعت ثورة 25 كانون الثاني ضد الفساد والظلم، فالشعب لم يمت، عاش وقاوم وسيستمر مادامت مصر ونتوقع الأفضل دائمًا. هل أردت التحريض على الثورة من خلال فيلم «الجوع» 1986؟ - لم أبتغ التحريض على الثورة خلال الفيلم بل أردت التأكيد على ضرورة دفاع الناس عن حقوقهم طالما يعملون وينتجون، وهو الهدف الرئيس للفيلم المأخوذ عن ملحمة «الحرافيش» أحد أشهر أعمال نجيب محفوظ و «الجوع» واحد من أجزائها، حيث يتوالى الفتوات على الحارة وعندما يأتي فتوة يتعاطف مع البسطاء والصنايعية تصير حياتهم أفضل قبل ان يأتي فتوة ذو تطلعات بالتحول إلى طبقة الأثرياء المستغلين عبر قهر طبقة العمال وهكذا دواليك وتركزت رسالتي حول ضرورة ألا ننتظر «فتوة» كي يحسن ظروف معيشتنا، لكن على الشعب الحفاظ على مكتسباته والدفاع عنها. ويعود استشراف الواقع إلى رؤية وأفكار صانع العمل الذي يتضح انتماؤه وقناعاته الفكرية في الحياة عبر صياغته تفاصيل أعماله. اخترت أحمد زكي في بداية حياته الفنية كي يكون بطلاً في «الكرنك»، لكن واجهت رفضاً من المنتج رمسيس نجيب، ومرت السنوات وتحول زكي إلى نجم معظم أفلامك منها «شفيقة ومتولي» و «الراعي والنساء» و «نزوة» و «الرجل الثالث» لماذا؟.. هل رأيت فيه نجومية لم يرها الآخرون؟ - عرفت زكي من طريق زوجة صلاح جاهين السيدة منى قطان وكان طالبًا للفنون المسرحية، وقد وجدته الأنسب للدور في «الكرنك» فهو ينتمي إلى بيئة شعبية، فتلك الشخصية لم تكن تتطلب فتى وسيماً بل صاحب ملامح مصرية، واستشرفت فيه نجماً جديدًا، لكن قوبل برفض منتج الفيلم لأن توزيع الفيلم يتطلب نجماً لامعًا. ورأيت أن أحمد زكي يتمتع بموهبة وفطرة ربانية، وكان فناناً كبيراً يعيش للفن وكرس نفسه للتمثيل وانغمس في عالمه ولم ينشغل بسواه واجتهد على تطوير أدائه وأدواره.