يصح تصنيف كتاب «سيرة العنقاء: من مركزية الذكورة إلى ما بعد مركزية الأنوثة» للناقدة السورية أسماء معيكل (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2017) ضمن الدراسات الثقافية الجديدة، والتحليل الثقافي للظواهر في سبيل تفكيكها والكشف عن مخبوئها، سعياً إلى الوصول إلى حقيقتها، ومن ثم التوصّل إلى بناء معرفة بديلة، وتحقيق التغيير الاجتماعي، عبر الاهتمام بتجارب النساء وأصواتهن في بناء معرفة بديلة تراجع المعرفة السائدة والمهيمنة، التي كشفت النسويات عن مواضع غياب النساء فيها، وإقصائهن، وكتم أصواتهن، وتغييب التجربة النسائية فيها وتجاهلها. يتصدى البحث النسوي للبنى الفكرية والاجتماعية والأيديولوجيات القائمة على قهر النساء، وذلك عبر توثيق حيوات النساء وتجاربهن وهمومهن، وإلقاء الضوء على الأنماط والتحيزات القائمة على أساس الجنس، والكشف عن معارف النساء التي طال إغفالها. كما أن أهداف البحث النسوي تعزز تمكين النساء وتحريرهن في سبيل تشجيع التغيير الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية للنساء. إنّ التصدعات الاجتماعية والقيمية التي شهدتها المجتمعات العربية، وما وقع من أحداث جسام في العقود الأولى من الألفية الثالثة، ومن ذلك الأزمات السياسية، والاقتصادية، والحروب الأهلية، والفتن المذهبية، والاستبداد، قد ألقى بظلاله على أحوال المرأة، فعادت بها القهقرى إلى الوراء، إلى ما قبل عقود من ذلك، ففقدت ما حققته سابقاً من مكاسب نالتها عبر مسيرة كفاح طويلة من أجل حقوقها، فقد ثبت أن معظم ما حصلت عليه تلك المجتمعات من مفاهيم للحداثة، والتمدّن، لم يكن سوى قشور هشة انهارت سريعاً لتكشف عن الجاهلية الأولى التي ما زالت تعشش في العقول، وتنبض بها القلوب، ولعلّ المرأة تكون من أبرز ضحايا هذه الأحداث، فقد أعيدت إلى زمن وأد البنات، بسبب النزوح والهجرة والتطهير العرقي والمذهبي، وتم إحياء مفاهيم سبي النساء بين الأطراف المتقاتلة، ووقع بيعهن كسبايا في أسواق النخاسة، إحياء لتقاليد القرون الوسطى في اقتسام غنائم الحروب، ومارست الأنظمة السياسية عنفاً مفرطاً بحق نساء الجماعات المعارضة لها، كان أقله الاغتصاب... وقد تقصدت الكاتبة اعتماد السرد موضوعاً للتحليل، لأنّه تولى تمثيل أحوال المرأة على خير وجه، وعبّر عن مجمل الأمور الخاصة بها، لكنها لم تتقيد بحدود التخييل السردي لأحوال المرأة بل تخطت ذلك إلى مصادر التاريخ، والأديان، ومراجع الفكر النسوي، والدراسات الثقافية، واختيارها السرد النسوي مادة للتحليل، لم يكن سوى ذريعة للنفوذ إلى ما وراء ذلك، إلى نقد المرجعية الاجتماعية، والدينية، والأخلاقية الحاضنة التمثيلات السردية، التي وجدت فيها عالماً خيالياً، يوازي العالم الذي نعيش فيه، وبقليل من التأويل فإنّه يحيل عليه، فلم تكتف بظاهر النصوص، بل تجاوزت حدودها إلى العالم الحقيقي المنتج لها. ولكن، يصحّ القول أن الغاية من الكتاب هي تقصّي خفايا السرد النسوي، الذي قدّمته كاتبات نسويات وفق رؤى نسوية للعالم، وإعادة تمثيلهن أحوال الأنوثة في مجتمعات غارقة في تمركزها حول الذكورة، وكيف ووجهت المركزية الذكورية بمركزية أنثوية مضادة في بعض الأحيان، وتجاوزتها إلى ما بعد المركزية الأنثوية في أحيان أخرى. وقد ارتأت المؤلفة أن يكون عنوان كتابها «سيرة العنقاء»، ولعل العنقاء هي الكاتبة في شكل من الأشكال، وهي كل امرأة تتطلع إلى تعديل موازين القيم والأعراف والقوانين والحقوق والمسؤوليات، وصوغ هوية متكاملة للمرأة، ففيه شيء من سيرتها، وسيرة شبيهاتها من النساء اللواتي يرغبن في تحقيق شراكة متوازنة في مجتمعات مشغولة بقضايا تبعدها عما ينبغي أن تتجه إليه. وجاء الكتاب في سبعة فصول تسبقها مقدمة وتتبعها خاتمة. وتناولت الكاتبة في الفصل الأول «عالم الحريم: من التخوم إلى المتاهات»، وفي الفصل الثاني تقصت أبعاد «الرؤية النسوية للعالم»، أما الفصل الثالث فأفردته للحديث عن «الأمومة: في القول بحتمية الوظيفة الإنجابية للمرأة»، وجاء الفصل الرابع ليعرض بجرأة لموضوعة «البغاء في مرايا نسوية»، وكشف الفصل الخامس النقاب عن «الصداقة والمثليّة في السرد النسوي»، واستحوذ الفصل السادس على قضية «الشرف والمرأة»، واختتمت المؤلفة كتابها بالفصل السابع الذي أفردته للحديث عن «الجسد الأنثوي: من التملّك إلى الاغتصاب».