ثمة تمييز بدئي وضروري بين (مفهوم الجهاد) كما مورس في عصر تأسيس الإسلام أو القرون التالية عليه، في سياق العالم التقليدي، وبين (الظاهرة الجهادية)، كما تمارس في العالم المعاصر، والتي تبدو غريبة على بنياته المجتمعية وتقاليده السياسية، مثيرة لتوتراته الأمنية، فيما تعكسه بجلاء ظواهر كالإرهاب العبثي والعنف العدمي. لقد كان الجهاد مفهوماً طبيعياً في سياق العالم التقليدي السابق على الحداثة، إذ يكفي التذكير بمنطق التاريخ الذي جرت فيه وقائعه القديمة، حيث الحرب، كراً وفراً، أقرب إلى حركات الشهيق والزفير، تمارسها الشعوب والجماعات والأمم طلباً للمال والسلطان، ناهيك بالتبشير بالعقائد والأديان. ومن ثم كانت حركة الفتوح «الجهاد العسكري» تعبيراً أميناً عن جوهر العالم التقليدي. أما الظاهرة الجهادية المعاصرة بما تنتجه من متأسلمين، وتفرخه من عنف وإرهاب، فلا تبدو طبيعية، ولا يمكن الدفاع عنها، ولا فهمها إلا باعتبارها مجرد انعكاس لوعي بدائي مضاد للعالم الحديث، يُفقد المفهوم التاريخي أصالته، ويفقد الإسلام نفسه إنسانيته، فيما يتصور القائمون بذلك أنهم الأكثر غيرة عليه والأجدر بالتعبير عنه. في سياق المفهوم (الجهاد الديني الحضاري)، تمكن النبي (صلى الله عليه وسلم) من إقامة مجتمع، فدولة المدينة، ومن فتح مكة، ثم بقية أجزاء الجزيرة العربية، قبل أن يتوجه إلى جوارها الذي صار عربياً، ومحيطها الإقليمي الواسع في الشرق الأدنى، وذلك في حركة حضارية شماء استغرقت عقوداً وأجيالاً وتطلبت تضحيات كبرى من مؤمنين وقادة حتى تم تشكيل العالم الإسلامي على النحو المشهود. غير أن ذلك المفهوم الديني/ الحضاري الرائق، الذي لعب دوراً تاريخياً مشهوداً، عاد إلى ساحة العصر في صورة (الظاهرة) ليلعب دوراً تفكيكياً مثيراً للجدل بين فرقاء اختلفوا حوله. فمن ناحية ثمة من يؤكد محوريته وأولوية ممارسته في هذا العصر، من قبيل السلفية الجهادية، استناداً إلى أكثر تيارات الفقه التقليدي المتأخر تشدداً، القائل بأنه أحد أركان الإسلام، أي الركن السادس مضافاً إلى أركانه الخمسة الأساسية. ومن ثم يتحول الجهاد لدى هذا التيار إلى أسطورة يعتنقها تيار الإسلام السياسي، يرد بها ومن خلالها على ما يعتبره انحرافات متولدة عن غياب الخلافة / الدولة الإسلامية الشرعية في الداخل، أو مظالم يتعرض لها عالم الإسلام من الخارج. ومن ناحية أخرى ثمة تيار استشراقي متحيز، لا يزال يجسده نفر من التيار العنصري في الفكر الأوروبى، يرى أن مفهوم الجهاد ليس إلا مفهوماً عدوانياً من الأصل، تم توظيفه للتوسع العسكري في الأقاليم المجاورة لجزيرة العرب، وفرض الدين بقوة السيف على كل المخالفين، الأمر الذي يحيل الإسلام إلى مجرد تنظيم عسكري وكأنه أحد تجليات الإنكشارية التركية أو الحرس البريتوري الروماني، كما يحيل حركة الفتوح الإسلامية إلى مجرد موجة استعمارية فجة مثل كل الموجات التي صدرت عن دول قومية صاعدة وإمبراطوريات عسكرية متمددة، ما يجعل من الإسلام الجهادي عبئاً هائلاً على الإسلام العقيدي والحضاري. والحقيقة المؤكدة أننا أمام مفهوم عملاق (ذكوري)، ذي خطاب (قتالي) وبنية معقدة، تحتاج إلى تفكيك سواء من داخلها حيث تجرى مساءلة المفهوم بروح النص القرآني ورؤيته الإنسانية المتفتحة للوجود. أو من خارجه حيث يتعين مساءلته بمعايير العصر، وإخضاعه لمقتضيات النزعة التاريخية، نفياً لتصوراته الاختزالية، ونقداً لمقولاته الإطلاقية، ورداً على ادعاءاته بالخلود والأبدية التي تكاد تجعل منه أسطورة دموية متعالية على الواقع، تعكس رد فعل لا تاريخياً على الأزمة الحضارية الشاملة التى نعيشها حيث يربط الجهاديون المعاصرون أنفسهم بمفاهيم: الخلافة الشرعية عبر الادعاء بالحاكمية السياسية ومتلازماتها السلبية من تطرف وإرهاب ضد كل نظم الحكم القائمة بدعوى أنها جاهلية، وضد كل القيم المؤسسة للحرية السياسية بدعوى أنها بدعة. ثم الهوية المغلقة، تحت ذريعة أن الانفتاح على الآخر يمثل انسحاقاً حضارياً ودينياً ينال من الإسلام، لا سبيل إلى تجاوزه إلا بالانغلاق على الذات، والعودة إلى الماضي القدسي، الذي يستحيل هنا قبلة سرمدية تثير الحنين إلى العود الأبدي. وأخيراً لا آخراً المؤامرة الغربية، حيث العالم المسيحي! يحتل من العالم الإسلامي ذلك الموقف الذي احتله الشيطان من الإنسان في عقيدة الخلق التوحيدية، حتى لم يعد يتوانى عن ممارسة الإغواء والإفساد الدائمين له، ومن ثم يصبح الثأر منه فريضة إسلامية. إننا، جوهرياً، أمام تصورين أساسيين لمفهوم الجهاد، يفتحان الباب على طريقين متناقضين لحركة الإرادة في مسار التاريخ الإنساني، أولهما يمكن وصفه بالفهم النقدي / التاريخي والثاني يمكن وصفه بالفهم المثالي/ الأسطوري. وفق الفهم الأول يسود تصور تاريخي لمعنى الإرادة الإنسانية وحدودها، لا يختزله في الشجاعة النفسية والرغبة في مجرد التضحية البدنية على الطريقة الانتحارية، بل يدرك الطرائق المتعددة لحضور وفعل تلك الإرادة في العالم الحديث، إذ لا تُمارس في الفراغ بل من خلال وسائط تزداد تركيباً بفعل حركة التقدم، التي لا يمكن فهمها إلا باعتبارها صيرورة تنظيم وتطوير هذه الوسائط التى يتعامل الإنسان من خلالها مع العالم، بما لا يجعل من سلوكياته مجرد صراعات طائشة يحركها الهوى، بل أفعال إنسانية ناضجة تتأسس على قواعد، وتحتضنها مؤسسات تضمن استمرارها واستقلالها. وهنا يجد المسلم نفسه مدفوعاً، بحكم إيمانه، إلى أعلى درجات المعرفة والعقلانية طاعة لربه الذي اختاره خليفة في الأرض، فإذا به أعلم العلماء. كما يصبح قادراً على استخدام معارفه بأقصى درجات الشجاعة التي توفرها له العناية الإلهية، ويضمنها الشعور بالثقة في الحقيقة الإلهية، فإذا به أشجع الشجعان. ومن ثم يتكامل العقل مع الإرادة، ويصبح المؤمن منتصراً بقوة العلم وشجاعة الإيمان معاً، لا في الحروب فقط بحسب الفهم القاصر للجهاد بل في كل سباق نحو التمدن والتحضر والتقدم والعمران. وبحسب الفهم الثاني يسود تصور أسطوري عن الإرادة نفسها، يمنح للشجاعة النفسية والرغبة في التضحية الدور الوحيد أو على الأقل الدور المركزي في صنع التاريخ، ولكنه يحررهما من كل القوالب التاريخية والأبنية الحديثة المفترض لها أن تنظم عملهما، ظناً بأن الكفاح الجسدي وحده يظل حتى الآن كما كان لدى المسلمين الأوائل بمثابة الآلية الوحيدة لتغيير العالم، فلا أهمية تذكر للقيم العصرية كالعلم والعقلانية، ولا أهمية أصلاً للأبنية الحديثة القادرة على احتضان تلك القيم وتنظيم عملها. ومن ثم يتصور المسلم أن تقواه العميقة ستمكنه من هزيمة الدبابة بالسيف أو إسقاط الطائرة من فوق حصان، وهو ما لم يحدث ولن يحدث، فإذا ما انهزم المسلم بدا وكأن الإسلام نفسه قد هُزم، ولأنه لا يريد الاعتراف بهزيمة الإسلام فهو يفضل الموت على مثل هذا الاعتراف، ولذا استحال الجهاد عمليات انتحار عبثية ونزعات تدمير عدمية تنال من وجود المسلم وتشوه الإسلام في آن، حيث يقع التناقض بين الإرادة والعقل، بين الحرية والمعرفة، بين التاريخ والعصر. وفق الفهم الأول يبقى الجهاد مفهوماً حضارياً كبيراً، يعكس عالمية الإسلام وإنسانيته، كدين يجسد الصورة المثلى لعهد الاستخلاف بين الله والإنسان، ومن ثم يقيم توازناً دقيقاً بين طرفي الثنائية الوجودية (الحياة - الموت)، بحيث تصبح لحياة المجاهد قيمة في ذاتها، فهي ليست مجرد مدخل الى الموت عبر الكفاح العسكري (الجهاد الأصغر) الذي بات معادلاً معاصراً للانتحار العبثي، بل ركيزة لإعادة صوغ عالم الشهادة الدنيوي/ الواقعي/ الإنساني على النحو الذي يُرضي الله، وهو الجهاد الأكبر وفق النبي (صلى الله عليه وسلم). ومن ثم فالمسلم الصحيح لا ينزع الى تفضيل الموت (الانتحار) من دون تردد أو تعقل، ولكنه يرضى ب (الشهادة) إيثاراً لله عند الضرورة القصوى... إنه الفهم الذي يحترم الحياة كقيمة في ذاتها، ويجاهد لترقيتها، ومن ثم يدفع المسلم للمشاركة في جماعة تدافع عن حقوق الإنسان، أو تدعو لتحرير الأوطان المحتلة، أو لتحقيق العدالة الاقتصادية، وليس في تنظيمات إرهابية أو أعمال انتحارية أو الهجوم على دول وشعوب غير مسلمة. ووفق الفهم الثاني يصير الجهاد (ظاهرة) لا تفرخ سوى إرهاب، يقضي على إنسانية الإسلام وعالميته، انصياعاً للتشوهات التي جرت للمفهوم من قبل فقهاء العصور الوسطى إبان الحملات الصليبية والهجمات التترية والمغولية، أولئك الذين اختزلوه في ثنائية (دار الحرب ودار السلام) حتى أصبح المجاهدون، كما تقول إحدى أدبياتهم مفاخرة، مجرد (طلاب موت)، يعرفون كيف يموتون في سبيل الله بغياً على الناس، ولا يعرفون كيف يحيون في سبيله انتصاراً لرسالة الاستخلاف التي تطالبهم بتحقيق التقدم وترسيخ العمران... بل إنه يقترب من حد الأيديولوجيات العدمية، التي قد لا تعي أهدافها ولا ترسم غايات واضحة لأفعالها التدميرية، وتكاد تستقطب من خارجها الأسوأ من النزعات البشرية العبثية والهدامة لصناعة خليط من الرعب، على نحو ما فعل تنظيم «داعش»، إذ أدمج شذاذ الآفاق من كل صوب، بأفكاره العبثية في كل اتجاه، ليصنع في النهاية وحشاً كبيراً تغذى على لعبة الأمم وصراعات الأجهزة الاستخباراتية ناهيك بالمظالم المجتمعية، قبل أن يعود ليلتهم أوطاننا التي كانت مستقلة، ومجتمعاتنا التي كانت متمدينة.