ثمة مفارقة كبرى فى عالم الإسلام اليوم، فالعرب المسلمون يكادون يكونون فى قائمة أكثر الأمم/ الدول ضعفاً وتمزقًا. قد يحتل الآخرون أرضهم، أو على الأقل يخترقون أوطانهم، ويتلاعبون بمقاديرهم، إلى درجة صارت معها معظم بلداننا تواجه خطر التفكك، وأهوال الحروب الأهلية، أما شعوبنا فصارت رهينة كل أشكال الألم الإنساني من عنف ديني وسياسي، وتهجير قسري، ونزوح جماعي، ولجوء قهري، وغير ذلك مما تئن منه الإنسانية العربية اليوم في العراق وسورية واليمن وليبيا... الخ. وهم، أي العرب المسلمين من ناحية أخرى، أكثر الأمم استعدادًا للجهاد، إذ تنتشر على أراضيهم كل أنواع الجماعات المسلحة، وأشكال التنظيمات الكفاحية، من الجماعة الإسلامية، وتنظيم الجهاد اللذين فجرا الدماء، وأثخنا الجراح بمصر فى السبعينات من القرن الماضي، مروراً ب «القاعدة» وكل أشكال التنظيمات العنيفة برؤاها المتطرفة، والمتوسلة بخطابها التكفيرى منذ التسعينات، وصولاً إلى «النصرة» و «داعش» وغيرهما ممن يطلقون أحد أكثر الخطابات همجية ودموية الآن. كما أن دولهم هي الأكثر عسكرة لمجتمعاتها بين الدول، حتى أن أحاديث الحروب وأغاني البطولات هي الأعلى صوتاً بينهم، فأين الخطأ إذن، وما هو سر الفجوة بين كل هذا العنف الظاهر لدينا، كل هذا الضعف الكامن فينا، حتى ليتلاعب بنا كل الأغيار، قبل الأقدار؟ ربما كان جوهر المفارقة فى دنيا الإسلام اليوم، أن الكثيرين من المنتمين إلى الفكر الجهادي يعرفون كيف يموتون فى سبيل الله، بحثاً عن (الشهادة)، إذ تقول إحدى أدبياتهم مفاخرة: نحن طلاب موت. ولكنهم، فى المقابل، لا يعرفون كيف يحيون فى سبيل الإسلام، ترقية للحياة وتحقيقاً للتقدم، إذ تدهور مفهوم الجهاد عبر التاريخ، من كونه جهاداً حضارياً شاملاً تنصهر فى بوتقته الروح والعقل مع الجسد إلى كونه جهاداً عسكرياً ونزوعاً قتالياً ينهض فقط على قوة الجسد. تفسير ذلك هو الشعور اللاتاريخي لدى هذا التيار، الذي لا يزال يعتقد أن قيمة التضحية بالنفس تظل، كما كانت لدى المسلمين الأوائل، هي الآلية الوحيدة الممكنة لبناء نهضة الأمة واستعادة كبريائها فى مواجهة أعدائها. وهنا لا أهمية تذكر للقيم الكبرى المؤسسة لروح العصر كالعلم والحرية، ولا أهمية أصلاً للأبنية الحديثة، الحاضنة هذه القيم والمنظمة لعملها... نعم يمكن القول إن الشجاعة النفسية والرغبة في التضحية تمثلان جذراً مؤسساً لمفهوم الحرية نفسه، وبعض فلاسفة الحداثة يقول بذلك على منوال شوبنهور الذي يمنح الإرادة أولوية على المعرفة، غير أن الأمر يتعلق هنا بطريقة عمل الإرادة التى لا يمكن لها أن تعمل فى الفراغ بل من خلال وسائط ووسائل تزداد تركيباً بفعل حركة التقدم التي لا يمكن فهمها إلا باعتبارها صيرورة تنمية وتعقيد تلك الوسائط والوسائل التى يتعامل الإنسان من خلالها مع العالم، كونهما القادرتين على تنظيم عمل الإرادة بما لا يجعل من مخرجاتها مجرد أفعال فردية طائشة يحركها الهوى، بل أفعال إنسانية ناضجة تتأسس على قواعد، وتحتضنها مؤسسات تضمن استمرارها واستقلالها. وهكذا نكون أمام طريقين متناقضين لحركة الإرادة فى التاريخ: على الطريق الأول يعتقد المؤمن أن إيمانه يدفعه إلى أعلى درجات المعرفة والعقلانية طاعة لربه الذي اختاره خليفة فى الأرض، فإذا به أعلم العلماء. كما يفرض عليه استخدام معارفه ونتاجاتها بأقصى درجات الشجاعة التى توفرها له العناية الربانية، ويضمنها الشعور بالثقة فى الحقيقة الإلهية، فإذا به أشجع الشجعان. وعلى الطريق الثانى يتصور المؤمن أن تقواه العميقة تمكّنه من هزيمة الدبابة بالسيف أو إسقاط الطائرة من فوق حصان، وهو ما لم يحدث ولن يحدث، فإذا ما انهزم المؤمن بدا وكأن الإيمان نفسه قد هُزم، ولأنه لا يريد الاعتراف بهزيمة الإيمان فهو يفضل الموت على مثل هذا الاعتراف، ولذا استحال الجهاد إلى عمليات انتحار عبثي ونزعات تدمير عدمي تنال من وجود المسلم وتشوه الإسلام في آن. على الطريق الأول يتبدى الجهاد كظاهرة حضارية كبرى، تعكس عالمية الإسلام وإنسانيته، كدين جسد الصورة المثلى لعهد الاستخلاف بين الله والإنسان، حيث المستخلف هو الإنسانية كلها... قبائلها، وشعوبها، وأممها، لا قبيلة معينة أو شعب بذاته كما كان قد وقر في أخلاد الشعب اليهودي من خصوصية العهد معهم، واقتصاره عليهم، فمع التخصيص لم يعد الله هو رب الإنسان أينما كان، ولم يعد الناس إخوة فى الله حيثما كانوا، ولم يكن اليهود في حاجة إلى التبشير بدينهم الذي صار مقصوراً على العرق، أي على مصادفة الميلاد وليس على ضمير الإنسان، ولذا فقد عرف تاريخهم ظاهرة الحرب ولكنه لم يعرف حقيقة مفهوم الجهاد الذى دعا إليه القرآن ومارسه الرسول (صلعم). وحتى عندما توفي نبينا الكريم، فقد أحسن الخلفاء الأولون فهم جوهر العهد فلم يتوانوا عن تنفيذ بنوده، ومحاولة إبلاغ الدعوة الى كل البشر، لا من أجل فرض الإسلام عليهم، بل لتمكينهم من الاختيار الصحيح ما كان يقتضي تحرير إرادتهم ممن يحكمونهم، الأمر الذي فرض عليهم مواجهة إمبراطوريات جبارة، وجيوش جرارة، لم يرهبوها قط، لأنهم تحلوا بالشجاعة التى توفرها الرؤية الإسلامية للوجود، وما تقيمه من تكامل بين عالم الغيب وعالم الشهادة، يجعل المسلم واثق الخطى، رابط الجأش، فإذا كان معانياً فى دنياه/ شاهده، فإن غيبه/ آخرته مزهر واعد بالجنة والفلاح، وإذا لم يتمكن من النصر، كان له ثواب الشهادة. غير أن للنصر هنا معنى مختلفاً يتجاوز الفوز فى المعارك القتالية، إلى التفوق فى المنافسات الحضارية، حيث يقيم الإسلام توازناً عميقاً ودقيقاً بين طرفَي الثنائية الوجودية (الحياة - الموت) لتصبح لحياة المجاهد قيمة في ذاتها، فهي ليست مجرد مدخل إلى الموت عبر الجهاد (العسكري) الذي بات معادلاً معاصراً للانتحار العبثي، بل ركيزة لإعادة صوغ عالم الشهادة الدنيوي/ الواقعي/ الإنساني على النحو الذى يُرضي الله، فإذا ما تحدى طواغيت البشر هذه الرسالة يتوجب قتالهم لتحرير إرادة الإنسان من الظلم والاغتراب والجبر على هذه الأرض، وتخليص ضمائر المقهورين من أسر الاضطهاد. ومن ثم فإن المسلم الصحيح لا ينزع إلى تفضيل الموت (الانتحار) من دون تردد أو تعقل، ولكنه يرضى ب (الشهادة) إيثاراً لله عند الضرورة القصوى... إنه الفهم الذى يحترم الحياة كقيمة فى ذاتها، ويجاهد لترقيتها، وهو الفهم الذي منح الحضارة الإسلامية مكانها على قمة التاريخ الإنساني لخمسة قرون على الأقل، فكانت ملهمته ومحفزته. وعلى الطريق الثاني يصير الجهاد، سيفاً مسلطاً ليس فقط على رقاب المتمايزين فى العقائد، بل وعلى رقاب المسلمين المختلفين فى الرؤى عن آخرين يعتبرون أنفسهم فقط هم المجاهدين، كما يصير مرادفاً للتضحية البدنية بعيداً من المجاهدة الروحية والنزعة الأخلاقية، وذلك على النحو المشهود في العقود الأربعة الماضية، إذ تحول العنف الملتحف بالإسلام إلى أحد أكثر المفاهيم إثارة للكراهية والدمار والدم فى عالمنا، فقد اجريت للمفهوم عمليات تشوية متوالية نالت منه سواء من قبل فقه العصور الوسطى المتأخرة فى المجتمعات العربية الإسلامية وبخاصة في تلك المراحل التاريخية التي واكبت أو أعقبت الحملات الصليبية والهجمات التتريه والمغولية، وهو فقه متشدد صاغ رؤيته الساذجة للعالم فى تلك الثنائية الاختزالية (دار الحرب ودار السلام) أم من فقه معاصر ولكنه متخلف، ينضوي تحت لواء فكر تقليدي غابر يسقط على الإسلام فى مرحلة الأزمة الحضارية الراهنة والممتدة منذ قرون، فهمه وتأويله المنغلقين، وحنينه إلى التاريخ الإسلامي الأول، داعيًا إلى العمل بأدواته نفسها، مستخدماً العنف في غير محله أحياناً، معتبراً إياه وسيلة مثلى أو طبيعية لتغيير الواقع على نحو يؤدي إلى النيل من المجتمعات التى يعيش فيها، أو حتى من المجتمعات الأخرى التي لا تدين بالإسلام على نحو أدى ويؤدي إلى استعدائها وإلى القطيعة معها. إننا هنا أمام مفهوم عملاق (ذكوري). وكذلك أمام خطاب (قتالي) ذي بنية معقدة ومن ثم يحتاج إلى تفكيك شديد سواء من داخله حيث تجرى مساءلته بروح النص القرآني الشامخ الذي يعكس رؤية إنسانية متفتحة للوجود الإنساني، أم من خارجه حيث تمكن مساءلته بمعايير التاريخ الإنساني ومقتضيات النزعة التاريخية، نفياً لتصوراته الاختزالية، ونقداً لمقولاته الإطلاقية، ورداً على ادعاءاته بالخلود والأبدية (الأقنومية)، وصولاً إلى الإعلان الصريح، وعلى مسؤوليتنا، ب (نسخ الجهاد العسكري) خارج إطار الحرب الدفاعية، سواء بفعل شيوعية الأفكار فى الفضاءات الإنسانية الجديدة والمفتوحة على نحو يقوّض أركان الكهانة الدينية، أم بفعل ذبول حق الفتح العسكري أمام حقوق السيادة القومية، وكلاهما معطيات أتاحتها لنا عصور الحداثة وحركة التقدم فى التاريخ الإنساني. وهكذا يتبدى كم يسيء أرباب السلفية الجهادية، ممارسو الإرهاب، إلى إحدى أهم الظواهر التى صاغت مسيرة التاريخ الإنساني، وحررت بشراً كثُراً من قبضة الوثنية والشرك والانحطاط والفوضى. وهو أمر يستغله التيار العنصري في الوعي الغربي، والمتمحور حول اليمين الديني والسياسي، فى النيل من الإسلام كدين احتوى تاريخياً هذه الظاهرة الحضارية الكبرى، ووصمه، بأنه مجرد تنظيم عسكري تمحور حول فكرة عدوانية، ارتبطت بالحرب المقدسة قديماً والإرهاب المسلح حديثاً، على نحو تُنتهك معه حرمتها، وتفقد أصالتها وإنسانيتها، فيما يتصور القائمون بها أنهم الأكثر غيرة على الإسلام، والأجدر بالتعبير عنه.