تبلور الوعي بقضية النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر حول تيار إصلاحي واسع يدعو إلى تجديد الإسلام كسقف أعلى وخيار نهائي. كانت هناك بلا شك خطابات عقلانية ترتدي مسوحاً تنويرية، ولكنها ظلت مضمنة في ذلك التيار ولم تدعي لنفسها عقلانية بديلة. ولنحو قرن بعد ذلك، أي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، كان الجدل لا يزال يدور بين توجهات عدة تتمايز قليلاً، بينما تقع جميعها داخل التيار الإصلاحي الملتزم بالإسلام. وكان محور التمايز بينها يتعلق أساساً بالفضاء الذي تنبع منه أو تصب فيه، حيث راوحت كتابات ونضالات الكثير من الرواد بين الفضاء الإسلامي الواسع والفضاء الوطني المحدود، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي والألوسي وجمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده الذي حاول نقل النهضة العربية نقلة منهجية كبرى تجاوز بها ثورية الأفغاني، وانبهار الطهطاوي وإحيائية الألوسي التقليدية إلى محاولة بناء «عقلانية إسلامية». وفي المقابل، ظل الفضاء العربي «القومي» الذي يمثل حلقة وسطى بين الإسلامي والوطني مهملاً حتى كانت دعوة عبد الرحمن الكواكبي إلى بناء عقلانية عربية متحررة من الجبرية السائدة والمكتسية بالنزعات الصوفية والغيبية من ناحية، ومن الاستبداد السياسي من ناحية أخرى. غير أن المرحلة الممتدة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية 1918-1945 شهدت نوعاً من التمايز التدريجي في مرجعية النهضة العربية خروجاً من عباءة التيار «الإصلاحي الواسع» في اتجاه تيارات ثلاث عبر جدل مع الواقع التاريخي أحياناً، وفي ما بينها أحيانا أخرى: التيار الأول: وهو التيار «السلفي» الذي شكل الاستمرار التاريخي لنزعة «تجديد الإسلام»، ولكنه إذ اعتبر نفسه الأمين على مرجعية الرواد، فقد أخذ يعيد تَمثُّلَها على أكثر قواعدها محافظة والتزاماً بالإسلام التقليدي، ومن ثم فقد أخذ يفقد تدريجياً تلك الرموز الثقافية الكبيرة التي أخذت منحى عقلانياً متزايداً ودافعت عن الروح النقدية التي كان أسس لها محمد عبده. وربما دفع في هذا الاتجاه ميلاد حركة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا عام 1928 كأول تجسيد سياسي معاصر للتيار السلفي في الثقافة العربية المعاصرة، وكأم لكل الحركات السلفية التي انبثقت في العالمين العربي والإسلامي طيلة القرن العشرين. والتيار الثاني هو الحداثي بالمعنى «التغريبي/ العلموي» الذي واجه التيار السلفي بتبني المرجعية الثقافية الغربية كاملة، وقوعاً في أسر نزعة التمركز الأوروبي التي كان يتم تخليقها قبل أكثر من قرن على مستوى الفلسفة، وكذلك في علوم الأنثروبولوجيا والبيولوجيا واللغة، استناداً إلى ذلك الحضور الغربي الطاغي في العالم سياسياً واقتصادياً، اذ كانت أوروبا تهيمن على النظام العالمي بفعل الثورة الصناعية الأولى، وكانت الولاياتالمتحدة تعمل على إنجاز الثورة الصناعية الثانية، وعسكرياً، حيث كان الغرب يسيطر على ثلاثة أرباع الكرة الأرضية. أما التيار الثالث، فهو النقدي/ التوفيقي الذي أخذت بذرته تنمو تدريجياً في رحم الثقافة العربية، وبالذات في المرحلة التي يمكن وصفها ب «عصر التنوير المصري» منذ عشرينات القرن الماضي، كمحصلة لعملية فرز تاريخي بين توجهات التيار الإصلاحي الواسع الذي كان استوعب أطيافاً عقلانية شتى لم تكن لتستمر تحت مسمى «السلفي» ولكنها في الوقت نفسه كانت بعيدة من الروح «التغريبية» بمسافة كبيرة لا تسمح أبداً بانضوائها تحت وصف «العلموي» فكانت الأقرب حقيقة إلى مفهوم «العقلانية العربية الإسلامية» على النحو الذي جسده أمثال طه حسين بمنهجه الشكي في الدراسات الأدبية والذي ضمنه كتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1925، وعلي عبد الرازق ومنهجه التاريخي النقدي في الدراسات السياسية والذي ضمنه كتاب «الإسلام وأصول الحكم» عام 1926، ومحمد حسين هيكل ودفاعه عن الفلسفة الإسلامية، وعباس العقاد بنزوعه إلى استلهام العبقرية الإسلامية والبطولة الفردية لإحياء الشخصية العربية المسلمة، ومصطفى عبد الرازق بدعوته إلى تجديد الفلسفة الإسلامية، وتوفيق الحكيم في محاولاته الأولى لاكتشاف الرموز البارزة في شخصيتنا الحضارية، والتي اكتملت له في مذهبه التعادلي الذي حاول التوفيق من خلاله بين ثنائيات شتى، كالعقل، والوجدان، والدين والعلم، وغيرها من الثنائيات التي كانت تنمو في الثقافة العربية. وهنا يمكن النظر إلى ميلاد التيار التوفيقي ونموه كوسط فكري بين السلفي والعلموي، كعملية موازية لنمو المجال القومي العربي كوسط جغرافي بين المجال الإسلامي والمجال الوطني ليصبح الفضاء الأساس لطروحات النهضة العربية. وإذا كان عبد الرحمن الكواكبي هو رائد هذا الاتجاه، فإنه قد اكتمل مع القوميين العرب في سوريا الكبرى، ثم في مصر، حيث نمت مدرسة الشرق ومهدت لثورة تموز (يوليو) وظاهرة جمال عبد الناصر الذي قاد بإصرار حقبة التحرر القومي العربي، التي اغتنت بالثورات العربية، خصوصاً الجزائرية، وصاغت نزعة ثقافية منفتحة على الآخر وواثقة بذاتها، وهي النزعة التي تجمدت بتأثير المأزق الخانق الذي كسر الكبرياء القومي ولا يزال يستنزفه حتى الآن، بفعل هزيمة حزيران (يونيو) 1967 واحتلال إسرائيل للقدس الشرقية مع الضفة وغزة وسيناء والجولان. وعلى رغم موجة المراجعات الكبرى في الثقافة العربية، والتي سعت عبر العديد من المجالات المعرفية التي تمتد ما بين الأدب، والفلسفة، مروراً بالعلم الاجتماعي والسياسي، إلى نقد الذات وتقديم تفسيرات للهزيمة الساحقة، فإن الحساسية التوفيقية التي ارتبطت بحركة التحرر القومي وأذكت تيار التحديث الاجتماعي على الصعيد الوطني، بدت مشرفة على الأفول سواء في مواجهة نزعة «تلفيقية» تخلط الاستنارة بالسلفية، أم هجمة أصولية تتنكر صراحة لمسار العقلانية العربية الإسلامية، وذلك في إطار موجة غضب عارم تم خلالها قراءة الهزيمة على عجل باعتبارها محصلة لخلل يكمن في ضعف همة وشجاعة النخب العربية آنذاك، ومن ثم، فالحل كان بسيطاً جداً ولا يتطلب بالضرورة هذه العمليات المعقدة من التحديث، على منوال التطوير العلمي، والتحرر الثقافي، وواقعية الرؤية التاريخية، بل كان يكفي للخروج من حال الهزيمة مجرد الانقلاب على المرجعية الفكرية «الهشة» واستبدالها بأخرى «صلبة» تثير الهمة لدى النخبة الحاكمة لمواجهة العدو بشجاعة أكبر وحماسة أعلى. بين تيارين بعد نحو عقدين من الهزيمة، وأعقاب حرب عاصفة الصحراء التي أطلقت موجة إسلامية متشددة راوحت بين السلفية والجهادية، أخذ الجدل الفكري والسياسي العربي يتشكل على نحو استقطابي بين التيارين: القومي المتراجع بعد ربع قرن من الهيمنة، والسلفي العائد بعد ربع قرن من الكمون، فتبلور الجدل حول كل قضايا الواقع في ثنائيات متقابلة، بدءاً من القضايا ذات الطابع الثقافي كالنهضة والهوية، وصولاً إلى القضايا السياسية وخصوصاً العلاقة مع الآخر. ولأن المرجعية السلفية لم تستطع الانتصار على نقيضتها الحديثة ولكن المأزومة، ولم تأت من ثم بسلطات جديدة إلى الحكم إلا في حالات نادرة جداً، بينما صعدت إلى سطح المعارضة النشطة والقوية من داخل الشرعية أحياناً، ومن خارجها غالباً، فقد تنامى انقسام المجتمعات العربية بين كتلتين شبه متعادلتين رمزياً وعملياً، وصولاً إلى تلك الحال الفيزيائية النادرة الحدوث في المجتمعات الإنسانية، حيث التماثل في القوة، والتضاد الكامل في الاتجاه، إلى درجة تعوق تكوين «كتلة تاريخية عربية منسجمة» في وعيها وفى حركتها، قادرة على تجسيد دفق الحياة العربية وتأسيس مجرى رئيسى لتطورها التاريخي. وهكذا تجمدت أوضاع المجتمعات العربية لتبدو عصية على رياح التغيير التي اكتسحت العالم في موجات عدة، حتى أخذ الكثيرون داخل العالم العربي وخارجه يتحدثون عن الاستعصاء الديموقراطي العربي، أي استمرار العالم العربي خارج إطار التحول في التاريخ العالمي. من قلب هذا الوضع التاريخي، انطلقت ثورتا مصر وتونس لتشعلا معاً شرارة «الربيع العربي» الذي يمثل في التاريخ الثقافي العربي لحظة «فارقة»، و «مفارقة» في آن. «فارقة» كونها شهدت بداية تجاوز انسدادات المشروع النهضوي العربي الذي طالما توسل التصالح مع الحداثة، ولكن توالت عثراته على مدى القرنين الماضيين، حتى وصلت إلى مستوى الاستعصاء الكامل منذ عقدين على الأقل، و «مفارقة» لأن مثل هذا التجاوز سلك طريقاً تاريخياً التفافياً يتوسل أدوات الثورة التكنولوجية الثالثة، ومفاهيم ما بعد الحداثة، وليس أدوات ومفاهيم الحداثة، حيث خلت الثورتان مما يسمى في أدب الثورات الحديثة ب (الإنتلجنسيا)، تلك الطبقة المثقفة المناضلة القادرة على نشر الوعي الثوري وقيادته وترشيده. كما خلت أيضاً من ذلك التنظيم الطليعي الحزبي/ النقابي/ الأيديولوجي القادر على حشد الآخرين وتنظيمهم وصياغة أهدافهم، وعلى استلام السلطة حال نجاح الثورة كما كان البلاشفة مثلاً إبان الثورة الشيوعية، وهو أمر يخلق صعوبات تتبدى الآن في أفق الثورتين المصرية والتونسية، يأتي على رأسها ذلك الصعود الواضح للتيارات الإسلامية بتلاوينها الإخوانية المعتدلة والسلفية المتشددة عبر صناديق الاقتراع نفسها، بل نجد أن نخب الحكم في المجتمعات العربية الأخرى، أو أغلبها، متأثرة بحركة هذا الربيع، تصير إلى التوافق معه والتحول في الاتجاه نفسه، كما جرى أخيراً في المغرب، ويتوقع أن يجري في الأردن واليمن، ناهيك بليبيا وسورية وربما الجزائر. وهنا نلاحظ أن الصراع الذي دار في أغلب عقود القرن العشرين داخل الفكر العربي بين التيارات الثلاثة الأساسية: العلموي، والتوفيقي والسلفي، حينما كان التيار التوفيقي يحتل الموقع الوسطي بين التيار العلموي من جانب، والسلفي من جانب آخر، يأخذ في التحول الآن باتجاه رجعي نحو مسارات ثلاث أساسية: أولها في اتجاه نفي التيار العلموي الذي كان يرى في الغرب نموذجاً مثالياً تاماً يسعى إلى التماهي معه، ويقبل به ملهماً لممارساته، بل يضعه كمرجعية ينزع إلى تقويم واقعنا بمعاييرها وقيمها حتى لو بدت تعسفية في بعض الأحيان، بل ويعطيه حق الرقابة علينا في تطبيقها. وربما بقي بعض نفر من أولئك، ولكن الصحيح كذلك أنهم صاروا قلة لا تشكل تياراً، كما أنهم أقرب إلى حركيين مرتبطين بفضاءات فكرية ومراكز بحثية غربية، فلا ينغرسون عميقاً في الثقافة القومية. وربما كان الأهم من ذلك أنهم لا يمتلكون نظرية ثقافية واضحة لمواقفهم أو صياغة فكرية متكاملة لرؤاهم كما كان الأمر لدى التيار العلموي أوائل القرن العشرين. ثانياً في اتجاه التبلور الكامل لتيار جديد «انقلابي» يقع على يمين التيار السلفي، ويمتلك أجندة سياسية يمارس العنف لأجل تحقيقها، يمثل تنظيم القاعدة تجسيده الأبرز العبثي بل «العدمي». وإن كنا نشهد أيضاً تحوله إلى العمل من الخارج، بفضل البعد العولمي الذي انطوى عليه، وبفعل لجوء التيار السلفي الجهادي إلى نبذ العنف والانشغال بالسياسة في الداخل. وثالثاً في اتجاه تمركز التيار السلفي بكل تعبيراته الفكرية، وتجسداته الدعوية والتعليمية والتثقيفية، بل والسياسية في قلب الثقافة العربية ليصبح هو الأقرب إلى موقع الوسط الفكري، الأكثر تعبيراً عن الاتجاه العام للمجتمعات العربية. وهو بذلك يزيح التيار التوفيقي عن موقعه الذي كان احتله لنصف القرن على الأقل. صيغة ثلاثية وفى هذا الإطار، نجد أنفسنا أمام صيغة ثلاثية جديدة للجدل الفكري/ السياسي العربي هي (التوفيقي - السلفي - الانقلابي)، بديلة للصيغة الموروثة من القرن العشرين، (الحداثي - التوفيقي - السلفي)، في ما يعنى أن الصيغة الممكنة لإقامة عقلانية عربية إسلامية، تلك المضمنة في التيار التوفيقي الذي ساهمت في صكه ونحته وتأصيله جهود النخبة الفكرية، وخطابات النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، لم تعد في قلب الفكر العربي المعاصر، بل على يساره، ما يمثل ردة ثقافية أو نكوصاً في «عقلاني» مشروع التحديث العربى. غير أنها تبقى ردة موقتة، إذ سرعان ما سوف تؤدي الممارسة السياسية الواقعية إلى عملية إصلاح ديني متأخر سوف تنهض على عمليات فرعية عدة من الدمج والحذف، الاستيعاب والاستبعاد، عبر حوار سياسي/ ثقافي يدور في أفق مفتوح بين النخب السياسية الجديدة (الإسلامية) وبين معارضيها من الليبراليين، وبين هؤلاء جميعاً وبين النخبة المثقفة عبر وسائل الإعلام المفتوحة التي ستنشغل طويلاً بوقائع هذا الحوار. وهنا سيتم استدعاء الأزهر الشريف، لا كمؤسسة رسمية وظيفتها إضفاء المشروعية، ولكن كقيمة وقامة، وكصاحب وثيقة تأسيسية هى الأبرز عن «الدولة المدنية» ليكون حكماً بين هذه النخب المتصارعة على فهم الإسلام... سينتصر الأزهر لفهمه المعتدل، وستبقى حركة الواقع، بكل قسوتها حكماً على الجميع، سوف تكذب من يستحق التكذيب، وتنتصر لمن يستحق النصر... وبمرور الزمن، سوف يفرض المنطق العقلاني نفسه على الجميع، فيضبط حركتهم ويوجه مساراتهم نحو المستقبل.