أقل من شهر يفصل تركيا عن استحقاق قد يكون الأهم في تاريخها الحديث بعد إنشاء مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية عام 1923، وهو الاستفتاء على تعديلات دستورية طرحتها الحكومة بدعم من الرئيس رجب طيب أردوغان، من أجل تحويل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي تنفيذي. وعلى رغم النقاش الحاد في تركيا حول هذه التعديلات وصلاحيات الرئيس الجديدة، وما إذا كانت تلغي الفصل بين السلطات وتهدد النظام الديموقراطي بأسره كما تقول المعارضة، أو كون التعديلات وصفة سحرية من أجل انطلاقة جديدة وأقوى لتركيا لتنفيذ مشاريع كبرى وإنهاء مشكلات الشعب التركي كلها كما تقول الحكومة، فإن السؤال الذي تجاوزه كثيرون في خضم هذا السجال، هو حاجة الرئيس أردوغان الحقيقية لهذه التعديلات، بالنظر إلى ما يتمتع به اليوم عملياً من صلاحيات، وسيطرة حزبه الحاكم على مختلف مؤسسات الدولة، وتطويعه القضاء، وهيمنته على الجيش بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وترويضه الإعلام الذي بات يسيطر على الجزء الأكبر منه. عملياً لن تضيف الصلاحيات الجديدة للرئيس أردوغان – في حال فاز في انتخابات 2019 التي سيبدأ بعدها تطبيق التعديلات الدستورية في حال إقرارها ما عدا بند انتماء الرئيس إلى حزب سياسي والتي سيتم تطبيقها فوراً – أي قوة تنفيذية لا يملكها حالياً في شكل مباشر أو من طريق حكومته والغالبية التي تتمتع بها في البرلمان. الجمع بين الرئاسة والحزب لكن هذه التعديلات ستوفر له نقطتين مهمتين جداً، الأولى هي عودته من جديد لزعامة حزب العدالة والتنمية الذي اضطر الى تركه من أجل منصب الرئاسة الحالي والذي يقتضي بموجب الدستوري الحالي أن يكون الرئيس محايداً سياسياً لأن دوره هو التوفيق بين الأحزاب وضمان استقلال مؤسسات القضاء والاستخبارات والجيش والجامعات. أردوغان وعلى رغم أدائه اليمين الدستورية للحفاظ على هذا الدور، أعلن أنه لن يلتزم الحياد السياسي، بحجة أنه أول رئيس منتخب مباشرة من قبل الشعب وليس من البرلمان، ما يستدعي بالضرورة- وفق رأيه- تعديل فلسفة الرئيس ودوره، إذ يكون جزءاً من العملية السياسية وليس فوقها أو على مسافة واحدة من الأحزاب. ومن دون أن يقتنع كثيرون بوجهة النظر هذه أو العلاقة بين طريقة انتخاب الرئيس -سواء في البرلمان أو من الشعب- وبين دوره الدستوري، وجد أردوغان الدعم الكافي من القوميين لتمرير مشروع التعديلات الانتخابية في البرلمان والتوجُّه للاستفتاء عليه. عودة أردوغان إلى حزبه ضرورية جداً بالنسبة إليه، فالأبقى للسياسي هو الحزب وليس المنصب، وفوز الرئيس أردوغان بالرئاسة قد يكون شبه مضمون لكنه ليس حتمياً، بيد أن زعامته للحزب لن ينازعه أحد عليها، وقد شعر أردوغان بخيبة أمل من الذين ورّثهم زعامة الحزب من بعده، إذ حاول أحمد داود أوغلو الخروج عن طوع أردوغان ورفض أن يكون مجرد رئيس تنفيذي يتم التحكُّم به من القصر الجمهوري، كما أن أردوغان لم يعطه القدر المفترض من الثقة، فتدخّل حتى في تشكيل اللجنة التنفيذية للحزب في عهد داود أوغلو ولم يسمح له باختيار سوى اسم واحد منها، كما أدخل تعديلات كبيرة على قوائم مرشحي الحزب في الانتخابات البرلمانية، في تصرف يشي بوضوح إلى خشية أردوغان من أن يتم سحب البساط من تحت قدميه، فيفقد سيطرته على الحزب من خلال رجاله المخلصين الذين يعيّنهم في مفاصله. ويعرف الجميع قصة إقصاء أردوغان لداود أوغلو من منصبه، والتي جرت في غمضة عين، بعد أزمة ثقة كبيرة. كما أن زعيم الحزب الحالي بن علي يلدريم، لا يتمتع بأي كاريزما قيادية، لضبط الحزب، ولا خبرة سياسية لديه، فهو مهندس تنفيذي برع في مشاريع الاتصال والمواصلات، لكن أداءه السياسي مخيب للآمال، كما أن طموحاته التجارية والمالية تشغله عن تنفيذ بعض توجيهات أردوغان، فرئيس الوزراء التركي سبح ضد التيار الأردوغاني في الأزمة الأخيرة مع هولندا ساعياً إلى احتواء الأزمة والتهدئة من باب حرصه على مصالح تركيا الاقتصادية، بينما استثمر أردوغان تصعيد الأزمة من أجل كسب أصوات الناخبين المغتربين في أوروبا. باختصار، فإن الرئيس أردوغان مقتنع بأنه لا يمكن له أن يودِع الحزب أمانة في عنق أي رفيق درب، من دون أن يتسلل الشك إلى قلبه تجاه أداء هذا الرفيق أو خططه المستقبلية، لذا فإن عودته إلى زعامة الحزب ضرورية من باب السيطرة المباشرة على مرافق الحزب ومؤسساته، وإنهاء أي تنافس سياسي فيه من أي طرف. السبب الثاني الذي يهم أردوغان من التعديلات الدستورية، هو الحصانة الممتدة إلى ما بعد الخروج من القصر الرئاسي، والتي ترتبط بتصويت ثلثي نواب البرلمان على نوعها، وهو سقف عالٍ لا يتحقق إلا في حال اكتسحت المعارضة الانتخابات وتراجعت أصوات حزب العدالة والتنمية - بزعامة أردوغان مستقبلاً- إلى أقل من 30 في المئة وهو أمر لا يبدو وارداً طالما بقي أردوغان على رأس ذلك الحزب. ومن الواضح أن أردوغان الذي مر بأزمات ثقة عدة مع من حوله ومن عمل معه، لا يريد أن يترك مصيره السياسي بيد رجل آخر، مهما بلغت ثقته فيه، وذلك بعد أن زادت الشكوك لديه بأن كثيرين يحاولون إسقاطه من الحكم ودفعه إلى ساحات المحاكم، سواء خارج تركيا أو داخلها. فخصوم أردوغان السياسيون تحوّلوا إلى أعداء يشتهون الإجهاز عليه وتدمير صورته ومنجزاته، لكن، لا يقع كل اللوم على هؤلاء الخصوم -الأعداء- ونياتهم، إذ إن السياسة التي اتبعها طوال السنوات العشر الماضية لكسب الانتخابات، والقائمة على توتير الشارع وزيادة الاستقطاب فيه، من أجل شد صفوف الناخبين إلى جواره، أدت إلى نمو الغضب الشعبي في صفوف المعارضة، حتى بات نصف الشعب مؤيداً لأردوغان، ونصفه الآخر ليس معارضاً فقط، بل هو خصم مباشر يسعى بأي شكل الى التخلص من حكمه وسلطته. نظام رئاسة قوي المتتبع لسيرة أردوغان السياسية، يعلم أنه دخل المعترك السياسي في حزب الرفاه ولم يكن مؤمناً بالديموقراطية أو بالعلمانية، وله تسجيلات فيديو ما زال معارضوه يستخدمونها حتى الآن، لخطب انتقد فيها النظام العلماني واعتبر الديموقراطية وسيلة وليست غاية، مكرراً أدبيات الجماعات الإسلامية التي كانت منتشرة حينها، وقد تعرّض أردوغان للسجن ظلماً بسبب توجهاته هذه، وكادت حياته السياسية أن تنتهي. إلا أنه سياسي براغماتي بامتياز وقادر على التعلُّم من تجاربه، إذ أدرك أن هذا الخط الإسلامي لن يساعده في تحقيق طموحاته السياسية، فكان أن توجه مع رفاقه إلى تشكيل حزب العدالة والتنمية الذي خلع عنه رداء الإسلام السياسي وتبنّى هوية اليمين المحافظ، وقد عمل بجدّ وصدق -وفق كثيرين- لاتقان هذا التوجه السياسي الجديد، وساعدته على ذلك طبيعة فريق العمل الذي شكّل معه الحزب والذي كان جزء مهم منه من التيارات اليمينية والقومية غير الإسلامية، حتى أن تركيا شهدت في حكم حزب العدالة والتنمية أفضل العلاقات مع إسرائيل في تاريخ الجمهورية، واقتربت أكثر ما يكون من حلم الاتحاد الأوروبي الذي كان يوصف قبلها بالنادي المسيحي، بل إن أردوغان ووجه بانتقادات من المعارضة التي اعتبرته متلوناً سياسياً بعد تخلّيه عن هويته الإسلامية السابقة، وقد قابل هذا الانتقاد بصدر رحب خلال كلمة له في البرلمان عام 2004 حين قال عن نفسه «نعم تغيّرت، تغيّرت لأنني تطورت ولم أبقَ جامداً مثل كثير من السياسيين الذين باتوا اليوم خارج التاريخ والواقع». إلا أن أردوغان اكتشف أن هذا التغيُّر والنهج الجديد الذي سلكه لم يكونا كافيين مرة أخرى لتحقيق أحلامه السياسية، وهو رجل جاء ومعه حلم كبير ومشروع طموح لتركيا، لكنه واجه عقبات كثيرة في بدايات حكمه من الإعلام الذي كان موجهاً من الجيش حيناً ومن أصحاب رؤوس الأموال حيناً آخر، حتى أنه تعرض للابتزاز من بعض المجموعات الإعلامية، كما سعى الجيش ومؤسسة القضاء ذات التوجّه العلماني الراديكالي إلى نسف أحلام أردوغان عندما رفع مدّعي عام الجمهورية قضية طالب فيها بحل حزب العدالة والتنمية بتهمة العمل ضد النظام العلماني، وكاد أردوغان أن يخسر حياته السياسية مجدداً، لولا صفقات سياسية تمت تحت الطاولة مع المؤسسة العسكرية حينها. وحتى في أفضل حالاته، واجه أردوغان عقبات عدة من مؤسسة البيروقراطية التي كانت تعرقل تنفيذ بعض مشاريعه، والقضاء الإداري الذي ألغى له قرارات كان يعتبرها مصيرية وفي غاية الأهمية. لم يستوعب أردوغان الفكرة من النظام الديموقراطي القائم في تركيا، فهو لم يجد إجابة شافية على سؤال طالما حيّره، وهو: «طالما أن حزبي يفوز في الانتخابات وبفارق كبير عن منافسيه، وطالما أنني أحظى بهذه الثقة الكبيرة من الشعب وبغالبية مقاعد البرلمان، لماذا لا أستطيع تنفيذ جميع المشاريع التي أريدها ووضع الأنظمة التي أعتبرها الأفضل لمستقبل تركيا؟» وقد عبر عن تساؤله هذا مراراً بالقول «إن الأقلية في تركيا -أي المعارضة البرلمانية- تريد أن تحكم البلاد من خلال مؤسسات القضاء والبيروقراطية». من هنا راودت أردوغان أحلام بنظام حكم لا يقول له لا ولا يناقشه في أحلامه ومشاريعه، فهو مؤمن بإخلاص -من وجهة نظره- أنه الأدرى والأعلم بمصلحة تركيا، ولو تُركت له حرية التصرف لأبدع ونهض بتركيا امبراطورية من جديد. لذا قال في أكثر من مناسبة «لقد أعدنا تعريف الديموقراطية» واعتبر أن دولاً أوروبية عدة لا تفهم المعنى الحقيقي للديموقراطية. فالديموقراطية في وجهة نظره هي أن يتسلّم الطرف الذي يفوز بالانتخابات -بغض النظر عن النسبة التي يحصل عليها- جميع مفاتيح الدولة، وأن يعطى الفرصة للعمل بحرية ومن دون عراقيل على مشاريعه، فإن هو نجح أعاد الشعب انتخابه، وإن هو فشل عاقبه الناخبون بحرمانه أصواتهم. هي معادلة غاية في البساطة بالنسبة إليه، فأردوغان لا يريد أن يقف موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي جاء إلى الحكم بوعود منع الهجرة غير الشرعية ودحر الإرهاب، ثم فوجئ بتعطيل قاضي محكمة لقراره التنفيذي القاضي بمنع دخول مواطنين من سبع دول إسلامية. كما أن النظام الرئاسي المقترح، سينقذ تركيا من سيناريوات الحكم الضعيف لدول مثل اليونان أو إسرائيل أو هولندا التي تدخل برلمانها عشرات الأحزاب السياسية، ويضطر رئيس الوزراء أو الحاكم فيها إلى الدخول في تحالفات سياسية تكبّل يديه وتجعله يسعى لاسترضاء شركائه قبل إرضاء ناخبيه. مفهوم خاص للديموقراطية من وجهة النظر الأردوغانية لا يمكن فهم كيف لرئيس يفوز بأصوات أكثر من نصف عدد الشعب، ولا يستطيع إقرار عدد من المشاريع إلا بعد موافقة المعارضة أو مباركة القضاء. كثيرون ممن يؤيدون أردوغان ونظام الرئاسة المقترح، يؤمنون بأن هذا النظام هو الأصلح لدولة بيروقراطية مثل تركيا، وأنه سيوفر الوقت والجهد والسجالات الطويلة في البرلمان وساحات القضاء حول مشاريع يطرحها رئيس حصل على ثقة الشعب، وسيجنّب تركيا سيناريوات دول أخرى تنتظر تشكيل حكومة لأشهر بسبب خلافات الأحزاب في البرلمان، أو دول أخرى إذا فاز اليمين فيها اضطر لتشكيل حكومة ذات ضلع يساري معرقل من أجل الحصول على نصاب الثقة، أو تجنّب وضع الرئيس ترامب الذي يظهر -وفق رأي الموالين لأردوغان- في مظهر العاجز عن تحقيق أبسط وعوده الانتخابية على رغم فوزه في الانتخابات، بسبب قاضٍ تم تعيينه ولم ينتخبه المواطنون. لكن، في المقابل، فإن المعارضين لمشروع النظام الرئاسي الجديد يعتبرونه خطراً على التجربة الديموقراطية في تركيا القائمة- كغيرها من ديموقراطيات في الغرب- على مبدأ الفصل بين السلطات، ولكن السبب الأكبر الذي يدفعهم لرفضه، هو شعورهم بأن الرئيس أردوغان هو الذي سيستفيد منه، في ظل غياب زعامة كاريزماتية تنافسه على انتخابات 2019 الرئاسية. فسياسات أردوغان الأخيرة الرافضة أي رأي آخر، حتى من باب النصيحة، والرافضة علناً والمستخفّة بقرارات المحكمة الدستورية العليا. وسجل سياساته تجاه الإعلام وحرية الرأي والتعبير، وغيرها، هو الذي يدفع الرافضين للعمل بجد للحيلولة دون إقرار المشروع الجديد. وكما قال الصحافي ليفينت غولتكين الذي كان موالياً لحزب العدالة والتنمية قبل أن يتحول إلى معارض له في السنوات الخمس الماضية، «إنه لا يوجد في سياسات أردوغان في السنوات الثماني الماضية أي مشروع ناجح أو سياسة لم يتم العدول عنها أو يثبت خطأها، فما الذي سيدفع الناخب إلى إعطاء الرئيس أردوغان مزيداً من الصلاحيات بعد ذلك؟». أما في ما يتعلق باحتمالات مرور المشروع في الاستفتاء القادم، فإن معارضي هذا المشروع يدركون أنهم أمام مأزق حقيقي، فإن صادق الشارع على المشروع، فإن الأيام المقبلة بالنسبة إلى المعارضة ستكون أصعب في مواجهة الرئيس أردوغان، وفي حال رفض الشارع المشروع الدستوري، فإن المعارضة تخشى من ردود فعل قوية من أردوغان الذي يبدو مصراً على العودة إلى حزبه من جديد والحصول على صلاحيات أوسع وحصانة أطول وأقوى، وليس أردوغان مَن تنفد مفاجآته السياسية.