كمن يضع فجأة نقطة النهاية لنقاش احتد واشتد وطال، أخرج حزب العدالة والتنمية التركي من جيبه حزمة تعديلات دستورية من شأنها أن تنهي وتحسم سجاله مع المؤسستين العسكرية والقضائية الذي طغى على أحداث السياسة الداخلية في تركيا خلال الأشهر الستة الماضية. والحزب حين يفعل ذلك يستخدم سلاح الاحتكام الى الشارع والمواطن من جديد، وهو أمر يبدو للوهلة الأولى تعزيزاً للديموقراطية وتغليباً لها على حكم الأقلية البرجوازية الكمالية التي اعتادت حكم تركيا وفق معتقداتها وتصوراتها الخاصة عن العلمانية والديموقراطية. لكن بالنسبة لكثيرين في تركيا فأن مساعي الحزب الحاكم هذه المرة لا تبدو خالصة لوجه الديموقراطية، وعلى رغم أن التعديلات المطروحة فيها الكثير مما يتوق له الشعب التركي ويطالب به منذ زمن، إلا أن طريقة طرح هذه التعديلات على استفتاء شعبي وتوقيتها يثيران شكوكاً وتساؤلات حول نوايا حزب العدالة والتنمية الحاكم الحقيقية من وراء هذه التعديلات، وإذا كانت ستؤدي الى إنهاء وصاية الزمرة الأتاتوركية متمثلة في الجيش والقضاء، فما البديل الذي يطرحه حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية، وهل ستستبدل تركيا الديموقراطية الأتاتوركية بديموقراطية مفصلة بحسب رؤية الحزب الحاكم كما تقول المعارضة أم أن ديموقراطية حقيقية على المستوى الأوروبي هو بالفعل ما يسعى إليه رجب طيب أردوغان ورفاقه؟ دستور عصي على التغيير راودت فكرة تغيير الدستور كله أو جزء منه حزب العدالة والتنمية أكثر من مرة خلال سنوات حكمه السبع، لكنه لم يلق دعماً من أحزاب المعارضة التي اتهمته بالسعي الى أسلمة تركيا تارة، وتنفيذ أجندة أميركية تحت ستار ما يسمى بالإسلام المعتدل ومشروع الشرق الأوسط الكبير تارة أخرى. والحقيقة أن خصوم الحزب في المعارضة الكمالية والقومية آثرت الإبقاء على الدستور الحالي الذي وضعه الانقلابيون العسكر عام 1982 على رغم إعاقته ترسيخ الديموقراطية في تركيا لسبب واحد، هو أن الآليات التي وضعها الدستور لحكم تركيا تحد في شكل كبير من صلاحيات حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي انفرد بالسلطة وسيطر على القوتين التشريعية والتنفيذية، بل إن الدستور الحالي يفسح في المجال لحظر الحزب أو إبقاء سيف الحظر مسلطاً على رقبته، فيبقى بذلك أردوغان مكبل اليدين محدود الصلاحيات على رغم قوته شعبياً وفي البرلمان، فكثير من قرارات الحكومة وتعييناتها تصدى لها القضاء والمحكمة الدستورية بحجة انها تتعارض مع الدستور، وانتخاب عبدالله غول رئيساً للجمهورية لم يمر إلا بعد أزمة سياسية انتهت الى الاحتكام الى انتخابات مبكرة على رغم الأكثرية العددية المريحة للحزب الحاكم في البرلمان، فيما بقي الجيش في السنوات الماضية عقبة إضافية أمام تحقيق أردوغان طموحاته وبرامجه السياسية من خلال تدخلاته تارة وتهديداته تارة أخرى، وكل هذا كان تحت غطاء مواد دستورية تتيح المجال للجيش كي يتدخل في أي أمر يرى أنه يهدد أمن تركيا داخلياً أو خارجياً. لذلك فإن النجاحات التي حققها حزب العدالة والتنمية بقيت محصورة في مجالي السياسة الخارجية والاقتصاد بينما بقيت مشاكل السياسة الداخلية على حالها، من القضية الكردية، الى حقوق الأقليات والعلويين الى مشاكل الحجاب وحرية الرأي والتعبير وقانون الأحزاب السياسية وغيرها. وإن استطاع حزب العدالة والتنمية الحاكم السيطرة على قلعة الرئاسة التي تتحكم في كثير من موازين السياسة الداخلية – بحسب الدستور الحالي – من خلال معركة سياسية تم خلالها الاحتكام الى الشارع في الانتخابات التشريعية الأخيرة في تموز (يوليو) 2007، وتمكن أيضاً من التغلب الى حد ما على عقبة الجيش من خلال وضعه تحت موضع الاتهام باستمرار والكشف عن خططه الانقلابية الفاشلة والمجمدة، فأن القضاء بقي السد المنيع – والأخير ربما - أمام أردوغان للتغلب على القبضة الكمالية التي سيطرت على تركيا منذ إنشاء الجمهورية عام 1923 وجددت شبابها مع كل انقلاب عسكري وحاولت تخليد نفسها من خلال دستور عام 1982 الذي يحد من صلاحيات أي حكومة ويضع مقاليد الحكم الحقيقية في يد مؤسسات الدولة البيروقراطية التي لا ولاء لها سوى لأفكار أتاتورك أو ما تزعم أنه من أفكاره (وكمثال فإن تعيين الرئيس عبدالله غول لرئيس جديد لهيئة التعليم العالي هو يوسف ضيا أوزجان لم يؤدِ حتى الآن الى تغيير قانون منع ارتداء الحجاب في الجامعات أو السماح لخريجي معاهد الأئمة والخطباء دخول الكليات العلمية والفنية بسبب اعتراض المحاكم الإدارية على ذلك). وبعد تجاوز عقبتي الرئاسة والجيش ما كان لمعركة أردوغان مع القضاء أن تتأخر، فانفجرت صيف العام الماضي على خلفية محاولة الهيئة العليا للقضاة تنحية القضاة والمدعين العامين المسؤولين عن التحقيق والنظر في قضية ارغنكون أي الشبكة السرية التي سعت لإطاحة حكومة أردوغان من خلال انقلاب عسكري بعد زعزعة الأوضاع أمنياً على الأرض من خلال تفجيرات واغتيالات لشخصيات مرموقة ومعروفة. التحقيق في قضية ارغنكون وبقية قضايا الانقلاب العسكري كان – من وجهة نظر الحكومة - العمود الفقري لمسيرة إخضاع العسكر الى حكم المدنيين وإنهاء تدخلهم في شؤون السياسة، لكنها كانت في نظر القوى الكمالية محاولة لانقلاب أبيض يهدف الى أسلمة تركيا وكسر هويتها الكمالية العلمانية، لذا فأن محاولة الهيئة العليا للقضاة التدخل في تعيين من يتابع تلك القضية كان بمثابة إعلان حرب لا يمكن تأجيلها مع الحكومة. فكان تبادل الاتهامات بين الحكومة والهيئة القضائية بمحاولة التأثير في سير القضية، المعارضة اتهمت الحكومة بمحاولة فرض سيطرتها على القضاء وتعيين القضاة موالين للحكومة، فيما الحكومة اعتبرت محاولات هيئة القضاء لتغيير تعيينات القضاة محاولة لإفشال قضية ارغنكون ومساعدة المتهمين فيها على الإفلات من العقاب والإدانة، فجاءت التعديلات الدستورية التي يقترحها حزب العدالة والتنمية الآن من أجل تغيير تركيبة هيئة القضاة التي تحتكره زمرة من قضاة محاكم الاستئناف الكماليين. شكوك ونوايا تشمل حزمة التعديلات الدستورية التي يقترحها حزب العدالة والتنمية ستة وعشرين تعديلاً بينها ثلاثة موقتة، وعلى رغم أن فيها مواد يتوق لها المواطن التركي ويطالب بها منذ فترة (مثل إخضاع العسكر للمحاكم المدنية، المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، إنشاء محاكم الأحداث واستثناؤهم من تهم الإرهاب والجريمة المنظمة، إعطاء موظفي الدولة حق التعاقد الجماعي مع الحكومة وغيرها الكثير) إلا أن المعارضة لا ترى من هذه التعديلات سوى ما يتعلق بتغيير تركيبة وصلاحيات المحكمة الدستورية العليا وهيئة القضاة وما يتعلق بربط رفع أي قضية حظر لحزب سياسي بإذن من البرلمان. وتدعي المعارضة الكمالية بزعامة حزب الشعب الجمهوري أن أردوغان يحاول تزيين هذه التعديلات الدستورية الثلاثة من خلال إضافة تعديلات أخرى يطالب بها المواطن وربطها جميعاً في حزمة واحدة لعرضها على استفتاء شعبي دفعة واحدة، فتكون المواد الثلاثة والعشرين رشوة مقنعة تقدم للمواطن كي يوافق على التعديلات الدستورية بموادها الثلاث المتبقية، وهو ما اعتبرته المعارضة خدعة واحتيالاً وطالبت في حال عرض التعديلات على استفتاء عام أن تتاح الفرصة للمواطن للتصويت على كل مادة من مواده على حده، وهو ما لن يكون. لكن ليست المعارضة الكمالية وحدها من يقف ضد هذه التعديلات ويخشى النية من ورائها، فمؤسسات رجال الأعمال وشريحة من المفكرين والإعلاميين والسياسيين يقفون حائرين إن لم نقل مشككين أمام هذه الحزمة من التعديلات، فحزب العدالة والتنمية لم ينجح – ولأسباب عدة – في إقناع رجل الشارع البسيط انه يهدف دائماً في مساعيه السياسية خدمة الديموقراطية فقط، فهناك انطباع سائد في تركيا لدى معظم من هم خارج كتلة الحزب الحاكم أنه يقدم مصالحه على مصلحة الديموقراطية أحياناً وأنه يستخدمها لتمرير قوانين تتوافق مع أهوائه وإيديولوجيته المحافظة إن لم نقل وجذورها الإسلامية. ففي ذاكرة المواطن التركي أن الحزب الحاكم هب قبل حوالى سنتين من أجل تغيير قانون حظر الحجاب في الجامعات باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان، فيما يهمل حقوق الأقليات غير المسلمة والعلويين ويؤجل النظر فيها، كما سعى جاهداً لفتح الطريق أمام خريجي المعاهد الدينية لدخول الكليات العلمية والسياسية من دون أن يعطي الاهتمام نفسه لتحسين أداء الجامعات أو الارتقاء بمناهجها. كما إن مساعي الحزب الحاكم للسيطرة على وسائل الإعلام إما من خلال شرائها من طريق مقربين منه أو بأموال من الخارج، أو تهديدها بالمقاطعة أو استخدام سلاح الضرائب القاسية معها يشعر كثيرين بالقلق ويجعلهم يشككون في أطروحات الحزب الداعية لحرية الرأي والتعبير والديموقراطية. كما إن خلو حزمة التعديلات المطروحة من كل ما يتعلق بالقضية الكردية وما يسمى بالانفتاح الديموقراطي يثير الاستغراب، خصوصاً أن أردوغان كان وعد بالقيام بخطوات عملية وقانونية ودستورية على هذا الصعيد ولكنه لم يفعل حتى الآن. والأهم أن الحزمة المقترحة تخلو من تعديلات في قانون الأحزاب السياسية وهو الأمر الذي يطالب به الاتحاد الأوروبي منذ عشر سنوات نظراً لكون القانون الحالي يمكن زعيم الحزب من التفرد به وفرض رأيه على جميع كوادره والتحكم بآلية انتخابهم، وإبقاء قانون الأحزاب الحالي على وضعه من دون مساس به لا يساعد كثيرين على التصديق بأن هدف التعديلات الدستورية المطروحة هو الارتقاء بديموقراطية تركيا الى معايير الاتحاد الأوروبي كما تقول الحكومة. لذا فأن شريحة لا بأس بها تشك في نوايا الحزب الحاكم وتعتقد بأنه لا يلجأ الى الديموقراطية وسلاح الشارع إلا عندما يحتاج هو الى ذلك أو عندما تقتضي مصلحته ومصلحة ناخبيه ذلك، فالديموقراطية لديه – كما يقول هؤلاء – مهمة فقط عندما تحقق له مصالحه، ولعل هذه الشبهة تنبع من كون أن البعض في تركيا لا يريد أن ينسى أن حزب العدالة والتنمية وقيادييه جاؤوا من رحم أحزاب إسلامية، وأنهم قد يكونون ربما تغيروا ظاهرياً لكن معتقداتهم لا تزال ثابتة في ما يتعلق بالديموقراطية وكونها هدفاً أم وسيلة. البديل المجهول لكن المدافعين عن الحزب الحاكم يشيرون الى ضرورة النظر الى الظروف التي يعمل فيها ويحكم، وأن هذه الظروف السياسية هي التي تدفعه الى تأجيل الكثير من المشاريع الإصلاحية وإقرار ما هو عاجل منها وبالتقسيط للحد قدر الإمكان من ردود الفعل. فنحن نعلم اليوم أن أردوغان كان يعلم بوجود شبكة أرغنكون منذ خريف عام 2003 وأنه كان يربط بين تفجيرات القاعدة التي وقعت في إسطنبول والتنظيم، ويعتقد بأن قدراته كبيرة ومؤثرة، وانه لم يستطع أن يواجه ذلك التنظيم وتهديداته إلا عام 2008 عندما جمع ما يكفي من الأدلة على إدانته ومحاكمته، لذا فأن أردوغان كان كمن يمشي على الشوك طيلة تلك الفترة، وهو يعرف أن حزبه مهدد وأن ربما حياته مهددة هي الأخرى، فكان عليه توخي الحذر والحيطة وتأجيل الكثير من مشاريعه الإصلاحية وتقديم مصلحة حزبه أحياناً على ما سواها من أجل البقاء، وهو ما دفعه ربما لتغذية شريحة كبيرة من رجال الأعمال المقربين منه ليكونوا سنداً للحزب في حال تم حظره، وهو أمر جلب الكثير من الانتقاد لأردوغان والحزب، ولذلك ربما حاول زرع رجاله في كثير من مفاصل الدولة المهمة وحاول تصفية الكماليين منها من أجل إضعاف شوكتهم، فبالنسبة لأردوغان فأن سجاله مع الكماليين غير متكافئ لأنهم لا يحتكمون الى الشارع وانما يستندون الى قوانين الدستور الحالي وشبكة قوية وغامضة من العلاقات الممتدة في جميع أنحاء تركيا ومؤسساتها الرسمية. لكن يبدو الآن أن أردوغان سينتصر على الكماليين من خلال إقرار هذه الحزمة من التعديلات الدستورية، فالحزب لديه 337 صوتاً في البرلمان تكفيه للحصول على إقرار مبدئي للتعديلات وطرحها على استفتاء شعبي، لكن يمكنه من خلال إقناع نواب حزب السلام والديموقراطية العشرين وكذلك نواب حزب اليسار الديمقراطي الستة وأربعة آخرين من المستقلين الوصول الى رقم 367 المطلوب من أجل إقرار التعديلات من دون الحاجة الى الاحتكام الى استفتاء شعبي، وفي حال استخدمت المعارضة سلاح المحكمة الدستورية للمرة الأخيرة من أجل نقض هذه التعديلات فأنه لن يكون أمام أردوغان إلا الذهاب مرة أخرى الى الانتخابات مبكراً هذه المرة أيضاً وهو واثق من أن الشارع سيصوت له مجدداً، ليس لأنه مؤمن بسياسته وبالتعديلات الدستورية، ولكن لأنه – وبحسب استطلاعات الرأي الأخيرة – مع فكرة تغيير الدستور الحالي بأي شكل كان ولأنه سئم أسلوب المعارضة السلبي الذي لا يقدم أي حل بديل أو وجهة نظر بناءة وانما تكتفي المعارضة القومية والكمالية برفض أي مشروع سياسي تقدمه الحكومة من دون نقاش أو حتى تبرير. ولعل المعارضة الكمالية والقومية تشكل أكبر عون لأردوغان من خلال مواقفها السلبية على تنفيذ خططه من خلال دفعها الشارع للتصويت له، لكنها في الوقت نفسه لا تدرك انها تدفع – وعن غير قصد – الى الإطاحة بالكمالية ورجالها في تركيا، لتبقى فقط على شكوكها وخوفها من البديل القادم والغامض على يد حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية.