حرية الصحافة في أوروبا، مجدداً، على المحك، بسبب فضيحة «انتهاك سرية المصادر الصحافية» التي أثارتها صحيفة «لوموند» قبل أيام. أما أصابع الاتهام فموجهة مباشرة الى قصر الاليزيه الذي سارع إلى أنكار ذلك بالطبع. لكن الصحيفة قررت رفع قضية ضد «مجهول»، لانتهاك سرية المصادر. إذ ان كشف المصادر الصحافية تم عبر عمليات تجسس. عمليات قامت بها أجهزة الدولة، ولتحقيق مصالح ملتبسة. اتحاد الصحافيين الاوربيين أعلن تأييده للصحيفة الفرنسية الشهيرة. وفي حديث إلى «الحياة»، يقول الأمين العام للاتحاد إديان وايت حول القضية :»نحن ندعم بشدّة الخطوات التي اتخذتها «لوموند». أعتقد أن من الواضح أن الحكومة الفرنسية تصرفت في شكل غير مناسب، عبر استخدامها خدمات الأمن لمحاولة العثور على مصدر المعلومات. يبدو لي أن «لوموند» لديها قضية قوية جداً، لأن استخدام الاستخبارات بهذه الطريقة خاطئ». ويشرح وايت أن النقطة الحساسة في قضية «لوموند»، هي وجود مصلحة شخصية خلفها، مضيفاً: «عندما تتورط الحكومة، وتكون القضية متعلقة بالرئيس ساركوزي، فمن المهم جداً أن تورطهم لا يستنجد بالسلطات والخدمات التي توفرها الدولة». ويؤكد الأمين العام لاتحاد الصحافيين الأوروبيين أن الاهتمام بهذه القضية «مُستحق» ووجيه، وليس نابعاً من المعارضة المتنامية للرئاسة الفرنسية. ويلفت إلى أن «هناك قلقاً عاماً مستحقاً حول تدخّل ساركوزي، وربما هناك داخل هذه القصة، أو في خلفيتها، معلومات أكثر ستطفو على السطح وتلمس الرئاسة مباشرة». إذا، الواضح، هنا، أن مصلحة غير عامة اقتضت إيقاف تسريبات للإعلام. وتستند «لوموند» في قضيتها على قانون «حماية سريّة المصادر الصحافية»، وهو قانون، للمصادفة، ولسوء حظ الحكومة الفرنسية، جرت تقويته وتعزيزه في مطلع السنة الحالية. وفي إعلانها عن قضية التجسس على المصادر، أوردت «لوموند» نص القانون الذي يدعم دعواها القضائية. وفيه أن «إعطاء الامر لمحاولة كشف مصادر صحافي عبر تحقيقات مع أي شخص، والذي (الشخص) ربما بسبب علاقاته المعتادة مع صحافي ما، والذي ربما لديه معلومات تعطي فرصة لكشف هوية تلك المصادر، هذا الامر يعتبر طعن بسرية المصادر». ويضيف القانون أنه «لا يجوز، في شكل مباشر أو غير مباشر، كشف المصادر، ما لم تكن هناك مصلحة عامة طاغية تبرر ذلك...». وبناء على القانون، فعلى المتورطين في التحرّي، عن مصادر «لوموند»، أن يبرروا كيف أن نشر معلومات حول فضيحة تمس وزيراً أو حكومة يعتبر «مصلحة وطنية طاغية». فالصحيفة الفرنسية أوضحت أنه كان هناك طلب بيانات لاتصالات هاتفية، وتنصّت على مستشار قضائي للاشتباه في كونه المصدر. ومع ذلك، حاولت «لموموند» الإيحاء بأن الموظف الذي أقيل، ولم يعلن مباشرة أن لذلك علاقة بالتسريبات، ليس مصدرها، كونها استمرت في نشر معلومات جديدة من محاضر الاستجواب. ويوضح «اتحاد الصحافيين الاوروبين»، عبر أمينه العام، انه يحاول «وضع معايير أوروبية مع الاتحاد الاوروبي»، لزيادة صون المصادر وحرية الصحافة، لكن وايت (الآنف الذكر) يشير إلى أن الامر يثر القلق، ويقول: «قصة التجسس تقلقني، فخلال السنوات الاخيرة تعاملنا (في أوروبا) مع قضايا مختلفة من هذا النوع. قضايا تجسس دولة على صحافيين، ومؤسسات اعلامية، في ألمانيا وبريطانيا وبلدان أخرى. هذا يقلقنا من أن هناك توجّهاً يجعل الحكومات تسيء استخدام أجهزة الامن للتجسس على الصحافيين». وفعليا، فإن آخر قضة تجسس من هذا النوع تحضر إلى الاذهان، هي ما حصل في ألمانيا، عام 2006، إذ هزت واحداً من أكثر بلدان أوروبا اعتداداً بحرية الصحافة. وقتها ثبت تجسس الامن على مؤسسات صحافية وصحافيين، على مصادرهم وعلاقاتهم. والأسوأ كان استخدامها بعض الصحافيين كعملاء للتجسس على زملائهم. واستخدمت حينها، للتبرير، حجج كثيرة، منها «مكافحة الارهاب». وهنا، يوضح وايت أن «الحرب على ما يسمى الارهاب جعل قمع الصحافيين يزداد، ولاحظنا عمليات تجسس أكثر على اتصالاتهم الهاتفية. لكن، في الحقيقة، حتى اجراءات مكافحة الارهاب لا تبرر هذه العمليات. فعندما تستخدم الحكومة خدمات الامن، في فضيحة مالية أو لمكافحة الارهاب، للعثور على المصادر الصحافية، فإن ذلك يشكل خطراً كبيراً علينا كصحافيين عموماً، وعلى الديموقراطية خصوصاً». وعندما نسأل بعض الصحافيين الاوروبيين إن كانت قضية «لوموند» تثير قلقهم على مصادرهم، فتأتي الاجابة أن القلق مشروع. الصحافي فرانك دو ميتس، الذي يعمل في القسم المحلي لصحيفة «دي مورغن» البلجيكية، يقول أن القلق على المصادر قائم دائماً، والذي حصل مع لوموند «يزيد الوعي والحرص الموجود سلفاً». ويضيف دو ميتس: «أعتقد أنه نظراً إلى جهاز الأمن في بلجيكا، فاحتمال التجسس علينا ضعيف. لا أعتقد بأن أمن الدولة (البلجيكي) لديه موظفين كافين للقيام بذلك». ويوضح الصحافي البلجيكي أن ردّة الفعل، والتصويب على المراسلين، أمر يرونه كثيراً وتكراراً. ويضيف: «في ملفات مثل هذه (قضية «لوموند») وعندما يحصل تسرّب، يذهبون ويفتشون أين حصل التسرّب، بدلاً من أن يذهبوا ويحلوا المشكلة» الاساسية المتعلقة بالفضائح المالية وتورط الحكومة. إذاً، فإن الصحافيين الأوروبيين، والذين يفترض أن تحميهم الديموقراطية، وقوانينها، إضافة إلى كون الاستخبارات عندهم تحت المساءلة، يقلقون ويشتكون ويقاضون. المصلحة الشخصية، السلطة والمال، تشجع في كل مكان للفساد. لكن ماذا سيقول صحافيون أقل حصانة، مثل الصحافيين العرب مثلا؟ في بلاد، حيث لا سلطة فوق سلطة الحاكم، ولا يد فوق يد الاستخبارات. فهم، قبل حماية المصادر، لا يزالوان يطالبون بحماية أنفسهم، هذا قبل صون حرية الصحافة ومصادرها.