لا يتوقف الحديث التركي عن ضرورة إجراء مراجعة للسياسة الخارجية بهدف التخفيف من حجم الأعداء في الخارج، وأهمية البحث عن الأصدقاء، وفوق هذا، القول إن تركيا اليوم ليست كما كانت قبل نحو ست سنوات. وعليه، فإن رسائل الغزل التركي لروسيا تتوالى، كما أن الإشارات بتحسين العلاقات مع الجوار الجغرافي لا تتوقف، وفي صلب كل هذه الحركة السياسية تبحث أنقرة عن حلفاء أو شركاء لكيفية مواجهة الصعود الكردي على حدودها الجنوبية، بعد أن سيطر الأكراد على مناطق واسعة في شمال شرقي سورية، وأعلنوا عن فيديرالية، ويواصلون التقدم ضد معاقل «داعش» غرب نهر الفرات برعاية مباشرة من القوات الأميركية والتحالف الدولي، وهو صعود جعل المقاربة التركية للأزمة السورية ترتبط بكيفية مواجهة الخطر الكردي داخل تركيا وليست بإسقاط النظام السوري كما أعلن أردوغان مراراً. التحرك التركي لمواجهة الخطر الكردي اتخذ مستويات عدة حتى الآن، وتجلى في جملة من الوقائع، لعل أهمها: 1- الحديث عن طلب أنقرة من الجزائر فتح خط اتصال مع دمشق بهدف كيفية مواجهة إعلان الأكراد الفيديرالية، ويبدو أن دمشق تلقت الرغبة التركية بالاستعداد شرط أن يشمل التعاون باقي الفصائل والمجموعات المسلحة، وبحسب المعلومات فإن هذه الوساطة تجري في إطار رسائل مكتوبة على أن تتحول إلى لقاءات مباشرة في الجزائر التي أبدت استعدادها لعقدها. 2- التحرك على جبهة طهران التي تشترك مع أنقرةودمشق في الخشية من أن تكون التطورات التي تشهدها المنطقة قد هيأت الظروف والمقدمات اللازمة لإقامة كيان أو كيانات كردية في المنطقة، تشكل خطراً على الدول التي تضم الشعب الكردي، وفي ظل حركات كردية باتت تنشط في هذه الدول، وترفع من سقف التطلعات والمطالب القومية، وقد كانت لافتة تلك الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو بعد يوم من إعلان أكراد سورية الفيديرالية والحديث المشترك الذي صدر من الجانبين في شأن رفض الفيديرالية، بل أن الرئيس الإيراني حسن روحاني وجه وقتها انتقادات علنية لموقف الحليف الروسي الذي كان أول من تحدث عن إمكانية اعتماد السوريين النموذج الفيديرالي للبلاد. 3- مع أن الحليف التاريخي لتركيا أي الولاياتالمتحدة لم يستجب للتهديدات التركية بضرورة وقف التعاون والتحالف مع أكراد سورية وتحديداً حزب الاتحاد الديموقراطي ووحدات حماية الشعب، إلا أن تركيا لا تمل من تهديداتها هذه والإصرار على تصنيف الحزب الكردي على أنه إرهابي مرتبط بحزب العمال الكردستاني، ويبدو أنها باتت ترى في إمكانية الانفتاح على النظام السوري أو حتى التلويح بالاستعداد لذلك، ورقة لدفع الحليف الأميركي إلى تغير موقفه، أو على الأقل إعطاء تركيا ضمانات حقيقية بأنه لن يسمح لأكراد سورية بإقامة إقليم كردي من خلال الربط بين عفرين وكوباني بعد أن تقدموا غرب الفرات وباتوا في قلب منبج يحررونها من «داعش»، وهو ما يعني أن الطريق إلى جرابلس وأعزاز ستصبح مفتوحة. في الواقع، ربما يرى البعض أن عودة المياه إلى العلاقة بين أنقرةودمشق غير ممكنة إن لم تكن مستحيلة، لطالما أن أردوغان قال ما لم يقله أحد عن النظام السوري، وأن مثل هذه العودة تعني فقدان الرجل صدقيته وهو في النهاية لا يستطيع الانقلاب على نفسه. مع الإقرار بكل ما سبق، ينبغي النظر إلى أن أردوغان هو قائد بارع في التحالفات والانقلابات معاً، فهو نفسه كان من أهم أصدقاء الرئيس السوري بشار الأسد وصاحب الكلمة الشهيرة «أخي بشار» عندما كانت الزيارات متبادلة وعلى مدار السنة قبل أن يتحول إلى الطرف النقيض، ولكن الأهم من الجانب الشخصي لأردوغان، ماذا لو قال الرجل أن الأمن القومي التركي بات في خطر؟ وأن تركيا معرضة للتقسيم؟ وأن ما يجري اليوم كردياً في سورية سينتقل إلى تركيا غداً؟ وأن حجم (المؤامرة) تتطلب منا التحرك من أجل مصالحنا؟ في الواقع، يمكن القول أن الواقع التركي بمعطياته السياسية والحزبية والعسكرية لن يقف ضد أردوغان إذا قال ذلك، خصوصاً إذا علمنا أن لا أحد في حزب العدالة والتنمية الحاكم قادر على معارضة أردوغان، كما أن المعارضة التركية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين القومي المتطرف، كانت ضد سياسة أردوغان السابقة تجاه الأزمة السورية وداعية إلى التعاون مع دمشق، والأهم من كل هذا، ربما يجد أردوغان في هذه الحركة نزولاً من قمة الشجرة، ومدخلاً للمصالحة مع روسيا، وترحيباً اقتصادياً أكثر من طهران. يبقى القول، أن الجزائر التي تقوم اليوم بوساطة بين دمشقوأنقرة، هي نفسها التي قامت في عام 1975 بوساطة مماثلة بين شاه إيران وصدام حسين انتهت بتخلي الشاه عن دعم ثورة بارزاني الأب وبالتالي انهيارها، ليبقى السؤال: هل ستقوم الجزائر بتكرار السيناريو نفسه مع أكراد سورية أم أن حليفهم الأميركي لن يسمح بذلك باعتبار أن المعركة هي معركته في الأساس؟ * كاتب سوري