سمعوه وهو يهذي بعد أن تمكّن منه الرمد، فانغلقت عيناه. ماذا بقي من رحلته؟ أبٌ مكلوم وزِندٌ لا يزال مفتولاً وبقعة ضوء صفراء في عين كليلة. طرفة عين تدمع. هوى وشوق وهواء. برقةٍ تخطف الأبصار نحو جسرٍ من حديد، وسيارات تزعق أبواقها، وحريم الجنة والفقراء الريانات والمرضى. بعيدةٌ هي الجنة، قال. تحت أقدامه كانت أسماك البلطي تفر في جماعات متوحشة تتغذى على الفواكه واللحوم الآدمية المخطوفة غدراً قبل الفجر، وعقب انتصاف الليل تهج في الماء البارد تهرب نحو القاع. يناير، أنا أحبه. يعبر الفلنكات، في ظل دوي صوت قطار يفارق الليل، واصطكاك أسنان طفل نحيل. وأم تدق الباب لأخٍ «عايق»، وزي عسكري لطالب ثانوي متمرد. ومدق في غور طحين مصبوب من فولاذ بلا عجين، كنا، إلا من اخضرار برسيم في طرقات متعرجة، ورائحة شواء. وظل فتاة تنادي في حارة الرسل والأشباح، والراقصة الخرساء والمهجَّر، وحكايا بعد العشاء وحريق قمائن بلا طوب، وعربة «دودج» كلاسيك موديل 1956 يقودها أحمد قرة في الضباب. معلقٌ أنا في طريق سفر وصفعة على قفا أب عنجهي لا يلين. كان الشيطان يسكن بيتنا في النهار ويتركه بعد المغيب لتحل محله أرواحُ الموتى. في عزلة يناديني من تحت غطاء مثقوب والليل بهيم وطرقعة صاجات بلا خيل ولا فرح، ويقول ابن الحسن أيضاً: ماذا بقى غير نسور مطفأة وحطام رحلة شؤم. أنجب أحد عشر ذكراً. مات الأول. ومنذ ستة وثلاثين عاماً، صرخت طفلةٌ في صحن الدار الساحلي، قبل الظهيرة. بات يذكر ويتذكر في شبه تهويمات شاباً يعاني من جنون، يلعب في أزقة الضلال المتأخر مع النرجيلة. يلاعب دخاناً أزرق. يحادث الليل ويناديني بخجل: - يوسف. راقت له ضحكتي وأنا أمشي وحيداً قبل الفجر وقبل عسعسة الصبح. في الضباب. ثمانية وأربعون؟ مسير تحت ظلال السنديان. تركتُ العاشقين، وبتُّ أتحسسُ غبشةَ ضوءٍ بفرح صبياني لخائف من الترجل ويزحف عمداً قرب أشجار الصنوبر فلا تبالي به. إلا الهوى. يتكوم. يرتجف، يزعق وحده في البرية فاراً راغباً في الوحشة. على بقع الدم الأحمر في رمال مدينة دلتا العناكب. لازَم السرو وصار رفيقه. رأى الخيانة أسفل مجرى النهر. ورمى الأجساد المخطوفة جهراً. هذيان الليل وصوت الفجر وظلال لأُم هاشم. مدَد يا طلخا. افتح نافذتك يا يوسف. يزمجر شقيقي الأكبر. يختبئ. أختبئ، أسفل غطاء الكليم وبطانية من وبر وثمة رماد باق من حريق لفهمي المخبول. وصوته في السحَر: - يا جمال يا حبيب الملايين. أضحك وأسحب خِرقي البالية مرتجفاً. أُشعل الحطب. أرى سراج لمبة الغاز، واحدة في وسط الدار وأباجورة المحبين تخفت قبل يناير. ترقبتُ الكاسات وأنا أعبر نهر الغرباء على صوت قطار ومفارق ولوحات معدنية مشنوقة مدلاة من أسفل عربة نقل. عناقيد العنب تنفرط فور الصدام الحتمي بين سواد الأسفلت وفرقة الأعشى المهاجر. صراخ وعويل ونباح وعواء. والسادات يصدح في وهج العودة. أهل قناة. حيرةٌ في غمامِ طرقٍ في مسيرة حياة غير معلومة.