أكثر الأعضاء العربية انشداداً وترابطاً هي تلك الحبال الصوتية المربوطة جيداً. منّ الله علينا بحبال صوتية متينة كأنها حبال لعبة «سيرك». في أي مكان تذهب إليه تجد البلعوم العربي متصدّراً يستقبلك بالزعقات والصرخات. أكثر الذين يلقون التحايا يصيبونك بالدوّار، يأتيك السلام من أقصى الحلق، وكأنهم في حصة «تجويد». الزعق في الأغنية يختلف عنه في التحليل السياسي، أو في الأخبار والتعليق الرياضي. لكل زعق طرقه ومجالاته. وإذا كان هناك تاريخ يمكن أن نفخر به ونعرضه أمام البشرية ونحافظ عليه ونحنطه أن ندافع عنه منافحةً شديدة فهو «تاريخ الزعق». والحداثة التي دخلناها لا تتجاوز كونها «حداثة زعق وصراخ وفحيح». بعض العرب يفضّلون الصفير، وهو - لمن لا يعرفه -: تصويت فموي يأتي عبر إدخال اصبع أو اصبعين بحسب الحاجة إلى الفم، ومن ثم أخذ نفس طويل من الجوف وردّه إلى الخارج عبر الفم بمساعدة لحمة البلعوم المتدلية كأسفنجة تدريب لبطل ملاكمة. حارب الإنسان العربي بيديه، لكنه انتصر ببلعومه، حتى السيمفونيات العربية المزعومة هي سيمفونيات زاعقة، فيها صراخ وهياج ونطنطة، أحياناً أظنّ أن عازف البيانو يركض فوق البيانو على قدميه، إلى أن أفاجأ بأصابعه الضخمة. الحبال الصوتية التي نفتخر بها في المناسبات والحفلات الوطنية وغير الوطنية هي حبال نسجت بعناية. أصوات الكثيرين تبدو لي مثل «طيران» طبيعية. «طيران» صقلت بالتعاهد والتشذيب، سقيت بحروف اللغة العربية ال28، كل حرف عربي كأنه طبل. كل حرف أكثر تقريعاً من الآخر، لكأنها حروف صممت لأن تكون - فقط - كورال لآلة «الربابة» تحت خيمة تضربها الشمس. نحن أدخلنا أصواتنا العربية على الآلات الحديثة بالغصب، ب «السوط». أصواتنا العربية لا تنجح إلا في أغاني النفاق والزيف والاسترزاق والتسول. لي صديق مثقف يكتب الآن في صحيفة زميلة يقول انه كان يجيد عزف العود وصاحب صوت جيد. كان يمكن أن يسحق محترفي الزعق الفني. غير أنه توجه إلى القراءة المعمقة لسنوات. طحنته المطالعة وأرهقه التفكير. نسي تعاهد حباله الصوتية، صارت حباله الصوتية مثل حبل غسيل يتدلى من شقة في «إمبابة». وفي ساعة أنين تمنى لو أنه لم يقرأ حرفاً واحداً، تمنى لو أنه أكمل مشواره الفني المنسي. ولسان حاله: «يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً». إنه العصف الذهني، ونمو الأسئلة كالثيران البرية تتطارد في مضمار ذاتك، إنه ركض يحدث شعوراً بالكرب والكآبة. إنه مخاض مستديم، لا تنفع معه عملية قيصرية. لم يحتفظ صديقي بحباله الصوتية قبل أن يفوت الأوان وتتلف. اكتشف أن قراءاته أتلفت كل الحبال، أقلها حبل الطمأنينة التقليدي الذي كان يتمسّك به كغيره من الناس الذين يأكلون ويتسكّعون في الأسواق. تدهشني العروق الخضراء النافرة من رقبة المصوّت العربي. سواء كانت تلك العروق المخضرّة النضرة لداعية، أو لشاعر مخدوع، أو لمثقف في ناد أدبي، أو – حتى - كانت ل «فقمة» بشرية احترفت التحليل السياسي أو نقد الخطاب الديني. كيف استطاع هذا الخرّيت أن يدفّ الدماء في جوف هذه العروق ليخرج كل هذا الصوت المزعج؟ بإمكان صوته أن يرحّل مدينة بأكملها على بواخر شحن. غير أن الكارثة أن تلك الحبال بقيت تشدّ الصوت، لم تشدّ العقول التي تعشق الخرافة حدّ الهوس، حتى إن الأحفاد يطلبون من جداتهم قصصاً عن الجنّ والعفاريت، وعن العمّال الذين يسافرون إلى بلدانهم كل ليلة ب «مكانس» اليدوية. إنه عشق تاريخي غير مسبوق للخرافات التي لا تصدّق. يتهافتون على كل قصة وأسطورة خرافية غير ممكنة التصديق. ولو كنت متحدثاً للزاعقين لقلت لهم: ليت حبالكم شدّت عقولكم، فحبل واحد يكفي للصوت والتخاطب البشري، بدلاً من «مكرات» مهولة من الحبال اختبأت خلف بلاعيمكم، فأزعجت كل الأمم في كل القارات. أصوات شديدة الإزعاج، ومثيرة للشفقة والاشمئزاز، أصوات لا قيمة لكل ما تفرزه من عبارات أو كلمات. إنها أصوات مضرّة لطبلة أذن الإنسان الطبيعي. [email protected]