بعدما «خربت مالطا»، بدأ الخبراء يدرسون سبل حماية مالطا! وبعدما تشبع العالم بجماعات حقوقيّة وجمعيات تعنى بالحريّة، بدأت حكومات غربيّة بعقد المؤتمرات وإجراء المحادثات حول ما إذا كانت الحقوق مطلقة والحريّات لا سقف لها. وبعدما أتى «داعش» وأخواته على أخضر العالم العربي ويابسه، محققة نجاحاتها ومعتمدة في جهودها على الشبكة العنكبوتيّة، بدأ الجزء المتقدم من العالم يتفكر ويتدبر ويتحسس طريقه، في ما يختص بشبكة الإنترنت، وهي غربيّة المنشأ والتحكّم والمسار. يتحكّم العالم الغربي ببقية الدول عبر طرق عدة وسبل كثيرة، أبرزها وأهمها وأكثرها بعداً من المباشرة، هي شبكة ال «ويب» العنكبوتيّة. إذ تحوّلت الانترنت خلال السنوات الأخيرة إلى مجال للشد والجذب بين شباب يختبر الساحة الجديدة ويدخلها بكل قوته، معبراً عن آرائه وتوجهاته وحاصلاً على ما يبغي من معلومات وتوجهات وردود فعل مبالغ فيها من قبل الحكومات في كل الدول... باستثناء الغرب طبعاً. وهناك شباب آخر يبدي قلقه من تلك الساحة الافتراضيّة الجديدة، ويعبّر عن رعبه من وسائل التعبير الغربيّة، ولا يخشى إظهار رهبته مما يحتمل أن تنتجه الانترنت من رياح غير محمودة العواقب. مكيالان لحريّة الانترنت هبّت الرياح في العالم الفعلي مجتاحة المنطقة العربيّة بفضل الشبكة العنكبوتيّة. وترافق ذلك مع تحوّل ثورات إلى خراب ودمار، وانقلاب جماعات من السياسة إلى السلاح، وضلوع قوى عالميّة كبرى وصغرى (وما بينهما أيضاً) في تناحر أممي وتجاذب دولي على أشلاء المنطقة العربيّة المفتتة. وبات القاصي والداني، مع اختلاف التوجهات وتفاوت الأهداف، يعلمان تمام العلم أن جزءاً كبيراً من «داعش» هو ظاهرة عنكبوتيّة بامتياز. إذ تؤدي الانترنت دوراً مميّزاً في مسار ذلك التنظيم الإرهابي، لجهة المنشأ والجوهر والترويج والتبليغ والتجنيد والانتشار والتواصل والتمدّد. وظهرت مفارقات ضخمة في مسألة الحريّات على الانترنت التي أثارها الإرهاب وتنظيماته، ك «داعش» و «القاعدة». وبرزت تلك المفارقات بطريقة بيّنة لا لبس فيها، في نقاشات صاخبة عن إشكالية التمدّد الافتراضي لتنظيم «داعش» في العالم العربي، عبر الشبكة العنكبوتيّة الدوليّة. ففي طرف من ذلك المشهد، ارتفعت أصوات صارخة زاعقة تنافح عن الحق في المعلومات وحريّة تداول الأخبار وتصفح الإنترنت والتجوال فيها واستخدامها منصة للتعبير والترويج، إلى حدّ يتخيّل الإنسان معه أن التجنيد الافتراضي حق أصيل من حقوق الإنسان تكفله القوانين وتضمنه الدساتير، فالويل كل الويل لمن يتجرأ على تطويق أو تنظيم أو تقليص هذا الحق! وفي المقلب الآخر من المشهد عينه، انقلب الصوت من النقيض إلى النقيض، بمجرد أن هلّت البشائر الأولى لتمدد الإرهاب الجهادوي خارج الأراضي العربية، فانتفت صفة «المطلقة» عن الحقوق وتبخرت نعوت «الكفالة» عن الحريّات! هناك قصّة تصلح نموذجاً عن تلك المفارقات. فقبل أيام، دانت محكمة في مدينة بيرمنغهام (شمال غرب انكلترا) الشابة البريطانية تارينا شاكيل (26 عاماً) بتهمة الالتحاق مع طفلها بتنظيم «داعش»، وهو الحكم الأول من نوعه في بريطانيا. وكانت شاكيل اعتنقت «الإسلام المتطرف» عبر شبكة الإنترنت، ثم سافرت إلى مدينة الرقّة السوريّة بعدما أبلغت أسرتها أنها ستقوم برحلة إلى تركيا. وأقامت شاكيل في بيت كبير في الرقة مع مجموعة من النساء والفتيات الملتحقات ب «داعش». وأوردت في رسالة إلكترونيّة بثّتها لقريب لها أنها ذهبت إلى الرقّة لتبني بيتاً لهم جميعاً في الجنة. وكتبت على صفحتها في «فايسبوك» التي حملت صورة لها على خلفية راية «داعش»: «إذا كان ما يجرى في سورية حالياً لا يعجبكم، فلتضعوا أصابعكم على زناد السلاح عوضاً عن لوحة مفاتيح الكومبيوتر». وبعدما وضعت على الإنترنت صورها حاملة الكلاشنيكوف والأسلحة الآليّة تباهياً بعيشها في ظل «الشريعة الإسلامية»، شعرت شاكيل بأن الحياة تحت سطوة «داعش» قاسية، فهربت عائدة إلى تركيا وسلمت نفسها إلى الشرطة التركيّة. وبناء على تغريداتها وتدويناتها وأنشطتها العنكبوتيّة، قضت محكمة بريطانية بإدانتها بتهمة الانتماء لتنظيم «داعش» الإرهابي، والتحريض على الإرهاب في تغريدات كتبتها على «تويتر». وينتظر صدور الحكم النهائي في حق شاكيل في مستقبل قريب. رأي من أستراليا إذاً، إنّها أيام ليست كغيرها، سواء عنكبوتياً أو فعليّاً. فالحال أن الدول الغربيّة راعية الحقوق وداعمة الحريّات ومهد المنشأ للشبكة العنكبوتيّة بأدواتها المختلفة، لم تعد ترفع راية الحريّة المطلقة فيما يتعلق باستخدامات الإنترنت من قبل الجماعات الإرهابيّة، والتي كانت تلقب معظمها حتى الأمس القريب ب «الجماعات المتشدّدة» أو «الأصوليّة المتطرّفة». في دراسة عنوانها «داعش ومؤسّسة التوظيف الإرهابي الإلكتروني»، لاحظت روبين توروك، وهي باحثة في معهد الدراسات الأمنيّة في «جامعة إديث كوان» الأستراليّة، أن الإعلام الإلكتروني يوفر منصّة تمكّن «داعش» من تفعيل مسرحه التوظيفي عبر تقديم صورة عن نفسه باعتباره وسيلة لتحقيق الفانتازيا المرجوة من مزاعم الجهاد. من جهة أخرى، تقدّم الإنترنت ميزة كبيرة ل «داعش» ومن هم على شاكلته، كونها توفّر مساحة هائلة لأفعال الترويج للأفكار والمعتقدات والدعوة لانخراط في أعمال متطرفة تُصوّر باعتبارها «عادية»، ويتم الترويج لها باعتبارها ممارسات عادية متوقعة من المسلم المؤمن، وفق توروك. وكذلك تمكّن تلك المنصة الإلكترونيّة «داعش» أيضاً من تطوير أفكاره الرئيسية ونشرها، وإعادة هيكلة معتقداته المركزيّة كالجهاد والشهادة، وفق متغيّرات الظروف وتبدّلات الأحوال، وفق توروك أيضاً. وخلصت تلك الدراسة الأستراليّة إلى القول أنّ مواقع شبكات التواصل الاجتماعي باتت وسيلة مؤسّساتيّة قادرة على جذب مزيد من الأتباع لتنظيم «داعش» من دول كثيرة، عبر نشر رؤيتها الخاصة لأفكار بعينها معضدة بالصوت والصورة والمؤثرات النفسيّة المتنوّعة. وفي الوقت الذي يعتبر فيه «يوتيوب» وسيلة رئيسيّة لتوصيل صورة «داعش» وتفعيل مسرحه، يبقى «فايسبوك» المنصة التي تسمح بالتواصل والتبادل الاجتماعي، بما في ذلك توصيل ونشر الرؤى المتطرفة ل «داعش». وفي مختتم دراستها، طالبت الباحثة السلطات كافة بدراسة وتحليل تلك المنصات وسبل العمل الإرهابي عليها، معتبرة ذلك الطريقة الوحيدة التي تمكن المجتمع الدولي من رسم استراتيجيات لمواجهة مؤسّسة «داعش» للتوظيف على الإنترنت. "غوغل" بين نارين!