لو ظهرت في عقد الثمانينات من القرن الماضي، وذبحت أضعاف ما فعلت، وسَبَتْ أعداداً بأضعاف ما ارتكبته فعليّاً، ونكحت قاصيات ودانيات، وكفّرت ملايين الناس وبلايينهم، وأفنت هؤلاء وأولئك، لما انشغل العالم بتفاصيل حياتها اليومية ومحتويات فكرها الإرهابي وأهداف رعاتها الاستعماريّة، كما هو حادث على مدار الدقيقة والثانية مع «الدولة الإسلاميّة»، وهو المسمّى الآخر لتنظيم «داعش». وحاضراً، تحظى كل دقيقة الشبكة العنكبوتية من المواد المرئية - المسموعة عن نشاطات «داعش» المختلفة (نحر وسبي ودك حصون وهدم معاقل وترسيم حدود وإعلان وفاة دول وولادة أخرى...) بملايين المشاهدات. وتنجم عن كل مشاهدة حوارات ونقاشات، بل أن كل مقطع يحمّل مرات ومرات على الفضائيات والمواقع، كما يظهر في تدوينات وتغريدات. وسرعان ما تتحوّل تلك المواد إلى أحاديث الساعة، وشغل العالم الشاغل. البُعد الافتراضي وسحره عرف مئات المراهقين وآلاف الشباب (من الجنسين) طريقهم إلى قلب «داعش». وانضموا إلى دولة الخلافة، بما لا يزيد عن تغريدة أو تدوينة على «فايسبوك» أو «دردشة» عنكبوتيّة عن الجهاد ومحاربة أشرار. وربما حرّك بعض الشباب الرغبة في قليل من الإثارة وكثير من المتعة، فيما يشبه أفلام الحركة التي يؤدّيها الممثل فان دام. وما دام عامل الإثارة متوافراً، ووعود المتعة موجودة، يكون التدفق مضموناً. وبعدها، تتوالى المواد الترويجيّة والمحتويات الإعلانية التي تضمن ثبات المتلقي أمام الشاشة بلا حراك. ولعل صور الفتاتين النسمويتين المتداولة في الصحافة الغربية (وعلى شبكة الإنترنت بطبيعة الحال)، التي تظهرهما في «ما قبل» تنظيم «داعش» و»ما بعده»، كانت بالغة التأثير. ووفق الصور، تسحر الفتاتين القلوب بمظهرهما الجميل وشعرهما الأشقر وابتسامتهما الرائعة في مرحلة ما قبل «داعش». لكن للسحر حدود وللروعة نهاية. وتظهر الفتاتان في صور ما بعد «داعش»، بعد أن ارتدت كلاهما النقاب الأسود، ورفعت كل منهما اصبعاً في إشارة إلى التوحيد. جرى تداول تلك الصور ملايين المرات عبر الإنترنت، مذيّلة بقصص وحكايات عن انخراطهما في «جهاد النكاح»، بل حملهما حملاً داعشياً. في المقابل، جاءت رغبتهما الفجائية في العودة إلى الوطن، لتفجر المشاحنات والمنازلات عالميّاً بين فريق رافض لعودتهما إلى الغرب المتحضّر، وآخر مطالب باستعادتهما من براثن الشرق المتوحش. وعلى هامش المناقشات الساخنة، برزت نبرات غضب واضحة من سياسات الغرب الفاشلة سواء لفتحها أبواب الهجرة لأولئك «المتطرفين» منذ سبعينات القرن الماضي، أو لعدم قدرتها على احتواء الأجيال المسلمة التي ولدت في بلاد المهجر الغربي. والأرجح ان قرّة عيون «داعش» تتمثّل في المناقشات والمناوشات المشتعلة على متن شبكة الإنترنت على مدار الساعة. وفيما يحتفل «داعش» بانتصاراته، وتداعبه طائرات التحالف، ويتابع أخبار الاجتماعات الأممية والتراشقات الإقليمية والانشقاقات الدولية، ينغمس جانب غير قليل من سكان الأرض في حوارات ونقاشات وتراشقات باتهامات حول من تسبّب في ظهور «داعش»؟ من موّله؟ من يرعاه؟ لمصلحة من يعمل؟ في تلك الأمور، يراوغ «داعش» مستخدماً قطاعه التقني ببراعة بالغة. ويلاعب أعتى الدول عبر مناورات عنكبوتية غير مسبوقة. في أوقات سابقة، كانت دول الغرب تتفرغ لتوبيخ دولة عربية أو آسيوية، بسبب حجب بعض المواقع الشبكيّة أو إغلاقها، بذريعة أن الحجب والإغلاق يناهض حرية الرأي ويحارب الحق في التعبير. ثم انخرط الغرب نفسه في حرب مستعرة غير متكافئة (بمعنى تفوّق الدواعش العنكبوتيين)، في عمليات لوقف بث مواد «داعش» بدعوى أنها تحرّض على الفتنة وتحضّ على الإرهاب، أو أنها تحتوي مشاهد مؤذية لا ينبغي بثّها عنكبوتياً. «مجاهدو» الشبكة تمثّل السرعة عنصراً مشتركاً بين أسلحة الحرب العنكبوتيّة وأدوات الحجب ومسارات الانتشار. لذا، لجأ عنكبوتيّو «داعش» إلى نشر أخبارهم مذيّلة بال»هاشتاغ» الأكثر رواجاً، على غرار «هاشتاغ» التصويت على استقلال اسكتلندة، حين كان في ذروة رواجه قبيل إجراء ذلك الاستفتاء. ومنذ اندلاع النشاطات الداعشيّة العنكبوتيّة، علت أصوات تتزايد باستمرار في الغرب، للمطالبة بتطبيق رقابة صارمة على الإنترنت لمحاربة الخطر الداعشي الداهم. ولكنها ظاهرة تثير العجب وتفجر الغضب في الشرق الأوسط، الذي تمثل دوله مصدراً غنياً لعمل جماعات غربية تنشط في الدفاع عن الحقوق، إضافة إلى جمعيات دوليّة لمناهضة الرقابة وهي تعتمد بشكل رئيسي على عمل دراسات وإصدار بيانات مندّدة برقابة الحكومات على المواقع وشبكات التواصل الاجتماعي! ويبدو الأمر كأن «فايسبوك» و «تويتر» و «يوتيوب» وغيرها من مواقع التواصل وبث المعلومات، ليست كافية لتسليط الضوء على «داعش». فسرعان ما أسّس ذلك التنظيم مجلة «دابق» التي صنعت لنفسها أرضيّة من متابعين ومحللين وقرّاء، بطريقة لم تصل إليها أعتى الصحف وأقدمها وأمهرها! جرى تحميل العدد الرابع من «دابق» على الإنترنت. وشق طريقه خلال دقائق إلى آلاف المواقع والصحف. وانتقل إلى المدوّنات الإلكترونيّة، ونصوص الحال على صفحات «فايسبوك»، والسطور القليلة لتغريدات «تويتر». وبذا، بات «داعش» قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الكمال... الافتراضي! وكخلاصة، يبدو المُكَوّن الشبكي أمراً رئيسيّاً في حرب «داعش». ويلمح بعضهم إلى أن المارد العنكبوتي تمرّد على الواقع الافتراضي، بل أنه ابتدأ بنبذ الواقع الفعلي فصار وحشاً افتراضيّاً. ويشير آخرون إلى الأمر نفسه مع استنتاج بأن قوة «داعش» الحقيقية ما هي إلا وهم وخيال من صنع الخيوط العنبكوتيّة للانترنت. وينحي فريق ثالث باللائمة على شبكة الانترنت باعتبارها مصدراً للشرور ومنبعاً للإرهاب. ويبدو أن الشبكة العنكبوتية وُجِدت لتبقى، على رغم صعود حروب «داعش» وهبوطها، على الانترنت كما على أرض الواقع الفعلي.