«تل أبيض» منطقة سورية تتبع إدارياً محافظة الرقة وتقع على الحدود السورية الشمالية مع تركيا. تركيبتها السكانية اليوم من النصف عرب، وحوالى 30 إلى 40 في المئة كرد، وتوجد فيها أقلية تركمانية صغيرة جداً ومثلها أرمنية. أي هي منطقة عربية - كردية - أرمنية - تركمانية مختلطة مثل الكثير من المناطق السورية في الجزيرة وغيرها. تسمية «تل أبيض» نسبة لتل أثري، وهي تسمية حديثة لها من العمر أقل من قرن من الزمان. مثل المدينة الحديثة نفسها. وأنا أستخدم هذا الاسم «العربي» وليس الترجمة الكردية للاسم «كري سبي» لعلمي أن أهل المنطقة الأكراد أنفسهم يستخدمون تسمية «تل أبيض» من دون حرج، إلا أخيراً بدأ الترويج للتسمية الكردية «كري سبي» لمحاولة التشديد على «كردية» المنطقة أو الوجود الكردي فيها وهذا خطأ برأيي. لكن، هناك بالفعل تسميات كردية بحتة موجودة قبل إطلاق تسمية «تل أبيض» الرسمية، تطلق على تلال ونقاط ضمن المنطقة نفسها مثل «بوزاني» الذي يطلقه الكهول الأكراد على ناحية «عين عيسى»، أو نقطة تابعة لمنطقة «تل أبيض» جنوب غربها بنحو 30 كلم. بما معناه أن تسمية «تل أبيض» العربية الرسمية لا تنفي الوجود الكردي إلى جانب العربي في المنطقة كما قد يستنتج البعض. لكن هذا الخطأ الذي يرتكبه النشطاء الكرد أخيراً ينبغي ألا ينسحب على قضايا أخرى مثل حقيقة الوجود الكردي في المنطقة، أو أن يعني ذلك أن تل أبيض «منطقة عربية» بحتة ليس فيها أكراد. ومن المهم القول أنه كان للأرمن دور رئيسي في مدينة «تل أبيض» الناشئة حديثاً في أوائل القرن المنصرم. فالمنطقة التي سميت حديثاً «تل أبيض» والمتمادية مع ريف عين العرب – كوباني من جهة الغرب (المسافة بين تل أبيض وكوباني نحو 80 كلم)، ورأس العين - سري كانيه في محافظة الحسكة من جهة الشرق، هذه السهول الواسعة كانت لقرون متواصلة، وقبل ترسيم الحدود السورية - التركية بكثير، غير مسكونة في شكل مستقر ومزمن، إنما ارتحال شبه دائم للقبائل الرحل العربية والكردية والتركمانية، لا سيما بعد تدمير معظم المدن والمراكز الحضرية في الجزيرة السورية بعد هجمات المغول المتلاحقة على المنطقة. وكانت الصراعات والتحالفات تحصل بدوافع المصالح المعيشية والصراع على الموارد والهيمنة الشخصية والزعاماتية والقبلية، ولم تكن صراعات قومية بمفهوم اليوم، عرب متحالفين مع أكراد ضد عرب متحالفين مع أكراد. حصل ذلك أكثر من مرة في الجزيرة السورية. كما حصل تعريب لعوائل وأسر كردية، وتكريد لعوائل عربية الأصل، وتعريب وتكريد للكثير من القبائل التركمانية على مدار القرون الماضية في هذه المنطقة المختلطة إثنياً ودينياً. تجمعان كرديان بارزان كردياً كانت منطقة «تل أبيض»، خصوصاً جانبها القريب من كوباني - عين العرب، مجالاً حيوياً لأهم تجمعين كرديين كبيرين بارزين ومتنافسين في الوقت نفسه في هذه المنطقة، وهما «البَرَازية» وهو تحالف عشائري كردي مُهيمن في المنطقة وما زال إطاراً قبائلياً لمعظم السكان الكرد في المنطقة حتى اليوم. كان ثقل البَرَازية في منطقة عين العرب - كوباني القريبة من «تل أبيض»، ويبدو أن الكثير من الأسر والعوائل انتقلت إلى تل أبيض من عين العرب - كوباني في وقت ليس ببعيد. ووفق الباحث جوردي غورغاس تيجيل المختص بشؤون أكراد سورية، فإن «الكرد سيطروا في أوائل القرن السابع عشر على الضفة اليسرى من الفرات وبعض أراضي الضفة اليمنى، وذلك بعد تهجير السلطان لهم وتشكل على هذا النحو «التجمع البرازي الكردي» الذي كان يضم في الواقع جماعات متنوعة، بعضها يدعي الأصل العربي. كان البرازيون قبل وصول الفرنسيين وترسيم الحدود التركية - السورية، يمارسون البداوة بين سهل سروج وجرابلس وهي منطقة جبلية نسبياً. (جوردي غورغاس، الحركة الكردية - التركية في المنفى، ترجمة جورج البطل، دار الفارابي، بيروت ط1 آذار 2013، ص 52 - 53). مدينة سروج التي هي مركز سهل سروج المتمادي على جانبي الحدود بين سورية وتركيا، كانت مركز «التحالف البَرَازي» وتقع خلف الحدود التركية، وتبعد عن شمال عين العرب - كوباني 8 كلم. يورد المؤرخ أحمد وصفي زكريا في كتابه الشهير «عشائر الشام» الذي نشر طبعته الأولى عام 1945، معلومات عن البرازية تفيد بمعرفة مناطق انتشارهم في هذه المنطقة، أي في عين العرب - كوباني وريف الرقة... ويخصص المؤرخ فرعاً من الاتحاد القبلي البرازي وهو «الشدادان» بما يأتي: «الشدادان: أكراد من فرق البرازية... ولهذه الفرقة فخذ اسمه أوخ، من هنا كان اسم الفرقة شداد وأوخ، وتعد حوالى 3000 نسمة ومثل هذا العدد منها في ناحية تل أبيض التابعة قضاء الرقة، إلا أن أكثر شداد وأوخ لا يزال داخل الحدود التركية، أما أماكنهم ففي شرق قضاء عين العرب، وهم متصلون مع بقيتهم الموجودين في ناحية تل أبيض وهم ينجعون في فصل الربيع بوادي الرقة ويملكون نحو عشر قرى، وعندهم 8000 شاة». (أحمد وصفي زكريا، عشائر الشام، دار الفكر ط2 دمشق 1983، الجزء الثاني، الصفحات 670 - 671 - 672). تحالف متنوع التجمع الثاني هو «الاتحاد القبلي المللي» الذي أدى أدواراً تاريخية وسياسية بالغة الأهمية والخطورة في تاريخ شمال سورية وبلاد الشام وكردستان بدءاً من القرن 16 من عمر السلطنة العثمانية، حيث شمل نفوذ التحالف المللي المنطقة الواسعة بين مناطق ديار بكر، ماردين عامودا، رأس العين، أورفا، الرقة وحتى حلب، بدءاً من القرن 18. أي بما يشمل بالطبع منطقة «تل أبيض» الحالية. «الاتحاد القبلي المللي» المكوّن من تحالف متنوع إثنياً - عشائر كردية وعربية وتركمانية - ودينياً وطائفياً مسلمين، مسيحيين وإيزيديين، بقيادة عائلة من عشيرة «ملان - milan» الكردية التي كانت نواة الحلف وقيادته، كان نموذجاً مميزاً من التشكيلات القبلية. عاصمة هذا الاتحاد القبلي المللي كانت مدينة «ويران شهر» التاريخية مركز عشيرة «ملان» الكردية الواقعة ضمن الحدود التركية حالياً، وهي لا تبعد سوى خمسين كيلومتراً عن مدينة رأس العين - سري كانيه السورية، ونحو 120 كلم عن معبر «تل أبيض» على الحدود السورية - التركية. هذه الاتحاد الذي كان على تحالف وثيق مع المركز العثماني في منفعة متبادلة بين الطرفين، حيث استفاد العثمانيون من قوة هذا التحالف وانتشاره في التصدي لهجمات البدو «عنزة، طي، شمر» من الجنوب، وثم تشكيل «الفرسان الحميدية» لمؤازرة السلطنة العثمانية في حروبها. واستفاد قادة الحلف (عائلة إبراهيم باشا المللي الكردي) في ترسيخ نفوذهم واستملاك أراضٍ واسعة في السهول الممتدة في المنطقة المشارة إليها ضمن سياسة «الاستيطان العثمانية» لهذه المنطقة شبه الخالية من السكان، وفي شمال سورية خصوصاً بين رأس العين - سري كانيه وحتى «تل أبيض» وجرابلس، وفي الرقة أيضاً، حيث صار تيمور بك المللي والياً على مدينة الرقة التي كانت تتبع ولاية أورفا العثمانية في عام 1800. (بعض المعلومات الواردة هنا بخصوص الملليين مستقاة من دراسة آزاد أحمد علي في عنوان «الدور السياسي لعائلة إبراهيم باشا المللي في غرب كردستان وشمال بلاد الشام» صدرت عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى باللغة الفرنسية، ومنشورة باللغة العربية في عدد سابق من مجلة «الحوار». العدد 64، تشرين الأول 2012، ص 92 إلى ص 122). إن الأراضي الشاسعة العائدة ملكيتها إلى عائلة إبراهيم باشا المللي بين منطقة رأس العين و«تل أبيض» وريف الرقة تم الاستيلاء عليها من جانب الحكومة في عهد الوحدة السورية - المصرية 1958، ووزعت على مواطنين معظمهم عرب، وكذلك أراضي عائلة «آل كردو» في «تل أبيض» على سبيل المثل، العائلة الخيرة خسرت مساحات كبيرة. ومن المفهوم أن تتم ترجمة هذه العملية كردياً على أنها تعريب سياسي وديموغرافي وليس عملية «إصلاح زراعي» الكرد، بحكم الدين الإسلامي بما يتضمن ذلك من تعامل يومي مع اللغة العربية، والمجال الثقافي المشترك مع العرب والغياب شبه الكامل للمدوّنة اللغوية الكردية طويلاً لأسباب عديدة، كانوا يطلقون تسميات عربية على أولادهم ومناطقهم طيلة قرون. عشرات القرى الكردية في مناطق كردية لها مسميات عربية تبدأ ب «تل» و «عين»، «أبو» أو «أم». لم يبدأ الانحياز الواضح نحو التسميات الكردية البحتة إلا في العقود الأخيرة مع تصاعد المد القومي الكردي في المنطقة. وفي حالة «تل أبيض»، لا أعني أن الأكراد هم الذين أطلقوا تسمية «تل أبيض» على المنطقة، بل أقول أن التسميات العربية شائعة جداً ومفهومة في الوسط الكردي، ولا معنى للبحث عن اسم كردي بدل التسمية العربية الأصلية. في العقد الأخير، بدأ نزوع كردي نحو الابتعاد عن المسميّات الرسمية «العربية» للمدن والمناطق. وهي قد تكون تسميات أصلية فعلاً، وقد يكون من أطلقها هم الأكراد أنفسهم. من جهة أخرى هذا النزوع «التكريدي» أي الابتعاد من التسميات الرسمية، هو من أعراض الاغتراب الوطني السوري كردياً، وفشل تحقيق وطنية سورية شاملة. ولكن، بسبب الشعبويّة والسياسويّة المفرطة للخطاب القومي الكردي، ترى أن بعض ممثلي هذا الخطاب من نشطاء سياسيين أو مثقفين يرتكبون أخطاء فاضحة وتجاوزات منطقية لا يمكن القبول بها تحت أي حجة. نشرت مقالاً حول هذا الموضوع منذ نحو عشر سنوات، وتلقيت انتقادات كثيرة من محيطي الثقافي قبل السياسي، قلت فيه عن مثل قامشلو - قامشلي، أن البعض يظن أنه «كلما ابتعدنا عن التسمية الرسمية للمدينة كان ذلك اقتراباً من الحقيقة القومية الأصلية». وانتقدت أكثر من مرة هذا الميل والرغبة مثل الإصرار الخاطئ على أن كلمة القامشلي هي «تعريب» لكلمة قامشلو، وهذا غير صحيح. عمرها اقل من قرن المدينة حديثة جداً عمرها أقل من قرن من الزمان واسمها كذلك. اللفظة الأخيرة «قامشلو» هي بالفعل طريقة لفظ قسم كبير من سكان المدينة وريفها اسم مدينتهم، لكنها ليست الأسم «الكردي الأصلي» للمدينة... بل بالعكس، كلمة «قامشلي» أكثر تماشياً مع الصرف اللغوي الكردي. حيث إن كلمة قاميش هي كلمة تركية - على الأغلب - أو كردية – احتمال أضعف - تعني القصب الذي ينمو على ضفاف الأنهار (هنا نهر جغجغ الذي ينبع من شمال المدينة ضمن الحدود التركية). و«لي» لاحقة كردية تفيد «في» أي تصبح المدينة التي «فيها القصب». أو قد تكون الكلمة من اشتقاق تركي على وزن «ديار بكرلي، إسطنبولي...»، لا يمكنني الجزم. في الوثائق الفرنسية إبان الانتداب الفرنسي ترد المدينة باسم «قامشلية». وهناك تسمية «رأس العين» كمثل آخر. يتم القول هنا أن تسمية «رأس العين» هي تعريب (وأحياناً يقال «تعريب بعثي»!) لكلمة «سري كانيه» الكردية التي تأتي بالمعنى نفسه بالضبط. وهذا غير صحيح على الإطلاق. تسمية «رأس العين» قديمة جداً من قرون ومذكورة في كتب البلدانيين والرحالة (مثل ياقوت الحموي). أهل المنطقة الأكراد يلفظونها بكل بساطة سري كانيه بالكردية (أي من دون تكلف) ما يعني أن التسمية الكردية قديمة أيضاً، وليس تكريداً للاسم العربي. هناك داخل الأراضي التركية مدينة في مقابل رأس العين – سري كانيه السورية، معظم سكانها أكراد يلفظونها «سري كانيه» ورسمياً تسمى «جيلان بينار». ما يرجح أن الاسم الكردي أيضاً دارج وغير مصطنع وليس تكريداً للاسم العربي. ولا الاسم العربي القديم هو «تعريب» للاسم «الأصلي» الكردي. وهذا معقول لأن الاسم في الحالتين جاء نسبة للعيون (الينابيع) الموجودة في المنطقة وبطبيعة الحال، يميل الناس إلى تسمية مناطقهم بأشياء مميزة في الطبيعة أو في محيطهم الجغرافي. لكن هذا شيء مختلف عن القول أن اسم المدينة أو المنطقة تمّ تعريبه ل «رأس العين». أظن أن هذا المسعى السياسوي الواضح يسيء إلى صدقية الخطاب الكردي، فهناك في الواقع عشرات القرى، بل المئات من الأسماء الكردية تمّ تعريبها بالفعل خلال العقود الماضية. مثل مدينة «ديرك» في أقصى شمال شرقي سورية (منقار البط كما تسمى تلك الزاوية في المثلث السوري - التركي - العراقي) التي تم تعريبها إلى «المالكية». أو «جل آغا» التي عُرّبت إلى «الجوادية» أو «كركي لكي» التي عُرّبت إلى «معبدة»... وهناك عشرات الأمثلة وربما المئات عن عمليات تعريب مؤكدة للأسماء الكردية أو ذات الدلالات كردية.