جملة من المعارض المتزامنة والمتباعدة، تعالج موضوع اللقاء بين الفنون والعلوم، من خلال عناوين مختلفة، يستمر بعضها حتى نهاية كانون الثاني (يناير) من العام المقبل ويتجاوز بعضها هذا التاريخ. من هذه المواقع الفرنسيّة البارزة: متحف مودام للفن المعاصر (لوكسمبورغ) في باريس بعنوان «الفضاء الذي يجمع الفن والتقنية»، وذلك لمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس «متحف الفنون والحرف» في باريس. ثم متحف «الروافد» في مدينة ليون، بعمارته الرائدة المستقبلية، وفد اسمه من موقعه الذي يرفد نهرَي السون والرين الفرنسيين. متحف للفن والصناعة والمجتمع، أما عنوان شراكته فهو: «علم الفن». ثم متحف سان إتيان للفن المعاصر «الفن والآلة». ومتحف ليون العريق للفن المعاصر، وبينالي ليون داخل القلعة ببناء معاصر على شكل حرف V عنوانه: «الحياة المعاصرة». كثيراً ما يقع مؤرخو الفن ونقاده في تعسف باعتبار الحداثة وما بعد الطليعة وكأنها وفدت ولادتها من كوكب آخر لا علاقة له بالذاكرة التراكمية الثقافية. إن مراقبة تواصل مفاصل وانعطافات وتوجهات وتيارات تاريخ المعرفة الفنية والعلمية، تثبت عكس ذلك، فبعد أن وصل إثبات تواصل أنواع الفنون البصرية والسمعية درجة من الثبوتية في نهاية القرن التاسع عشر، بخاصة على يد عالم الجمال إتين سوريو وكتابه المفصلي: «التواصل بين الفنون»، أقول إن بداية القرن العشرين وصلت بالبحوث إلى التواصل والتوحد بين العلوم والفنون بدلاً من الطلاق. وذلك بسبب موروث «خيمياء» العصور الوسطى (ALCHIMIE) التي توحّد النشاط الروحي والرياضي والذوقي في بوتقة واحدة. من المعروف أن العقل ينتج العلوم الصرفة أو الوضعية وأن الحدس (أو القلب) يبدع الفنون. إذا كان هذا التصنيف والتفريق صحيحاً فإن إطلاقه من دون حدود يبدو متعسفاً. تنطبق هذه الملاحظة على الشرق والغرب معاً. إذا راجعنا رسوم مخطوطات مهندس بلاد الشام في بداية القرن الثالث عشر وهو الجزري وجدنا أنها في كتابه الحيل الهندسية الميكانيكية من أجمل رسوم ومنمنمات الفن العربي، هي الفترة التي أدهش فيها هارون الرشيد شارلمان بهدية الساعة التحوّلية المبرمجة. علينا أن ننتظر ما يقرب من ثلاثة قرون في عصر النهضة الإيطالية حيث تدمج الرسوم العلمية للفنان والعالم ليوناردو دافنشي تجارب الجزري لينتج رسومه الحربية الميكانيكية البالغة الأهمية ما بين رعاية عائلة مديتشي في فلورنسا أو رعاية فرانسوا الأول في فرساي في فرنسا في بداية القرن السادس عشر، وحين الاطلاع على محفوراته المعدنية العلمية لا يمكننا أن نفرق بينها وبين بحوثه الفنية الرائدة والتي تعتبرها معارض اليوم رمزاً للوحدة بين الفن والعلم. أحد هذه المعارض وضع عنواناً «ما زالت الأرض تدور حول الشمس» إشارة إلى فنية خيال الفلكي كوبرنيكوس. لم تنقطع هذه التوأمية التحالفية بين الفنون والعلوم منذ العهد «الانطباعي» في نهاية القرن التاسع عشر، علينا أن نتذكر أن الثورة اللونية الانطباعية كانت بفضل تحالف أمثال الفنان مونيه مع نظريات الفيزياء اللونية الحديثة للعلماء شيفرول وروود، ثم مع مدرسة الباوهاوس الألمانية وتوحّد العمارة والتصميم الصناعي وديكور المسرح مع السينما وسواها توصلنا إلى أساليب فنية متصالحة مع العلوم، مع المسطرة والبيكار والحسابات النوطية الموسيقيّة الرياضية (على غرار الموسيقي المصور بول كلي قبل كوبكا وشونبرغ)، ثم التجريد الهندسي الذي بدأه موندريان مؤثراً في العمارة والأزياء، ثم استثمار أشعة لازير الملوّنة في العروض العامة وتأسيس فن إشعاعي وهمي هو «الهولوغرافي» وأحابيله في متحفه، مع تيار الوهم البصري : «الأوبتيك - سينيتيك» وصلنا إلى ذروة توحّد العلوم الرياضية مع اللوحة، وبداية التوقيع والتلحين الإلكتروني في الموسيقى. ثم يبدأ استخدام المحركات الانفجارية (الموتورات) مع النحت الحركي، هو ما يبرر بروز النحات تانغلي في هذه المعارض وضمن علاقة النحت بالآلة، بخاصة أنه يستخدم الدواليب، بل المركبات العامة المتحركة. كذلك بيكاسو يوظف الآلات في ملصقاته البرونزية، قبل أن يستعير مارسل دوشامب نهائياً المستخدمات الصناعية مثل الدراجة في ما دعاه في ما بعد بطريقة دادائية «الريدي مايد». يذكر العالم الجامعي فرانك بوبير أكبر متخصص في فنون الوهم البصري في كتابه حول «المشاركة» كمصطلح علمي فني، بأن بعض الأعمال الفنية التحريضية يسميها «لعبية» أي تثير في المتفرج رغبة التدخل في تحريكها أو الصفير أمام نوابضها كي تتراقص، أو التصفيق أمام اللوحات الإلكترومغناطيسية لتترجم ما يصلها من أصوات إلى رفيف بصري أو ضوئي. يرفع بالنتيجة فكتور فازاريللي الحدود بين البرمجة الرياضية واللوحة « الأوبتيك - سينيتيك»، بل إن غالبية تكويناته تستعير شكل «الرواق الفلكي» الذي تخيل تربيعاته الشطرنجية عالم بمناظيرها الفراغية الهاربة إلى اللانهاية، مثل فازاريللي الجيل الثاني من مدرسة الباوهاوس في بودابست، كان كلف بتزيين ضريح بيتهوفن العصر وهو الهنغاري بيلا بارتوك، بصفته المرجع الرياضي للموسيقى الالكترونية والديوان الرياضي الإثني عشري الذي طبقه إسترافنسكي قبل شونبرغ، وهكذا عندما نعبر إلى ضريح بارتوك وجدران فازريللي نتيقن من الوحدة التي لا يمكن فصمها بين الرياضيات والتصوير ناهيك عن الدعوة إلى دمج هندسة العمارة والتصميم الصناعي في فنون «ما بعد الحداثة». وهنا نصل إلى الثورة التوحيدية الحقيقية بين النشاط العقلي أو الذهني الديكارتي الرياضي والصناعة الفنية (الذوقية) التي تمت بدمج المعلوماتية (السبرنيتيك) في الفنون التشكيلية، ليس فقط في مجال «الفوتوشوب» والكرافيزم المعلوماتي وإنما أيضاً بمواصفات بعض البرامج الشائعة الاخرى. لذلك نجد أن من أبرز وسائط ما بعد الحداثة هو الفيديو المبرمج معلوماتياً، استقل عن اللوحة وعن السينما وأصبح يدعى بفن الفيديو (على مثال منى حاطوم في لندن). أستعيرت في هذه العروض نماذج علمية - فنية نادرة من شتى المتاحف للمقارنة بالأعمال الحديثة. بخاصة التي تتشكل مادتها من منتجات التقدم العلمي، ناهيك عن كثافة البرامج النظرية والكتب والمناظرات الجامعية.