يستقبل متحف اللوفر (على جدران رواق بونابرت) حتى نهاية الشهر الجاري معرضاً يرسم خصائص الفن الألماني، أو ما يسمى مجازاً بالنسبة الى أوروبا «فنون ما وراء نهر الراين»... تمركز التنازع التاريخي بين فرنساوألمانيا في مناطق الألزاس واللورين (ممثلة بلوكسمبورغ التي أصبحت جزءاً من الخريطة الفرنسية، لذلك حُدّد المعرض بتاريخين حربيين، الأول يرتبط بالاحتلال البونابرتي لألمانيا، والثاني يسقوط الفكر النازي مع نهاية الحرب العالمية الثانية). يخرج المعرض من النظرة السطحية لفن الجار الأشد قرباً والأشد اختلافاً. يعكس سوء الفهم هذا اتهام فرنسا للفن الألماني بأن يغلّب الفكر على المادة التشكيلية ويرد الألمان التهمة إلى تاريخ الفن الفرنسي بأنه عار من الفكر، ومستغرق في الاختبارية التشكيلية. هو ما يفسر فقر مجموعة اللوفر من الفن الألماني مقتصرة على أتوبورتريه للفنان دورير ولوحتين لكارناش ولوحتين لفريدريش. وهو ما يفسر أيضاً واقع أن المعرض اعتمد أساساً على استعارة النماذج من متاحف برلينوميونيخ وفرانكفورت ودردسين وليبزغ وغيرها. ترصّع المجموعة عشرون لوحة تعتبر بنجوميتها وشهرتها رمزاً لما بقي من تراث الفن الألماني، لم تخرج أبداً من ألمانيا باعتبارها ثروة قومية على غرار لوحات فريدريش، أو اللوحة التي تمثل الشاعر غوتيه الذي يطل على روما. معرض اليوم يثبت خطأ التهم السطحية المتبادلة. فتاريخ التواصل بين فن البلدين يبدأ من توحيد شارلمان لهما منذ العصور الوسطى. والاختلاف بين الطرفين يشبه الاختلاف في مفهوم فلسفة الوجودية ما بين هايدغر الألماني وسارتر وكامي (الفرنسيين)، ذلك أن المستوى الشمولي في الفلسفة والموسيقى الألمانيّة يتفوق على الفن التشكيلي على رغم توازي مدارسه معها واستشفافه لفكرها. فالتعبيرية بنموذجها الأول ماكس بكمان ثم غاتي غولفتز تمثل امتداداً لفلسفة الملحمة المركزية للإنسان لدى نيتشه وسواه، والذي يقابله عبقري الموسيقى بتهوفن. أما الشاعر غوته الذي يمثل عموداً فكرياً أساسياً في المعرض فهو النموذج في الشمولية المعرفية والأفق الأرحب في تجوله بين العلوم والأدب، بخاصة في بحوثه الرائدة حول اللون يكتابه الشهير المؤسّس: «مبحث في اللون». يبدو وجه الأصالة والجدة في سينوغرافية العرض، بأنها لا تتوخّى الترتيب الوقائعي أو التسلسل التاريخي على رغم بانورامية العرض، فالأفضلية في هذا المقام لتقديم وتأخير شدة حضور النماذج بهدف رسم واقتناص مفاصل نقاط علام ومنعطفات السياق التطوّري. هو المتقاطع أو المتزامن أحياناً ولكن تسلسله لا يخضع للتقاليد المبسطة في منهج تاريخ الفن، بخاصة أن المعرض كما ذكرت يطمح إلى كشف التراشحات بين اللوحة والموسيقى والفلسفة. فإذا تناولنا التيارات الثلاثة الأساسية خلال القرن ولنصف القرن المذكورين، أي الرومانسية ثم الواقعية ثم التعبيرية، نجد أن هذا الترتيب لا يخلو من التعسف، لأن المنعطفات الأساسية تخرج عن هذا السياق التبسيطي. أورد للقارئ على سبيل المثال بعض الأحداث الانعطافية التي لا تنطبق على الترتيب التاريخ المذكور. جماعة «الفارس الأزرق» تأسست عام 1911 في ميونيخ من جانب مجموعة فنانين رواد مثل فرانز مارك وأوغست ماك والروسي كاندينسكي، ولولا استضافة هذه الجماعة معارض الفرنسي «روبير دولونوي» لما عرف، حتى تحول إلى مؤسس في تيار التجريد في ما بعد. تلاها ما بين الحربين تأسيس جماعة «الباوهاوس» في وايمر من جانب المعماري ولتر غوروبيوس وانخرط كل من كاندينسكي وبول كلي في سلك التدريس فيها، إضافة إلى شلايمر وإيتن، وذلك ضمن سعيها الطموح في توحيد الفنون التطبيقية والتشكيلية والمسرحية وسواها من رقص وموسيقى... يروى أن أبلغ آلام العبقري الموسيقى مالر كانت عندما هربت زوجته مع غوروبيوس المذكور. ولكن ذكر هذا الأخير زال مع صعود النازية وبخاصة مع معرض «الفن الفاسد» عام 1937 الذي جمعت فيه لوحات الرواد من أمثال كلي وكاندينسكي وبيعت بالمزاد العلني وأُحرق الباقي بحضور الجمهور المؤدلج. انتقلت بالتالي مدرسة الباوهاوس إلى نيويورك ليترسّخ تفريخها لفنون الوهم البصري (الأوبتيك - سينيتيك). أما التعبيرية التي يعمّمها النقد على الفن الألماني فتأسست منذ العام 1905 في درسدن من خلال أربعة فنانين على رأسهم كريشنر، لكن هذه النزعة الملحمية أثمرت خارج ألمانيا ابتداءً من فان غوغ ومونخ وكوكوشكا ونولد، ثم عادت وترسخت في ألمانيا مع ماكس بكمان، وجماعة الموضوعيّة الجديدة على رأسهم غروز، هم المعبرون عن مآسي الحرب العالمية الثانية وتفسخ قيم المجتمع الألماني، يستمر هذا الاتجاه اليوم مع اللوحات المقلوبة لجورج بازلتز. وهو ما يؤكد اعلان المعرض أن سياق تاريخ الفن ليس متسلسلاً.