ثلاثة عروض في مواقع متباعدة تنتهي مع نهاية الخريف تكرم رائد «الفنون البصرية» المؤسس والأب الروحي لهذا الاتجاه منذ بداية الستينات الفنان الفنزويلي كارلوس دييز، لمناسبة مرور نصف قرن على وجوده ونشاطه في محترفاته الباريسية (أشدها إثارة دكان الجزارة القديم في مركز العاصمة الفرنسية). يبدو فناننا في ذروة دهشته الفنية ومرحه وتوازنه الأميركي اللاتيني، هو في نهاية العقد التاسع من عمره، فهو من مواليد كاراكاس 1923 من أب شاعر ساعده في الدراسة في معهد الفنون الجميلة (البوزار). وبسبب تفوق موهبته صار مدرساً فيه ولم يبلغ الثلاثين بعد ثم عمل في تخطيط الرسوم ليكسب معيشته وأصبح مديراً فنياً طباعياً لإحدى أبرز صحف بلده وهي «الناسيونال» منجزاً رسوماً توضيحية في مواقع عدة. ابتدأ بأسلوب تشخيصي ملتزم قبل أن ينقلب في فلسفته التشكيلية لأنه ناقد منظّر له كتب مهمة عن نظريات اللون في اللوحة. «جدلية اللون» طبع عام 1980 و «تأملات ملونة» عام 1989. ابتدأ هذا الانقلاب من تحوله إلى التجريد المتطرف مؤسساً بطريقته منهجاً «للوهم البصري» أو باسمه المعروف فن «الأوبتيك – سينيتيك» معتمداً على استغراقه في اللون وتوقيعه الموسيقي ضمن أشفار هندسية متراكبة مقصوصة من الكرتون أو «البليكسيفلاس» الشفاف وبحالة إشباع لوني، بمعنى أنه يعتمد على ذروة التضاد في اللون وفي تعددية وهم الأبعاد، ولذلك توقع لعبة هذه السلالم العين (عندما يتحرك المشاهد) في «حيرة» اختفاء وحضور والتباس أخاديدها اللونية أو تداخلاتها الشفافة أو الشافة. تبدو أعماله بالتالي أقرب إلى التكوينات الشريطية الهندسية الملونة (يستثمر تقدم نظرياتها منذ الانطباعية وحتى دولونوي ومدرسة الباوهاوس) مثبتاً نظرياً (وبإدانة صريحة لأسلوبه التعبيري الأسبق) أن «الفن يولد الفن من دون أدنى إحالة إلى الطبيعة». وهكذا تبدو اللوحة وكأنها مسرح لحوادث بصرية لونية محكومة بتغيير حركة المشاهد، وليست اللوحة ما دعاها المنظّر فرانك بوبير بالمشاركة البصرية، وهو عنوان كتابه الذائع الصيت منبهاً الى أن دييز أخرج المشاهد من حياده وسكونيته ليصبح شريكاً في ابداع حركية العمل الفني. يعتبر دييز الفن في هذا المقام نوعاً من اللهو والتسلية الملونة لا تخلو من هدف اللعب والترويح عن النفس، ففنه يشبهه وتعكس شخصيته فكر مختبره البصري، فهو لطيف المعشر يسلك تلقائية الأطفال وهو باسم حبور محب للحياة حتى الثمالة. يقود عملياً مؤسسة إنتاجية تشبه رؤيوية «مدرسة الباوهاوس»، فهو يصمم أعماله وينفذها أكثر من 15 فناناً من أميركا اللاتينية في باريس. أما توأمه ومرآة روحه القادم من فنزويلا فهو سوتو، وارتبطت الأبحاث التجديدية في هذا الاتجاه بنشاط الإثنين وتأثر بهما معظم فناني المجموعة ابتداء من فازاريللي وانتهاء بآغام. جمعتهم في منتصف القرن العشرين غاليري مشهورة باسم صاحبتها: دونيس روني التي احتكرت تاريخ هذا الاتجاه منذ هربان وحتى اليوم (مع آخر البحوث السبرنيتيك). يحمل المعرض الراهن عنوان «خمسون عاماً من البحث» (غاليريى باستيل) وهو العنوان التكريمي الذي مهد لمعرض بانورامي شامل عن تجاربه ومفاصلها خلال نصف قرن والمرتبطة عضوياً بغاليري دونيس روني، سيغطي خريف هذا العام متزامناً مع معرض استعادي بالغ العناية يستمر حتى 2011 في متحف الفنون الجميلة في هيوستن (الولاياتالمتحدة)، أي أن المعارض الثلاثة تقع بين باريس والقارة الأميركية كنقطتي انطلاقته. يقال عن دييز ان صفته العالمية التصقت بمشاريعه الحضرية الكبرى على قياس المدينة المعاصرة، ما يفسر تعاونه مع كبار المهندسين المعماريين ومخططي المدن. وهكذا تحولت المدينة الطوباوية إلى كاليودوسكوب (جهاز المرايا الملونة المتقابلة). بهذا المجاز الفلسفي صمم سطوحاً جماهيرية عامة وعملاقة منذ 1970 وكان قبلها بعام ابتدأ بتصميم غرفته السحرية في ساحة الأوديون في باريس ثم توالت مشاريعه ما بين المطار الدولي في كاراكاس عام 1974 وصولاً حتى زيوريخ في سويسرا ثم ساحة فنزويلا في باريس خلال أعوام 1976 وحتى 1978 وكان آخرها متحف الفنون الجميلة في بوسطن عام 2009. لا شك في أن شعاره حول الفن الشمولي ودعوته الى «فن من دون حدود» مستقى بدوره من تربية «مدرسة الباوهاوس» التي أسسها خلال الحرب العالمية الثانية في نيويورك الفنان موهولي هارباً من الاضطهاد النازي.