حافظ تنظيم «داعش» على البنية العشائرية للموصل ومحيطها الجغرافي، وهي بنية استمدت حضورها من توازنات استمرت لعقود، لكنه استثمر نقاط ضعف التركيبة العشائرية والانقسام المناطقي المستمر في داخلها، لاستقطاب زعامات في الهيئات التي أنشأها لإدارة الموصل، كامتداد لتمثيل العشائر في البنى الإدارية والأمنية في المدينة، على المستوى الرمزي. في الجزء الثاني والأخير من هذا التحقيق، سيوسع «داعش» نطاق نفوذه داخل البنية العشائرية، عبر مصالح اقتصادية متشابكة فرضتها حاجة السكان للبقاء على قيد الحياة، وكان من توابعها حصول التنظيم على موارد إضافية. يتابع جميل المتيوتي، في محل صغير ببلدة البعاج غربي نينوى القريبة من الحدود السورية، أعماله التجارية التي شهدت ازدهاراً عقب سيطرة التنظيم على الموصل والبلدات المحيطة بها، حين وجد نفسه بفضل علاقاته مع أمراء التنظيم واحداً ممن يتم الاعتماد عليهم في توفير الوقود والعجلات المدنية المستخدمة في المهام القتالية. يتاجر بكل شيء، من الأغذية إلى الأدوية والمعدات الميكانيكية والمشتقات النفطية، من خلال عمليات تبادل تمتد على حدود ثلاث دول هي العراق وسورية وتركيا. سبق جميل، شقيقه علي، في التجارة مع تنظيم «الدولة الإسلامية» ومع العديد من الجماعات المسلحة، حيث كان يمدها بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة في فترة امتدت لعامين، قبل سيطرة التنظيم على كامل محافظة نينوى. علي، كان يشتري الأسلحة من الضباط في الوحدات العسكرية العراقية المنتشرة حول الموصل وعلى الحدود العراقية السورية، ويبيعها للعديد من الجماعات المسلحة في العراق وسورية بما فيها بعض أطراف المعارضة السورية، قبل أن يتحول مع سيطرة «داعش» على نينوى في حزيران 2014 إلى تجارة السيارات وغنائم الحرب في منطقتي سنجار وتلعفر. طوال سنوات في المنطقة الصحراوية الممتدة على الحدود العراقية السورية، انخرط أبناء العشائر، في تجارة واسعة ومعقدة عبر الحدود الدولية، بما فيها عمليات تهريب، شكلت عصب الحياة للمنطقة. يقول قاسم حسو، وهو أيزيدي من سنجار عمل في تجارة السيارات وقطع غيارها والإطارات: «أبناء بعض العشائر كانوا يتاجرون بكل شيء، وقود وأسلحة وسجائر وأغذية.. منذ سنوات يعيشون على تلك التجارة ينقلون البضائع المسموحة عبر معبر ربيعة، وينقلون الممنوعات عبر الحدود بالاتفاق مع ضباط من عشائرهم مسؤولين عن أمن الحدود». يضيف حسو «بعد سيطرة التنظيم على سنجار، أصبح أبناء بعض عشائر المنطقة أكثر قوة مع احتضانهم التنظيم... نهبوا كل ما سُمح لهم في المدينة، استولوا على محتويات المحال التجارية، وعلى مئات السيارات التي تركت على مداخل جبل سنجار واعتبروها غنائم... كان يتم في المدينة التي أفرغت من سكانها الأيزيديين عرض محتويات زقاق كامل للبيع في ما يشبه المزاد». يكمل: «لم يقتصر دور وجهاء بعض عشائر المنطقة الموالين للتنظيم على توفير المقاتلين وتولي المهام الإدارية، بل صاروا وبدعم من التنظيم جزءاً من الماكينة الاقتصادية الأساسية لإدامة التنظيم». يستدرك: «في المقابل بعض التجار الكرد، كما العديد من شيوخ العشائر العربية، الذين رفضوا سياسات التنظيم ولجأوا إلى كردستان، أو كانوا متعاونين مع الحكومات العراقية السابقة، خسروا كل شيء.. أصبحوا اليوم خارج الحلقة الاقتصادية». استغلال البطالة يتفق شيوخ وأبناء عشائر، على أن المصالح التي ربطت بعض أبناء القبيلة ب «داعش» هي ذاتها التي ربطتها بنظام صدّام حسين الذي سلّمهم بعد انتفاضة 1991 معظم المراكز الأمنية، كما منحهم حرية أكبر في العمل التجاري، مع تراجع دور الدولة في توفير الأساسيات. عندما سقط نظام البعث في نيسان(ابريل) 2003، أصدر الحاكم المدني الأميركي بول بريمر قراراً بحل وزارة الدفاع، فوجد عشرات الآلاف من أبناء العشائر أنفسهم ضمن جيش بطالة، تلقفته الفصائل الدينية الصاعدة وخاضت به حرب شوارع طاحنة، قبل أن ينتهي الحكم ليد «داعش». هؤلاء لا يشكلون القوة القتالية للتنظيم فقط، بل قوته الاقتصادية بعد أن أوكلت إليهم إدارات قطاعات تجارية وإنتاجية مهمة. في الفترة الممتدة بين 2005 -2014، انخرط جيش العاطلين بسهولة في صفوف الجماعات المسلحة، لينفذ عمليات اغتيال وتفجيرات مؤثرة وأخرى لإثارة الفوضى مقابل مبالغ مالية. «الحاجة المادية هي التي دفعتني للانضمام إلى الدولة الإسلامية»، هذا ما قاله معتقل لدى القوات العراقية عندما عُرض على محقق في الفرقة الثانية للجيش العراقي في الأيام الأخيرة من عام 2013، بعد اتهامه بقتل الصحافية نورس النعيمي. كان هذا الجزء الأكثر صراحة في اعترافاته التي طعمت ببعض المبالغات. قال وهو يقاوم آلاماً في أنحاء متفرقة من جسده نتيجة التعذيب: «قتلتها مقابل 50 ألف دينار، وأنا لا أعرفها ولا أعرف ما هو عملها... هم يبلغونني عن طريق أحد الأشخاص بالاسم والعنوان وأنا أنفذ، وأحياناً لا أحصل على أجري في الوقت المحدد». يشير الشيخ مليح الزوبعي، عضو في مجلس محافظة نينوى، إلى أن تنظيم «القاعدة» الذي تمظهر في العراق لاحقاً باسم «دولة العراق الإسلامية» قبل أن يتحول إلى «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ويغير العنوان بعد احتلال الموصل إلى «الدولة الإسلامية»، استثمر البطالة المتفشية في صفوف الشباب، فصارت له جيوب وحواضن في داخل المدن والقرى، وتحولت المناطق العشائرية التي تصحرت ودفنت قراها في الرمال إلى معسكرات تدريب ومخازن للأسلحة. «ساعدته في ذلك حالة العداء المستشرية إزاء المركز بسبب التضييق على الأهالي والاعتقالات العشوائية وسياسات التمييز الطائفي». ويؤكد الشيخ الزوبعي أن موارد كبيرة وثابتة ساهمت في تقوية شوكة «داعش»، كانت تأتي من علاقته التجارية الوثيقة مع بعض العشائر. في المقابل، كان اقتحامه لنينوى خبراً ساراً للباحثين عن فرص عمل، خصوصاً بعد موجة التصحر في العقد الأخير، التي قضت على الزراعة ومناطق الرعي جنوبي وغربي نينوى حيث التواجد الكثيف لأبناء العشائر. دفعت تلك الرواتب، العديد من أبناء عشائر البومتيوت والحديديين والبوبدران والبوحمد والزبيدات والحمدون والجبور (ناحيتي الشورة وحمام العليل جنوبي الموصل) والعشائر التركمانية، إلى تصدير مقاتلين ل «داعش». ديوان الجباية بعد إعلان الموصل مركزاً للخلافة في منتصف 2014، لم يجد «داعش» مغبّة في إدماج الحلفاء السابقين في التشكيلات الإدارية التي أنشأها حديثاً، أو ما يعرف «بالدواوين». ووفق مصادر من شيوخ قبائل أو أفخاذ بعضها مقرب جداً من هذه التشكيلات، فإن «داعش» وزع المهمات في «الدواوين» بين قبائل محددة. هاشم أحمد (48 سنة) وهو رائد في الشرطة المحلية، كان قد أشرف على العديد من التحقيقات مع عناصر مسلّحة، يعزو تكليف أفراد من عشيرة السبعاويين بجباية الإتاوات لتنظيم «القاعدة» منذ 2004 ومن ثم «داعش»، إلى التواجد الكثيف لأفرادها في مناطق جنوب الموصل وفي الأحياء السكنية في الشق الجنوبي من المدينة ذاتها وعلاقة العديد من أبنائها الوثيقة مع نظام صدام حسين سابقاً». لكنه يستدرك أن «هذا لا يعني تورط كافة أبناء العشيرة، فحالياً في معسكر تحرير نينوى فوج كبير من أبناء العشيرة يقاتل «داعش» في جنوبالمدينة يعرف بفوج السبعاويين، وهو بقيادة فرج السبعاوي». وقدرت مصادر أمنية في نينوى قبل 2014 واردات «داعش» الشهرية من الإتاوات ب 5 ملايين دولار أميركي، كان يدفعها بنحو منتظم التجار وأصحاب الصاغة والشركات الأهلية والأطباء والصيادلة ومكاتب النقل والمعامل والمصانع والورش وسواها، فيما تحتسب الدوائر الحكومية ممثلة بقسم العقود في محافظة نينوى، نسباً ضمن المبالغ المسددة للمقاولين تذهب إلى «الدولة الإسلامية». وأعلن ذلك صراحة اللواء مهدي الغراوي قائد الفرقة الثالثة شرطة اتحادية (أصبح قبل سقوط الموصل بأيام قائداً لعمليات نينوى) وقال إن «الكثير من شرائح المجتمع يدفع إتاوات للتنظيم، وحتى بعض مديري الدوائر الحكومية متورط في ذلك أيضاً». مصادر عشائرية نافذة في الموصل، قالت بدورها إن التنظيم أناط مسؤولية الجهات القضائية بأفراد من قبائل عربية عراقية حصراً، والعكس بالنسبة ل «بيت مال المسلمين» الذي يعادل البنك المركزي، إذ يتولاه أجانب من جنسيات مختلفة. وتوضح تلك المصادر أن «العشائر العراقية خرجت تماماً من العمل في بيت المال، بعد استهدافه بغارة للتحالف نهاية العام المنصرم، وكان وقتها يشغل عقاراً في منطقة نركال السكنية في الجانب الأيسر لمدينة الموصل». خريطة اقتصادية «داعشية» من خلال تتبع العشائر التي منحت التنظيم البيعة، أو التي قتل شيوخها واستهدف أبناؤها باستمرار لضمان ولاء بقية الشيوخ في تلك العشائر، يتضح أن مناطق وجود غالبيتها العظمى تشكل خارطة «داعش» الاقتصادية، ومصادر تمويله الرئيسية. فثقل خلافته التي أعلنها ترتكز فيها، وحدودها ترسم مصافيَ وحقول نفط وطرق نقل ومراكز تجارية. تبدأ رحلة التتبع هذه من ناحية ربيعة على الحدود مع سورية (120 كيلومتراً غربي الموصل)، حيث تسكن عشيرة شمر. وعلى الرغم من عدم وجود علاقة ودّ علنية بين «داعش» وهذه العشيرة، إلا أن التنظيم سيطر قبل احتلاله الموصل وبنحو استخباري على حركة البضائع الواردة من خلال هذا المنفذ الحدودي، وشكل ذلك مورداً ثابتاً له من خلال فرض رسوم تتراوح بين 300 و600 دولار أميركي على كل شاحنة تدخل من هناك،وفق نوع الحمولة. أحمد حازم، كان ملازماً أول في الجيش العراقي في عهد صدام حسين، وعمل لاحقاً مع عدة فصائل مسلحة قبل أن يعتقله الجيش الأميركي ويطلق سراحه منتصف سنة 2010، ثم التحق بالشرطة المحلية، واعتقله التنظيم مطلع تموز (يوليو) 2014 وأطلق أيضاً بعد إعلانه التوبة. في اتصال هاتفي مع حازم قبل مقتله (أعدمه تنظيم داعش في 27 تموز(يوليو) الماضي مع 191 منتسباً للأجهزة الأمنية وموظفاً في مكتب مفوضية الانتخابات في نينوى)، ذكر أن التنظيم زرع في السنوات السابقة على طول الطريق الدولي الهابط من المنفذ مخترقاً ربيعة فالعياضية ثم حميدات وصولاً إلى «بوابة الشام» حيث المدخل الغربي للموصل، عيوناً ترصد حركة الشاحنات التجارية وتنصب مكامن للعجلات العسكرية. وأردف أن «العناصر المقاتلة هي نفسها اليوم من يسيطر على المكان وهم أبناء المنطقة من عشائر الجحيش والبومتيوت والدولة واللويزيين والبوحمدان واللهيب والجبور والمعامرة والبوسلامة والجرجرية وبعض العشائر التركمانية». بمتابعة مسار الخارطة «الداعشية»، وفي قضاء تلعفر الذي كان يضم مصفى الكسك النفطي (تم تفكيكه ونقل أجزائه إلى سورية)، حصل التنظيم على عماده من المقاتلين من عشائر تركمانية، وأوكلت لهم مهمة قيادة «غزوة سنجار» في آب (أغسطس) 2014، وفق تأكيدات الرائد في الشرطة المحلية هاشم أحمد. وعند جنوب غرب نينوى تقع بعاج، وهي جزء من البادية ذات الحدود المفتوحة مع سورية ومحافظة الرمادي تشكل عشيرة البو حمدان حوالى 80 في المئة من أبناء المنطقة، تليها عشائر شمر والزبيدات والعكيدات والصكور وعيال الشيخ والجبور، وهي ممر تاريخي لتهريب النفط والأسلحة والمقاتلين، وحاضنة أساسية لمعسكراته. عبر محادثة على موقع تويتر، يقول فاروق الزبيدي (33 سنة) الذي كان من أشهر المهربين في بعاج قبل أن يصبح مقاتلاً في «داعش» ويتقاضى مرتباً قدره 400 ألف دينار (حوالى 330 دولاراً أميركياً) أن ما يفعله الآن ليس بغريب عن نشاطه الأول، «فحياتي مثل كثيرين من أبناء قريتنا كانت عبارة عن مطاردات مع شرطة الحدود. الفرق أنني كنت أقاتل للحصول على المال، والآن الحمد لله الذي سخر لنا الدولة الإسلامية لأنال أجراً وثواباً على ما أفعل». النفط بصبغة عشائرية بالاستمرار في تتبع الخريطة والوصول إلى مدينة الموصل ومناطقها الجنوبية، يبرز دور ونفوذ عشيرة البو بدران، التي يتوزع أبناؤها في قرى عدة جنوب الموصل أبرزها «الجرن»، وفي مناطق الساحل الأيمن من مدينة الموصل كمشيرفة وتل الرمان والزنجلي والإصلاح. وتمتاز هذه المناطق بوجود خط سكة حديد، والطريق الذي يعرف بالاستراتيجي، مع الطريق البري الدولي. ومن أقصى جنوب الموصل، يبدأ نفوذ قبيلة الجبور الكبير الممتد على طول 200 كيلومتر من نواحي حمام العليل والقيارة والشورى جنوباً، مروراً بقضاء الشرقاط التابع لمحافظة صلاح الدين، وصولاً إلى قضاء بيجي حيث أضخم مصافي العراق. عند الحديث عن النفط والثروة الباطنية، يظهر أفراد من قبيلة الجبور بقوة في هذا المشهد، بسبب وقوع مكامنه وطرق نقله عبر مناطقهم، وتحديداً في ناحية القيارة حيث واحدٌ من أقدم الحقول التي اكتشفتها شركة تأهيل حقول النفط البريطانية سنة 1927 وتقدر احتياطاته ب 800 مليون برميل من الخام الثقيل، وفي ناحية حمام العليل، حيث تقع مستودعات النفط ويصل إليها أنبوب المشتقات النفطية القادم من مصفى بيجي، وهنالك أيضاً معمل الغاز، وأخيراً في ناحية الشورى حيث حقل كبريت المشراق. وبين هذه النواحي الثلاث، يمر الطريق الدولي بين الموصل وبغداد. عن حضور الجبور في هذه المناطق الثلاث، يقول عضو في مجلس محافظة نينوى طلب عدم ذكر اسمه أن «بعض أفراد عشيرة الجبور استفادوا من «داعش» بسبب تجارة النفط، لكن العشيرة في الوقت نفسه الأكثر عرضة للاستهداف منه بسبب النفط أيضاً (...) هكذا، قتل التنظيم العشرات من شيوخها ومخاتير قراها في جنوب الموصل، الذين أبلغوا عن مسارات تهريب النفط وبيعه من قبل «داعش». وبالفعل، وأثناء كتابة هذا التحقيق، أعلن التنظيم عن إعدامه أربعة مخاتير من هذه القبيلة في منطقة حمام العليل بتهمة التعامل مع حكومة بغداد، ليرتفع العدد إلى 11 مختاراً قتيلاً من النواحي الثلاث (القيارة والشورة وحمام العليل) خلال هذا العام فقط. غسان عبدالجبوري، وهو في عقده الثالث يقول أن أفراداً من عشيرته في حمام العليل (35 كيلومتراً جنوب الموصل) يتولون حماية ونقل النفط ومنتجاته هناك. ويعزو امتهانهم، وحتى هو في وقت من الأوقات، هذا العمل، إلى البطالة الكبيرة المتفشية منذ سنة 2003، «فلا خيارات أمامنا سوى الانخراط في سوق النفط السوداء، أو ضمن صفوف داعش». ويمتد نشاط أبناء هذه القبيلة إلى المنطقة الغربية من مدينة الموصل التي تعج بمعامل تكرير نفط بدائية متنقلة، ينتج الواحد منها حوالى ثلاثين برميلاً كل يوم، بطاقم عمل يزيد عن عشرة أشخاص بإشراف مهندس وبمعدل أجر يومي يبلغ حوالى 25 دولاراً أميركياً، وفق مصادر من المنطقة، منها زاهد مصطفى، وهو نائب ضابط في الجيش العراقي السابق، يملك مكتباً لبيع النفط في الموصل. ويقول مصطفى أن داعش أنشأ «ديوان الركاز» (يماثل وزارة النفط والثروات الباطنية) يشرف على إنتاج النفط ويقوم بنقل جزء منه إلى سورية، وتزويد أكثر من ألفي مولد كهرباء ديزل أهلي بالنفط الخام في نينوى بسبب شحة الكازويل، وهو ما يؤمن لمواطني الموصل جزءاً من الكهرباء يومياً. ويؤكد الرجل هو الآخر أن «الجهد البشري الذي يدير هذه الإمبراطورية النفطية، أو حتى الممثل بديوان الركاز، قوامه أفراد من الجبور». تلك الماكينة الاقتصادية المرتبطة بالعشائر، هي التي تمكن التنظيم من توفير المشتقات النفطية وبأنواع متفاوتة، فسعر البنزين وفق جودته، يتراوح بين 1000 و1700 دينار للتر الواحد، ويبلغ سعر وقود محركات الديزل حوالى 1000 دينار للتر الواحد، ويتراوح سعر عبوة الغاز السائل بين 30-35 ألف دينار. وقال دانييل غليزر، وهو وكيل وزارة الخزانة الأميركية لتمويل الإرهاب في مكتب الإرهاب والاستخبارات المالية، لوكالة اسوشييتد برس قبل أيام، أن عائدات النفط لتنظيم الدولة الإسلامية تصل إلى حوالى 500 مليون دولار سنوياً، استناداً إلى أدلة مقدمة تشير إلى أن التنظيم يجني 40 مليون دولار في الشهر الواحد منذ أوائل عام 2015. كما يعتقد أن التنظيم يجني أيضاً مئات الملايين من الدولارات سنوياً من «الضرائب» على الأنشطة التجارية في المناطق التي يسيطر عليها. كما أن التنظيم يفرض سيطرته في الوقت الحاضر على 11 حقلاً نفطياً في العراق وسورية، وينقل النفط المستخرج من هناك بواسطة شاحنات إلى الأسواق السوداء في الأردن وتركيا والعراق. بهذا الترتيب المناطقي القبلي المذكور أعلاه، تتوزع ثروة «داعش»، وبهذا الترتيب أيضاً دخلت قواته الموصل واستمرت في تقدمها الكاسح خلال أيام قليلة فقط، لتبلغ قضاء بيجي التابع لصلاح الدين (حوالى 200 كيلومتر جنوب الموصل). وقد أتى على ذكر هذا تقرير نتائج تحقيق اللجنة البرلمانية المكلفة بتقصي حقائق سقوط الموصل ويؤكده كذلك شيوخ عشائر من هذه المناطق، وقادة أمنيون كان لديهم تواجد هناك. وفي المحصلة، فإن الوجه الاقتصادي للموصل بعد حزيران 2014 والحركة التجارية في نواحيها، لم تكن فقط مصدر تمويل ل «داعش» بل إنها ساهمت بإبقاء المدن التي ترزح تحت سيطرة التنظيم وسكانها أحياء طوال الشهور السابقة. ويقول أحد المهندسين الذين عملوا في مجال تكرير النفط من الموصل واسمه «أحمد» ان ازدهار مصافي النفط المحلية، بالإضافة إلى حركة تجارة المشتقات النفطية والسلع عبر سورية وتركيا كان لها دور أساسي في منع كوارث إنسانية كان يمكن أن يتعرض لها الأهالي، لكنها في وجه آخر، مثلت موارد جيدة للتنظيم، ساهمت في إبقاء زخم معاركة ومضاعفة قدراته المالية. العشائر وإنقاذ الموصل عضو مجلس النواب العراقي عن محافظة نينوى انتصار الجبوري، دعت إلى الاستفادة من تجربة الصحوات الناجحة في العام 2006 لكسب ولاء العشائر، وطالبت بتوفير الدعم العسكري لأولئك، لاسيما النازحين منهم، وتقول إنها «متأكدة من أن ذلك سيحفز باقي أبناء العشائر على إحداث ثورة تطرد داعش إلى الأبد». سيطرة «داعش» على العشائر وتسخيرها لتعزيز قوته، يبرزان في كل المجالات، فقبل أسابيع ومع اختيار ابن عشيرة البوحمد نوفل العاكوب محافظاً لنينوى، جاء رد «داعش» على ذلك سريعاً، فنشر مقطع فيديو يظهر شيخ العشيرة طلال العاكوب وهو يعلن البراءة من المحافظ الجديد و «يجدد» البيعة ل «داعش». المحللة السياسية وجدان نافع ترى أن معالجة مشكلة التورط العشائري مع «داعش» بالحسابات العسكرية وحدها «دوران في حلقة مفرغة»، لن يجد معها الباحثون عن حلم الاستقرار أي ضوء في نهاية النفق. فجميع الأسباب التي أدت إلى تعاون العشائر مع التنظيم المتطرف ما زالت برأيها قائمة، «كالاضطهاد الذي يشعر به أبناء السنّة، وغبن الحقوق، وفقدان الحضور على مستوى البلاد، بل وأضيفت إليها أسباب أخرى مع تدمير البنية التحتية في نينوى». وترى نافع أنه إذا نجحت القوات العراقية ومعها التحالف الدولي في شطب وجود «الدولة الإسلامية» من نينوى، سيظهر غيره لا محالة، مع استمرار الظروف الموضوعية سياسياً واقتصادياً وثقافياً التي ساهمت في ظهور «داعش». * أُنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج)، إشراف كمي الملحم.