تقضي «مهندسات القط العسيري» نحو سبع ساعات يومياً وهن ينقشن بأيديهن التفاصيل الدقيقة، لتقديم جدارية لمبنى الأممالمتحدة في مدينة نيويورك الأميركية، بعنوان: «بيوت أمهاتنا»، بطول 18 متراً. ويبلغ عدد المهندسات 13 فنانة مختصات بكل معاني وموروثات هذا الفن. حملت كل منهن فرشاتها وجاءت لتخط بيدها فقرة في هذه اللوحة، التي ضمت مكونات هذا النقش من الختمة، والبترة، والحظية، والبلسنة، والعُمري، والسكروني، وأرياش، وبنات. ويمثل كل لون من هذه الألوان خاصية لونية وشكلية معينة، ولكل شكل دلالة بيئية أو شعورية. وتعتبر الفنانات الجدارية حلماً وفرصة جوهرية لإحياء فنهن الذي يعود إلى مئات السنين، وإعادته إلى الأذهان، وإيصاله إلى العالمية، والحفاظ عليه من الاندثار. ولن تقتصر مهمة الفنانات على الجدارية، بل سيقدمن معرضاً فنياً، لإيضاح دور المرأة في تكوين وأرشفة التاريخ المحلي بمنطقة عسير. وقال المشرف على المشروع المهتم بالتراث الأديب المهتم بهذا الفن علي مغاوي: «قصة القط قديمة وضاربة في التاريخ، ويعتبر مشروع «بيوت أمهاتنا» بمثابة الدفع باتجاه إعادة هذا الفن إلى الذاكرة»، مضيفاً: «كنت أخطط مع زوجتي الفنانة فاطمة الألمعي لإقامة جمعية لحفظ التراث وتأصيله، لولا وجود عقبات، لكني لم أتوقف عن حب هذا الفن أو الترويج له، ولذلك وافقت على الإشراف على المشروع الذي كان من فكرة الدكتور أحمد ماطر وزوجته الفنانة أروى». وما أن تشكلت الفكرة وبرزت إلى حيز الوجود حتى تم تشكيل فريق عمل مكون من 13 فنانة، إضافة إلى لوحة أخرى تقوم أسرة الفنان الدكتور أحمد ماطر ووالدته وأخواته وغيرهن من الفنانات بتنفيذها. واعتمد مغاوي في تنفيذ العمل على خطته البحثية التي عمل خلالها لتنفيذ كتاب مصور عن القط، وشملت محافظات منطقة عسير كافة،؛ شمالها وجنوبها وشرقها وغربها، اطلع خلالها على إشكال القط القديمة، التي تعود إلى أكثر من 200 عام، ووضع خطة عمل لتشمل اللوحة القديم والجديد في هذا الفن، بما يعبر عن ذائقة الإنسان العسيري في المنطقة. وأبان أنه أطلع فريق العمل على النقوش، واستعان بعدد من الفنانين، منهم إبراهيم فايع، وأحمد نيازي هو صاحب أكبر مكتبة من الصور الفوتوغرافية. وتابع: «تتم متابعة العمل وتوثيقه مع الفنانات بشكل يومي، لإنجاز هذا العمل بنهاية تشرين الأول (أكتوبر) الجاري». وعن دور الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني قال: «الهيئة أكدت دعمها المشروع من خلال برنامج الحرف الوطنية «بارع»، بقيادة المشرف على البرنامج الدكتور جاسر الحربش، والمدير العام للهيئة في عسير المهندس محمد العمرة». وأشار إلى تعرض القط لجريمتين؛ أولاهما أن المعروض منه خلال السنوات الماضية كان يتم بأيدي عمال وافدين، ما أفقد هذا الفن روحه، لجهلهم بمفرداته وتاريخه، وتعاملهم المسيء مع هذا الفن. والأخرى ناتجة عن هرب الناس من القديم وبحثهم عن الجديد، حتى اقتصر الإقبال على هذا الفن على الوفود الأجنبية الذين يقتنون من المتاحف بعضاً من القطع الفنية ويقدرونها، لافتاً إلى أن الجريمتين «عطلتا تطوير هذا الفن». بدورها، أشارت مدربة النقش فاطمة الألمعي إلى أن عسير اشتهرت ببيوتها التراثية الجميلة، وطرق تجميل المعمار الخارجي والداخلي، وجدران غرفها وأركانها الملونة بأيدي نساء المنطقة، ما جذب اهتمام الزوار والسواح. وذكرت أن قرية ألمع انفردت بكثير من الجمال الطبيعي والطراز المعماري والنقوش العسيرية، مبينة أن الفنانات يتفقن على خطة العمل لرسم خطوط ونقوش وتشكيلات جمالية. وعادت بالذاكرة إلى الوراء، قائلة: «الألمعيات لم يتعلمن هذا الفن في مدارس فنية أو معاهد متخصصة، لكنه من وحي الواقع، فكل لون يمثل إحساساً معيناً، وكل شكل يرمز إلى شيء حل في النفس واستقر في الأعماق. وأنا تعلمت هذا الفن من الفنانة بالفطرة فاطمة أبو قحاص، وما شاهدت من نقش شريفة أحمد، وفاطمة امزهرية، ومنشغلة الراقدي، رحمهن الله جميعاً، وكان لهذا دور كبير في تخليد هذا الفن، الذي يسمى بالنقش». من جهتها، أوضحت الفنانة زهرة فايع الألمعي أن «النقش الألمعي يستمد خاماته من الطبيعة، ويستخدم في تزيين المنازل والجدران والأدوات المنزلية». وقالت: «تشكل هذه النقوش على الأواني المنزلية والتحف لتعطيها جمالاً مميزاً»، مؤكدة أن هذا الفن لا يستخدم الأشكال الواقعية من ذوات الأرواح. وعن أهم ما يميز النقش الألمعي، أفادت أنه يمتاز بالألوان الطبيعية؛ مثل الأزرق والبرتقالي والأخضر والأبيض والأسود، وكانت المرأة قديماً تستخرج هذه المواد اللونية من الطبيعة لتزين منزلها، ما يؤكد الحس الفني للمرأة في عسير، وشعورها المرهف، وتحسسها جماليات الطبيعة، مضيفة: «هذا الفن يعود النفس على الصبر وتذوق الجمال، فأنا أقضي ساعات طويلة في رسم منقوشات القط على الأواني والتحف في منزلي، وأشعر بالفخر لتعلمي هذا الفن». أصغر نقاشة تعلمت من الأمهات والجدات ونقلته إلى المدرسة تعد نوارة مغاوي أصغر نقاشة، فهي تبلغ من العمر 13 سنة، وتعلمت هذا الفن من الأمهات والجدات، ونقلته إلى مدرستها ولوحاتها الفنية. وما تزال تستفيد من الدورات التدريبية التي تقدمها أشهر المبدعات في هذا الفن. بدورها، قالت الفنانة فوزية بارزيق: «إن تفانينا في العمل يهدف إلى الحفاظ على هذا الفن من الاندثار، فهو يمثل هوية المنطقة»، مؤكدة أن كل فنانة وضعت في هذه اللوحة «لمساتها وإحساسها الخاص بروح وذائقة جماعية». وذكرت الفنانة التشكيلية حليمة عسيري أن هذا الفن «يعكس حضارة وتراث منطقة عسير»، مشيرة إلى استفادتها منه في أزيائها ولوحاتها التشكيلية. وقالت: «يجب الحفاظ على هذا الفن من خلال تنفيذ دورات تدريبية للفتيات والفنانات لتعلم أسرار هذا الفن الذي يعتمد على الزخرفة بشكل هندسي وبنقوش، امتداد للفن الإسلامي، وهو ينتقل بالوراثة، وتجيده معظم النساء، ولا يخلو منه أي بيت عسيري قديم، فتجد الجداريات الجميلة المزخرفة بألوان وأشكال تجمع بين البراعة والحس الفني والدقة في تصميمها، وبأدوات كلها من إنتاج البيئة نفسها، وهي تبرز مدى امتلاك المرأة العسيرية الذوق، والحس الفني والهندسي أيضاً». ورأت صالحة الألمعي أن «البيئة التي عاشتها المرأة في عسير انعكست لتكون لوحات شعبية رائعة، وقالت: «لقد استخدمت الألمعية في عمل هذه النقوش الألوان التي تستطيع تكوينها من خلال العناصر الموجودة في بيئتها». يذكر أن فكرة المشروع قدمها الفنانون أحمد ماطر، وأروى النعيمي، وستيفن ألكسندر المهتم بالفنون العربية، وبتنظيم ودعم من مؤسستي «آرت جميل» و«إيدج أوف آرابيا» وكاثي سيلي من معهد الشرق الأوسط. ويشرف عليه الكاتب والباحث في التراث العسيري الأديب علي مغاوي، بمشاركة الفنانات: شريفة محمد، وفوزية محمد، وفاطمة فايع، وزهرة فايع، وجميلة الصغير، وصالحة الألمعي، وعهود إبراهيم، وأروى محمد، وحليمة عسيري، وصالحة الراقدي، وعهود مغاوي، وفوزية بارزيق، ونوارة عبد الرحمن، إضافة إلى المتحمسات اللاتي يترددن على مكان العمل للتعاون مع فريق العمل.