بعد أن تناولت حلقة الأمس الهويّة الباردة التي يحوّلها التنازع السنّيّ – الشيعيّ هويّة ساخنة، هنا حلقة ثانية: ينطوي كلّ تفاؤل على قدر من الإنكار. وهذا معهود في اللبنانيّين عموماً حين يتحدّثون عن «العيش المشترك»، غاضّين النظر عن كمٍّ من التناقض في الواقع ومن النزاع في التاريخ. وميلٌ كهذا، وإن استوطنه قدر من البراءة، يستجيب تطلّباً إنسانيّاً غالباً ما تناولتْه الأمثلة و «الحِكم» حين ربطت بين الأمل واستمرار الحياة. مع ذلك، ثمّة لحظة يعلو فيها نذير الخطر حتّى ليغدو، على نحو مفاجئ، واقعاً ساطع الوضوح. مع لحظة كهذه يمسي الإنكار مستحيلاً. تلك اللحظة اسمها، في صيدا، الشيخ أحمد الأسير. ولا بأس، هنا، بملاحظتين أوّليّتين: الأولى، أنّ الأسير ليس التعبير الأوحد عن التديّن السياسيّ في «عاصمة الجنوب»، ناهيك عن مخيّم عين الحلوة الذي يعجّ بمثل هذا الاختلاط الدينيّ - السياسيّ. فهناك مثلاً جماعة «قوّات الفجر» المتفرّعة عن «الجماعة الإسلامية»، والتي والت الداعية الطرابلسيّ الراحل فتحي يكن ومشت في ركاب «حزب الله». هؤلاء، وبسبب خيارهم السياسيّ المذكور تحديداً، لم يحوّلهم تديّنهم إلى ظاهرة ملحوظة. أمّا الثانية، فإنّ الصيداويّين، لا سيّما منهم الذين يتوزّعون على النصف الأعلى من الهرم الاجتماعيّ، ينظرون إلى الأسير بكثير من التنصّل والتعالي. فهم، وبما يشبه نظرة المصريّين الأغنى والأكثر تعلّماً إلى رئيسهم السابق محمّد مرسي، يخجلون بأن يكون الأسير ممثّلاً لهم. والحال أنّ ديناميّات التنصّل والتعالي تتّخذ صيغاً عدّة. فهو، عند البعض، ظاهرة صنعها الإعلام، لا سيّما التلفزيون، منذ 2008 حين انتقل من مجرّد داعية ليباشر الإدلاء بدلوه في الشأن السياسيّ. وهو، عند البعض الآخر، لا يمثّل شيئاً على الإطلاق، بمجرّد هزيمته العسكريّة في مسجد بلال بن رباح، أواسط العام الماضي، انتهى أمره. وبين طرفي البداية والنهاية، يؤخذ عليه أنّه شديد الغباء، قاده غباؤه إلى مصادمة الأطراف جميعاً، كما أفضى به إلى الصدام بالجيش الذي يلتفّ حوله الصيداويّون. والتنصّل المصحوب بالإنكار يتّخذ أشكالاً أخرى، منها أنّ «الأسير معه فلسطينيّون»، ومنها أنّ الاستياء الذي عمّ صيدا لم يكن بسببه، بل لأنّ مناطق قُصفت خارج دائرة المواجهة، وشبّاناً قُتلوا لم يكونوا معه ولا كانوا مسلّحين، فضلاً عن تدخّل «حزب الله» في القتال ودخول عناصره بيوت الصيداويّين الآمنين». ويمضي الراوي مدعّماً حجّته: «قالت قيادة الجيش في بيان إنّها لم تستخدم المدفعيّة، لكنّ المدفعيّة استُخدمت ولم يقل أحد إنّها مدفعيّة «حزب الله». ولا يخلو السرد من تذكير بأنّ الأسير نفسه وبعض أقطابه هم ثمار زيجات مختلطة، حيث الأب سنّيّ والأمّ شيعيّة. هامشيّة ودونيّة والحجج هذه ليست مجرّد تنصّل وإنكار، إذ تنطوي أيضاً على وجاهة يصعب تجاهلها وإن خضع استخدامها للتحوير. وفي وسع لقاء عابر ب «الشيخ» الأسيريّ أبو فيصل الددا أن يبيّن الهوّة التي تفصل الأسيريّين عن رموز النخبة الصيداويّة جميعاً. وهو ما يتّضح في الملبس والمظهر واللغة المستخدَمة التي تساقطت من كتب صفراء قديمة. و «الشيخ» الددا لا يقتصد في عرض مظلوميّته ومظلوميّة من يمثّل حيال عالم يراه ظالماً. ف «هم ما زالوا يوقفون الشباب لمجرّد أنّهم يصلّون في مسجد بلال بن رباح، حتّى أنّ بعضهم لم يعد يذهب إلى المسجد، إذ إن الذين استدعوهم لم يعودوا». وهو، بعد أن يرفع عدد المعتقلين إلى «مئة شابّ»، ينمّ عن وجه آخر من وجوه الهامشيّة التي ترسّم، من تحتٍ، مسافتها عن المتن العريض. ف «الشيخ»، الذي يعمل في تركيب الموكيت، يثني على جميع سياسيّي صيدا الذين طالبوا «بمحاكمة الشباب أو إطلاق سراحهم»، حريصاً على مراضاة الجميع، من دون أن ينسى تسبيق كلّ اسم يذكره بصفته الرسميّة المبجِّلة، من «فخامة الرئيس» إلى «سعادة النائب»، مضيفاً أنّه كان «طول عمره» في جانب «الرئيس الشهيد رفيق الحريري». لكنْ حين يُسأل عمّن هم خصومه، يؤكّد أنّ «مشكلتنا مع حزب إيران»، وهنا يرتفع صوته ويكتسي نبرة خطابيّة وحماسيّة. على رغم ذلك، كانت ظاهرة الشيخ الإكزوتيكيّ أحمد الأسير الصيغة التي تجلّى فيها التنازع السنّيّ – الشيعيّ على أشدّه. فهو استجاب لواقع لم يخترعه، فكان تمريناً يسكنه شيء من الكاريكاتوريّة على نزاع ليس البتّة كاريكاتوريّاً، وكان بالتالي تأجيجاً لمشكلة أراد الصيداويّون، في وقت واحد، إنكارها وإحياءها. فحينما حُلّت بالطريقة العنفيّة التي حُلّت بها، تعايش في الرواية الصيداويّة مستويان: فعلى سطح الكلام راحة الإعفاء من الورطة التي مثّلها الأسير شخصاً وقضيّةً، أمّا تحت ذاك السطح فمرارة المعاملة التي لقيتْها صيدا. يكفي، مثلاً، على ذاك التقاطع العريض الذي نشأ بين الأسير ومدينته أنّ الشيخ ماهر حمّود، وهو خصم له، قال عنه بالحرف الواحد: «قبل أن يقطع الطريق حصل على تعاطف من الصيداويّين تصل نسبته إلى 50 في المئة». وحين يعترف حمّود ب50، قل إنّ النسبة اقتربت من 90. فأكثر من صيداويّ يُجمع على أنّه قضم بعض أطراف الزعامات القائمة، لا سيّما الزعامة الحريريّة، وكان جزء كبير من المُصلّين وراءه حريريّين يعانون فراغهم القياديّ، وأنّه «لو لم يستخدم السلاح لتجمّعت في يديه قوّة أكبر». غير أنّ الحجّة الأكثر دلالة التي تردّدت على أفواه البعض هي أنّ «الأسير كان ليقوى كثيراً لو اختار أن يقاتل «حزب الله» بدل قتاله الجيش». ولا يتمالك السامع أن يطرد من رأسه تأويلاً آخر لأسيريّة بعض أبناء الزيجات المختلطة، وهو منهم، كأنْ يكون تسمّم التعايش على النطاق الأعرض انعكس هو نفسه على العائلات الصغرى ودواخل البيوت. الفراغ القياديّ لقد التفّ حول الأسير شبّان صيداويّون مطعّمون بشبّان فلسطينيّين وسوريّين معدمين. وهم قليلو التعليم وفدوا متأخّرين إلى التديّن. لكنّ الحاسم، كما يرى نهاد حشيشو، أنّ العشرات من معتَقَليهم اللاحقين من أبناء عائلات صيداويّة معروفة. بيد أنّ الأسير تمكّن أيضاً، على رأس مئات قليلة من أنصاره الشبّان، من مخاطبة قلّة من الأغنياء جنى معظمهم ثرواتهم في المهاجر وعُرفوا بالتعصّب ضدّ الشيعة. كذلك تزنّرت حركته بنطاق من الدعم شمل صاحب مطعم الفول وصاحب محلّ السمانة وبعض أصحاب المهن الصغيرة القلقين حيال المستقبل والمنزعجين من منافسة شيعيّة مستجدّة حيث القيام بالأوَد مهمّة صعبة. ولم يخل الأمر من موظّفين صغار في مؤسّسات تنتسب إلى القطاع الحديث حيث تملك الحريريّة اليد الطولى، كما استمال شباناً من الطبقة الوسطى والمتعلمين وجدوا فيه رداً على خيبات الأهل العروبيي الهوى، ملبّياً حاجة الأبناء ليكونوا «مسلمين» ومواكبين لمتطلبات الحداثة في آن واحد. وما من شكّ في أنّ الوقوف إلى جانب شخص كالأسير مُحرج لزعماء صيدا، لا سيّما وقد حارب الجيش وحاربه. مع ذلك، فلغته المناهضة ل «حزب الله»، وضمناً للشيعة، تبقى أمراً يطرح إشكاله المعقّد على الجميع. ويكاد يبدو للمراقب أنّ الأسير، بالخفّة التي ينمّ عنها، إنّما قام ببعضٍ من وظائف سواه، كما أعلن، ولو على نحو فضائحيّ، ما هو مسكوت عنه. لا بل يلوح أنّ الموقع الذي احتلّه إنّما نجم، إلى حدّ بعيد، عن فراغ قياديّ تعانيه صيدا يختلط فيه الغياب بالصمت. فالنمط البدئيّ (البروتوتايب) لنموذج الزعيم الصيداويّ يسكنه التطبيب الإنسانيّ لنزيه البزري، والشعبويّة الآسرة لمعروف سعد، والقيم الأهليّة التي تمسّك بها رفيق الحريري بعد تحوّله مليونيراً ثمّ سياسيّاً. وتلمس لمس اليد في صيدا أنّ سعد الحريري غائب تماماً، وفؤاد السنيورة مخصّصٌ للشأن البيروتيّ، فيما بهيّة الحريري، التي يثبّتها المجتمع الذكوريّ في موقع صعب أصلاً، مقيمة في قصر بعيد نسبيّاً، في مجدليون يجعلها على نقيض تام مما اعتاده الصيداويون في زعمائهم من سكن وسط الحارات وبيوت بأبواب مشرّعة. أمّا نجلها أحمد الذي رأى فيه بعض الصيداويّين شيئاً من عفويّة معروف سعد وقربه، فانتقل إلى العاصمة أميناً عامّاً لتيّار المستقبل. الأمس مبشّراً بالغد ومن هنا وهناك تتجمّع سيرة لأحمد الأسير تشي بعديد التناقضات الصيداويّة، تنصّلاً وتلاحماً، وفتوراً وحماسة. فالشيخ الذي انتهى به المطاف زوجاً لامرأتين، بدأ حياته العامّة شابّاً منضوياً في «الجماعة الإسلاميّة». إلاّ أنّه تركها، أوائل التسعينات، لأنّهم «يشتغلون سياسةً بدل أن يهتمّوا بالدين وحده». أمّا معيشيّاً فعمل فرّاناً ثمّ مصلّح تلفزيونات وفيديو. غير أنّه، في أوائل التسعينات أيضاً، توقّف عن مزاولة هذه المهنة كي يتجنّب التعامل مع فيلم بورنو مخبّأ في هذا التلفزيون أو ذاك الفيديو. ذاك أنّ أوائل التسعينات هي الفترة التي انضمّ فيها الأسير إلى «جماعة الدعوة والتبليغ»، فلبس الثوب الباكستانيّ الذي لم يكن يلبسه أحد في صيدا. فالجماعة المذكورة إنّما أسّسها، أواسط العشرينات، الهنديّ المسلم محمّد إلياس الكاندهلوي لتتركّز قوّتها لاحقاً في باكستان. ومن القليل المعروف عن تلك الجماعة نشر الدعوة وردّ المسلمين المتراخين في دينهم، أو المتخلّين عنه، إليه. في هذه الغضون درس الشيخ الشابّ في كليّة الشريعة في دار الفتوى، لكنّه لم يكمل تحضير الماجستير بحجّة «تفاهة الموضوع» الذي كان يُفترض به تحضيره. ومن غير أن يُعرف بأيّ اجتهاد، أو بإلمام مميّز، طوّر تدريجاً طريقة ليّنة وانتقائيّة في أحكامه. هكذا وجد الكثيرون في فتاواه ما يسهّل عليهم إسلامهم وما يوفّق بين حياتهم، بالقدر الأقلّ من النواهي والإدانة، وبين التديّن. وكان أبرز ما أكّد عليه أنّ الدعوة لا يلزمها العلم الدينيّ الغزير، إذ هي نفسها ما يجعل صاحبها مؤهّلاً دينيّاً. وربّما اضطلع التأويل الرحب هذا بضمّ أشخاص كالمطرب فضل شاكر ومريديه الذين يقول الأسيريّون الأشدّ أرثوذكسيّة بأنّهم «مجرّد زعران، لا علاقة لهم بالدين ومعرفته من قريب أو بعيد». وبتغليب الشيخ الممارسةَ على النظريّة، شرع يعارض آراءه الأولى التي أبعدته عن «الجماعة الإسلاميّة» في ما خصّ الاقتصار على الدين دون السياسة. غير أنّه، في هذا، حمّل مجموعة من الشبّان ثقافة ملخّصةً عن الأمس قبل أن يطلقهم مبشّرين بما يراه الغد الإسلاميّ الحقّ. مثل هذا التأويل، كائنة ما كانت صلته ب «الدعوة والتبليغ»، جالبٌ لشعبيّة لا يوفّرها الطرح الدينيّ الرصين. والحقّ أنّ الحاجة إلى الشعبيّة والتأثير في الشأن العامّ كانت تلحّ يومذاك، في ظلّ الصعود الشيعيّ، أكثر ممّا تلحّ الرصانة والدين القويم. فهو كان منشغلاً بإرجاع «المتشيّعين» سياسيّاً من السنّة، من المأخوذين بالمقاومة، إلى السنّيّة، وكان للغرض هذا يزورهم ويزور قراهم القريبة من صيدا. وربّما بتأثير مترسّب عن «الدعوة والتبليغ» رأى إلى محاربة «حزب الله» بوصفها، أيضاً، واجباً دينيّاً. فالشيخ الذي يقبل بالشيعيّة «فرقةً من فرق الإسلام»، لا يستسيغ أن يرى «حسن نصر الله وإيران يتحدّثان باسم الإسلام». فحين اصطدم، في 2009، تحريم المشاركة في الانتخابات «الوضعيّة» بتحدّيات السياسة اليوميّة، انتخب الأسيريّون بغزارة كلاًّ من فؤاد السنيورة وبهيّة الحريري، غاضّين النظر، تحت وطأة الضرورات، عن المحظورات. وعلى الدوام كان إحباط الجمهور الحريريّ بزعامته يوسّع مساحة الأسير الذي راح، من مسجده، يعد تابعيه بالنصر، أو يخيّرهم بين الموت واقفين على أقدامهم والموت راكعين على رُكبهم. وهي لغة تعالت وتصلّبت مع الثورة السوريّة والانقسام حولها، فيما كان الصيداويّون، لا سيّما أبناء الفئات الوسطى، يعالجون «سحر» الشيخ على أبنائهم بكثير من القلق، فيما «يتفهّمون» ظاهرة الشيخ «الساحر». وفي ربيع العام الماضي، شهد التصعيد نقلة أخرى. فبعد مقتل شابّين في منطقة التعمير، أعلن «الساحر» عن إنشاء «كتائب المقاومة الحرّة» فيما أفتى ب «الجهاد» في القصير بسوريّة. وقد أمّن الشروطَ الماديّة لعسكرته من مساهمات ماليّة قدّمها مليونير مهاجر ومفتون به، من آل العلايلي، ومن تبرّعات ذاتيّة يوفّرها أنصاره، فضلاً عمّا تحصّلَ له من بيعه منزله بمليون دولار أنفق معظمَه على القضيّة. وفي ليلة القدر بات معظم المصلّين في صيدا يتجمّعون في مسجد بلال، ما أثار حسد باقي أئمة المساجد وكرههم. لكنّه حين اعتصم في المسجد، وكانت تلك بداية السير في الطرق الوعرة، لم يجد حوله سوى عشرات قليلة من المعتصمين الذين راحوا يتناقصون. لقد أراد الصيداويّون شيئين نقيضين في واقت واحد. هكذا بدأوا رحلتهم معه بالتفاف لا يخلو من خجل، وأنهوها بالخذلان.