في الوقت الذي كان الجيش اللبناني يتقدم باتجاه مسجد بلال بن رباح في منطقة عبرا شرقي مدينة صيدا حيث كان يتحصن الشيخ أحمد الأسير قبل أو أثناء فراره مع المطرب السابق فضل شاكر، كانت مجموعات من «سرايا المقاومة»، وهي ميليشيا صيداوية وفلسطينية سلحها وموَّلها حزب الله، تعيد علم حزب الله إلى ناصيته التي كان انتزعه عنها الشيخ الأسير قبل أشهر في حي تعمير عين الحلوة جنوب شرق مدينة صيدا. علماً أن عملية انتزاع العلم عن تلك الناصية أدت إلى مقتل عنصرين من جماعة الأسير في حينها، لكنها أدت أيضاً إلى انكفاء مجموعة «السرايا» عن المنطقة، ولجوئها إلى مناطق أخرى من المدينة. إعادة علم حزب الله على وقع تقدم الجيش اللبناني باتجاه المسجد يؤشر إلى الوجهة الشعورية التي رافقت الصيداويين في يوم فرار شيخهم الجانح، فكل شيء في المدينة كان مصاباً بالذهول في ذلك اليوم. لا، لم يكن هلعاً ما ارتسم على وجوه الصيداويين في ذلك اليوم الأسود، فالخوف من الحرب شعور عابر لطالما اختبره سكان المدينة منذ عقود طويلة. ما أصابهم كان أشبه بيوم الاحتلال، ذاك أن ما يجري في مدينتهم هو بالنسبة اليهم انتزاع حقهم بالتأثير، ومجيء زمن لا يعرفونه، وما الجيش اللبناني بالنسبة إليهم في ذلك النهار سوى أداة لحزب الله، تولى مهمة القضاء على ظاهرة لا تمثل الصيداويين، لكنهم يشعرون أن القضاء عليها فعل انتقائي وغير معمم. لطالما شهدت صيدا ما شهدته نهار الإثنين الفائت خلال العقود الأربعة الأخيرة. والغريب أن المدينة تكرر ردود الفعل الداخلية عينها. الحياة يمسها شيء من الموت والبطء، وتتسع المساحات الداخلية للهو أطفال لم تعد البيوت تتسع لضجيجهم، وتقفل المطاعم وتفتح الأفران، فيقبل الفتية على أكل المناقيش. ومن الغريب أيضاً أن القادم إلى صيدا في يوم حربها سيعثر أمام المحال وعند تقاطعات الأحياء على الوجوه نفسها لفتية وشبان من غير المقاتلين يجلسون مستعينين بخوف قليل لطرد احتمالات الضجر. ليست الوجوه نفسها، قال الرجل الذي زار المدينة في الحرب التي سبقت هذه الحرب، إنهم الأشقاء الأصغر لتلك الوجوه. هذا الشاب قال إن اسمه عبد الحكيم الحلاق، إنه شقيق عبد الرزاق الحلاق الذي أصيب في المكان عينه عندما دخل الجيش اللبناني إلى المدينة في العام 1990. هو يشبهه كثيراً، ويعمل مثله بائع عصير. إنهم مجبرون على اعتبار أن الهجوم على الأسير يمس شيئاً من كرامتهم. هم لا يحبون الأسير، ولا يشعرون انه يمثل شيئاً فيهم، لكن الحملة على إمام مسجد بلال بن رباح هي جزء من رغبة حزب الله في الاستيلاء على المدينة. هذا ما قاله كثيرون في صيدا ذلك اليوم. وهذا الارتباك تُضاعف منه حقيقة أن المعركة تجري بين الأسير وبين الجيش اللبناني، وكم كانوا يتمنون لو أن مشاعرهم تُسعفهم في الوقوف مع الجيش، لكنهم عاينوا ميدانياً كيف أن ميليشيا «سرايا المقاومة» رافقت الجيش في حربه هذه، وقُتل عدد من عناصرها في هذه الحرب، والأهم كيف أن هذه الميليشيا استولت على الأحياء في يوم الهجوم، بما يوحي بأن المدينة انتقلت من حال إلى حال، ومن سلطة إلى سلطة، وأن الأسير ليس فقط ذلك الشيخ المخطئ والجانح والمتهور، إنما هو أيضاً قشرة علاقات محلية نجح حزب الله في القضاء عليها. يجري هذا في الوجدان الصيداوي، ويجري أيضاً نكران هذا والاستعاضة عنه بتوريات أخرى، من مثل ما يقوله كثيرون، ك «نحن مع الجيش اللبناني في السراء والضراء». والاستجابة الصيداوية للحروب التي شنت على المدينة لطالما شابهت نفسها. تصمت الأحياء، وتعجز أمام السلطات الجديدة، فيما تصاب الفعاليات بالذهول قبل أن تستسلم لأقدار المدينة القادمة من خارجها. قد لا يصح ذلك إذا ما استعدنا حقيقة أن الأسير صيداوي، وهو ابن المدينة، وقتل معه عشرات من الصيداويين، وعدد كبير من «سرايا المقاومة» هم من الصيداويين! لكن المدينة فعلاً في مكان آخر، وجدانها والوجوه الخائفة والمنكفئة، توحي جميعها بشيء من «الاحتلال»، وهو شيء اختبرته صيدا أكثر من مرة، فما إن يحل حتى يغزو الوجوه ويبث الحيرة، فيما يرتفع منسوب الغبار بعد أن يستبيح الفتية المحبطون، مستفيدين من اهتزاز السلطة، ما تبقى من مساحات ترابية كانت إلى الأمس القريب بساتين ليمون، وها هي اليوم تستعد لأن تتحول إلى أبنية غير أنيقة. إنه يوم انقلاب في المدينة، المتحدثون أينما وجدوا يشيرون إلى «سرايا المقاومة»، ويقصدون بها مجموعة الفتية التي سلحها حزب الله، والتي جمع عناصرها من أطراف أحزاب حليفة له، ومن أطراف العائلات، ومن الهوامش المدينية التي نشأت في أحياء الاختلاط اللبناني الفلسطيني، فكان أن اشتبكت أول ما اشتبكت مع التنظيم الناصري، الحليف الأبرز لحزب الله في المدينة. نعم، تعتقد المدينة أن حزب الله استدرج الشيخ الجانح إلى ما وقع بالمدينة في الأيام الفائتة. هذا ما عبر عنه مسؤول الجماعة الإسلامية في المدينة بسام حمود، حين وصف الأسير بأنه رجل سريع الغضب ومتهور ومستجيب لأي استفزاز، وهو أمر أدركه الحزب وجرَّ عبره المدينة إلى تلك المواجهة، التي كان يعني أيُّ انخراط فيها وقوفاً في وجه الجيش اللبناني. وحمود، كما النائب بهية الحريري، حسما بأن «سرايا حزب الله» تشارك في أعمال القتال. والحريري التي كانت محاصرة في مجدليون في ذلك اليوم، تقدمت باتجاه منزلها مجموعات من الحزب وتمركزت على بعد أقل من مئة متر عنها. و«السرايا» التي يشير الصيداويون الى ضعف صيداويتها، هي الذراع المباشرة لحزب الله، فبعد أن عجز هذا الأخير عن إقناع حلفائه الصيداويين بالقيام بمهام قد تؤدي إلى اصطدامهم بوجدان المدينة، وعلى رأس هؤلاء الحلفاء كان التنظيم الشعبي الناصري الذي يقوده اليوم النائب السابق اسامة سعد، قرر أن يكون له ذراع صيداوية مباشرة. ولا يبدو اليوم أن التنظيم الناصري هو جزء من «الانقلاب»، على رغم أن التنظيم هو حليف حزب الله. فالصيداويون، ومن بينهم خصوم التنظيم، يفضلون الاعتقاد بأن من استباح أحياءهم في يوم هجوم الجيش على الأسير هم «سرايا المقاومة». وهم يرون أن حزب الله وراء كل التفاصيل. حزب الله قوة واسعة النفوذ وغامضة وقادرة على دفع الجيش لخوض معركة بالوكالة عنها. يُردد الصيداويون عبارة «حزب الله» كلما أرادوا الحديث عما يجري في مدينتهم، وحسبهم أن الحزب هو من استدرج الأسير إلى ارتكاب حماقة قتل جنود الجيش، والحزب هو من يُصدر الأوامر للجيش اللبناني، والحزب هو من سلح «السرايا»، وهو من يملك الشقق التي اشتعلت الحرب بسببها. وحُمى الحزب هذه تصطدم أثناء عصفها بالوجدان الصيداوي، بحقائق تؤكدها وأخرى تُضعف منها، لكنها في جريانها تكشف ان المدينة تهذي من النفوذ المتعاظم لحزب الله في أحيائها. هذيان أشبه بالأنين، لا يمكن تصريفه بالسياسة، ولهذا يشيح الصيداويون بوجوههم تارة باتجاه مخيم عين الحلوة، وتارة باتجاه مجدليون، التلة التي يقيم عليها آل الحريري دارتهم شرقي المدينة. وصيدا في يوم تقدم الجيش باتجاه مسجد بلال بن رباح كانت أيضاً تنتظر الأخبار القادمة من هناك. الناس كانوا على يقين ان شيخهم الجانح لن يصمد، وأنه ارتكب حماقة كبرى، لكنهم كانوا ينتظرون القتلى، الذين بدأت أرقامهم تلوح في المدينة. 30 قتيلاً، أو أربعين، معظمهم من صيدا وأبناء عائلاتها. «لقد اختاروا الأسير شيخاً لنا، وها هم يختارونه شهيدنا رغماً عنا، ونحن كمن أُسقط في يده»، هذه العبارة قالها مدرس من المدينة عندما بثت في ذلك اليوم محطة «نيو تي في» نقلاً عن «أو تي في» صوراً قالت إنها من مسجد بلال بن رباح، ليتبين لاحقاً أنها صور حسينية في العراق. والحال أن فعاليات المدينة لم تكن بحال أحسن من حال أهلها، فالوقوف إلى جانب الجيش كان خياراً لا بد منه، وإلا «نجح حزب الله في جر المدينة إلى مواجهة مع الأسير». وإذا كان إنهاء ظاهرة الأسير شرطاً لاستقرار المدينة، فإن قضية «سرايا المقاومة» لا تقل أهمية في انعدام الاستقرار، وهي الخطوة التي تقول الفعاليات إنها ستكون مدار نشاطهم في المرحلة التي تعقب مرحلة الأسير في المدينة. المهمة التي تطرحها فعاليات من المدينة على أنفسها لا يبدو أنها ستكون سهلة، ف «سرايا المقاومة» التي سلحها حزب الله ومولها، لم تمثل اختراقاً لنسيج منسجم في المدينة، فقد استثمر الحزب في الهامش الصيداوي، لإدراكه صعوبة أن يقاوم المتن الهامش في مدينة تعرضت على مدى عقود لارتجاجات عضوية في متنها السكاني والعمراني، ففي صيدا لطالما فصلت أخلاط اجتماعية تعاقبت الحروب على إنتاجها، بين مرحلة أمنية وأخرى. حركة فتح كانت أنشأت في ثمانينات القرن الفائت تنظيماً لبنانياً مشابهاً ل «سرايا حزب الله» وتولى قيادته في حينها محمد الغرمتي (أبو عريضة)، الذي عاد وأنشأ تنظيم الحرس الوطني الموالي لإسرائيل إبان احتلالها المدينة. جرى ذلك في منطقة صيدا القديمة. وأنشأت حركة فتح ومن بعدها إسرائيل جماعة أخرى في منطقة تعمير عين الحلوة بقيادة لبناني آخر من بلدة جويا الجنوبية هو حسين عكر، الذي قُتل لاحقاً في عملية للمقاومة، وكانت ميليشياه ضمت فتية الهوامش الصيداوية وأخلاطها. اذاً، لم يُحدث حزب الله بإنشائه «السرايا» خرقاً في بنية المدينة السياسية والاجتماعية، فهو استثمر في الهامش، لكنه الهامش القوي الذي لم يُقمه الحزب، إنما راكمته المدينة على مدى عقود طويلة من النزاعات. يروي الصيداويون أن عناصر «السرايا» هم من عائلات مختلطة صيداوية وفلسطينية، وأيضاً من عائلات جنوبية شيعية قدمت إلى المدينة منذ عقود طويلة ولم تحوها أطرها الاجتماعية والسياسية طوال تلك الفترة، إلى أن أتى حزب الله وأيقظ فيها ولاء قديماً لطالما شعرت بالحاجة إليه. ومرة أخرى، يبدو أن نزع سلاح هذه الميليشا متصل بما هو أكثر تعقيداً من إبعاد نفوذ الحزب عن المدينة، إنما في ظروف تراكمت على مدى عقود، فزائر المدينة في أزماتها سيسمع أسماء العائلات نفسها تتكرر أثناء تعداد أسماء عناصر «السرايا»، كما أن الأحياء التي ضمت ميليشيات الهوامش في العقود الفائتة عينها، تضم اليوم مجموعات «السرايا». ثم إن خروج «السرايا» من هذا الماضي ومن هذه الأخلاط سيساعد حزب الله على التفلت من أي قرار لنزع سلاحها، ذاك أن صيداويتها، وان كانت ملتبسة وضعيفة، هي حقيقة لا يمكن المدينة ان تُنكرها. إنها القوة التي قطعت أوصال الهويات المحلية وراحت تدمج على نحو عنيف بين مستويات شديدة الاختلاف والتفاوت، فأنشأت تعمير عين الحلوة وأسكنت فيه فقراء من مشارب مختلفة، وأخرجت سكان صيدا القديمة وأحلت مكانهم آخرين. حصل ذلك فيما كانت صيدا بعائلاتها وأحزابها وولاءاتها تنكفئ بين حدي تعمير عين الحلوة شمال شرق المدينة من جهة، وصيدا القديمة في الغرب من جهة أخرى. وحين ضاقت المساحة بأهلها المتكاثرين، شرع الصيداويون بإخلاء أحياء جديدة بين هذين الحدين والتمدد شرقاً باتجاه عبرا، لا سيما بعد أن نزح المسيحيون منها، فكان أن بنى أحمد الأسير مسجد بلال بن رباح في عبرا في هذا السياق. لن تكون مهمة إخراج «السرايا» من صيدا مهمة سهلة. المدينة تعتقد أنها قدمت أضحيتها، أي الشيخ أحمد الأسير وجماعته. الأسير هش في المعادلة الصيداوية، لكن «السرايا» امتداد لحالة اهتراء مديد، وحزب الله إذ قرر أن يستثمر فيها، إنما فعل ذلك كاستئناف لبدء قديم. قبل ان يُغادر الأسير... أو بعده لم تكن محاور قتال مكرسة وثابتة تلك التي قاتل جنود الجيش اللبناني على خطوطها أثناء هجومهم على مقرات أحمد الأسير في عبرا يوم الإثنين الفائت. فالجنود لم يكونوا على بيّنة من حدود القتال، وكانوا بعد أكثر من 24 ساعة من المعارك منهكين. الاشتباكات وإطلاق النار الكثيف الذي رافقها كان ظاهراً على وجوههم. في منطقة «كوع الخروبي» وهي الحزام السكني الخلفي لمربع الأسير الأمني كانت تصل تعزيزات لترفد الوحدات المقاتلة التي كانت تتقدم باتجاه المسجد. والجيش الذي كان تكبّد خسائر في اليوم الأول من المعركة، كان من الواضح انه غير ملم بخريطة محيط المسجد. الجنود في الخطوط الخلفية كانوا يسألون عما اذا كانت للأسير منازل في محيط انتشارهم. ورصاصات القنص الأخير التي أطلقها من تبقى في محيط المسجد من مقاتلي الأسير، كانت تثير ردود أفعال عنيفة من جانب الجنود، اذ كانوا يهرعون للرد عليها بكل ما أوتوا من كثافة في النيران. كانت المعركة في آخر مراحلها، وكان الجنود مرهقين، ومن كانت ترسلهم القيادة لاستبدالهم كانوا يتحسسون الجبهة من جديد حائرين، ورصاصة واحدة كانت كافية لاتخاذهم وضعيات قتالية وسط الصحافيين، والرد بإطلاق النار على نحو لا يشبه ردود أفعال الجيوش في لحظة من هذا النوع. كان من الصعب على ما يبدو الإحاطة بالجبهة من كل جهاتها، وربما هذا سهّل «خروج الأسير» مع معاونيه من المسجد، ذاك ان الخاصرة الشمالية لمنطقة القتال كانت مفتوحة على منطقة وادي علمان، وكان التجول في تلك المنطقة ممكناً للصحافيين كما لغيرهم، وهو ما يُفسر حقيقة ان الجيش لم يكن مستعداً لما جرى. وعلى نحو ما تحمل الحروب من مفارقات، حملت الحرب في صيدا مفارقاتها. فهذا رجل ملتحٍ «على نحو سلفي» يدل الجنود إلى مصادر اطلاق النار، وتلك عائلة مغادرة منزلها بعد يومين من الحصار والقتال، الأطفال غير هلعين، لكنهم حائرون بما يفعلون في سيرهم البطيء، وهذا جندي يُبلغ الصحافيين بأن الأسير غادر. وفي هذا الوقت يرتمي الصحافيون على الأرض بعد ان قام الجنود من حولهم بالرد على رصاصة قنص مجهولة المصدر.